المحتوى الرئيسى

في ودائع الأعلام.. الترابي والعلواني

03/09 15:29

غيّب الموت عَلَمَيْنِ كبيرين من أعلام وقادة الفكر الإسلامي والعمل الحركي والسياسي، وهما الأستاذ الدكتور/طه جابر العلواني، والدكتور حسن الترابي، رحمهما الله تعالى، وبهذه المناسبة أعزي نفسي وأعزي الأمة في فقدانهما، وكلاهما يمثل مدرسة فكرية خاصة، ومعلماً خاصًّا في تحوير وتشكيل الفكرة الإسلامية وتقديم الرؤى والأفكار التي تساعد في انعتاق الأمة وإخراجها من حالة الضباب والفوضى الفكرية والخفوت الحضاري، الذي طالما رزحت تحت وطأته منذ عقود وعقود..

نعم، لقد رحل نجمان ممن أسسوا مدرسة فكرية خاصة، ولا شك أن لكليهما بصمة نوعية على عقول وقلوب كثير من الشباب، وفي اعتقادي أن غياب شمس هذين العلمين إيذانٌ بأن جيلاً من أعلام الصحوة بدأ نجمه يألف وظهوره يختفي، في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى مصارحة مع نفسها وكشف صحي لذاتها، وتحتاج إلى كل صاحب فكر وصاحب إلمام بأمراض الأمة ومشاكلها والتي تتفاقم يوماً بعد يوم..

نعم، إن موت الكبار يحيّر الصغار، وأرجو ألاّ يؤدي إلى الانتحار لواقع الأمة المحتار. هذا الواقع المختنق بأشباح وكوابيس تعترض وخروجها من النفق الحضاري الذي يعيشه، ولذا أرجو أن تكون رسالة إلهيّة للجميع؛ كي نهتمّ بهذه الكوكبة المتبقية من الرعيل الذي صاحب تطور الصحوة الإسلامية من مهدها وما زال البعض منهم يكافح وينافح في نفس الميدان، وفي اعتقادي، وبكل تأكيد من أبناء الأمة ممن يستطيعون مواصلة سيرورة القافلة في طول العالم الإسلامي وعرضه، وجانب ما يقلق هو غياب استيراتيجية لاحتضان ما توصّل إليه هؤلاء من نتاجات فكرية وعلمية ومحاولة طبخها من قبل المختصين وإشاعتها وتمويلها لكي تصل إلى الجميع، علماً أن الأفكار النمطية للإسلام ما زالت هي هي المسيطرة في عالمنا الإسلامي، وهذا الاجتهاد الجريء هو الذي يحتاج العالم الإسلامي اليوم في ظل ما تمرّ به من اختناقات عالمية فكرية وسياسية واجتماعية.

وفي اعتقادي أن ما يميز هذين العلمين والصفة التي تجمعهما هي الجرأة والشجاعة في طرح القضايا الإسلامية من منطلق أن كثيراً من قناعاتنا الدينية ليست مُسَلَّم بها، وإنما هي في معظمها نسبية، وأعتقد أن الشيخ العلواني هو أحد من أطروا في المناهج والبرامج الإسلامية ودرسوا المادة الإسلامية من الزاوية المعرفية المؤطّرة، وحاول تشريح أزمة التعليم الإسلامي، والأسباب التي أدت إلى تقديم هذا الوجه غير المُرْضِي، فحاول هو وزملاؤه في المعهد العالمي للفكر الإسلامي تقديم رؤى تساهم في ردم الهوة بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية، أو الكونية واستطاع أن يصلوا إلى وضع الإصبع على جرح الأمة الغائر، وقبل ذلك استطاع أن ينبّه الأمة في كتابه أدب الاختلاف في الإسلام، وأن تتجاوز خلافاتها الفرعية للوصول إلى بناء منظومة حضارية، وأن تخرج من قيودها الفكرية والعقلية التي تكبّلها، واستطاع أن يقود هذا الهمّ الحضاري مع زملائه واقعاً عبر منشورات المعهد، وصولاً إلى إنشاء مجلة إسلامية المعرفة وإلى الجامعة التي ترأسها في أميركا، إلى جانب المحاضرات العامة واللقاءات والمقالات والكتب التي ألفها في هذا المجال، فحقيقة لقد ترك الرجل بصمة واضحة في العقلية الإسلامية وقدم آراء رائعة في الفقه الحضاري.

العلواني وراء تأليف كتابين لعالمين آخرين

ويقيني أنه من شجع الشيخين (الغزالي والقرضاوي) في كتابة كتابيهما.. "كيف نتعامل مع القرآن؟". وما كتباه أيضاً في "كيف نتعامل مع السنة؟".. وكان القرضاوي دائماً يأتي بعد اللغط الذي يحدثه الشيخ الغزالي في كتاباته ليؤطّر ويحوّر ويمحّص ويدقق أكثر، علماً أن للشيخ القرضاوي من أدوات العلم ربما ما لا يستخدمه شيخه الشيخ الغزالي، فكتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، الذي أثار جدلاً في العالم الإسلامي وقتها، فكل ذلك كان بإيحاء وإشارة من الدكتور الراحل/طه جابر العلواني.

الترابي لم يكن مفكراً فقط

أما الدكتور/حسن الترابي، فهو أحد أعمدة السياسة في السودان، فإلى جانب نشاطه الفكري، إلا أنه مارس السياسة واقعاً ومعاشاً، ويعتبر مع كل ذلك أكثر المفكرين المعاصرين في كسر القناعات الإسلامية المعروفة في قضايا الردة والمرأة والنقاب والزواج من الكتابي وإمامة المرأة للتراويح.. وغيرها من القضايا التي طرحها وبكل جرأة، قد نتفق ونختلف معه في بعض ما توصل إليه اجتهاده، ولكن يبقى أحد الذين قاموا بترشيد الصحوة وتجديد الفكر الإسلامي، وحتى كتابه أصول الفقه من أحسن ما ألف في موضوعه، وتفسيره التوحيدي يرجع على الرؤية الشمولية للإسلام.. ويتميز الترابي عن غيره أنه هو الإسلامي الوحيد الذي تجرأ على مخالفة الحركة الإسلامية وانسحب لتأسيس حزبه حزب المؤتمر الشعبي في السودان، وكانت هذه الخطوة جريئة أن يسعى أحد أبناء الحركة الإسلامية لإنشاء حزب سياسي بنفسه، وأصبح له بعد ذلك مناصروه ومؤيدوه، وهو الذي اتهم حكم/البشير بأنه ديكتاتوري واستبدادي وعسكري، والأمة ما زالت تشتكي من الأنظمة العسكرية وإلى الآن، واعتُبر منذ الانقلاب في السودان العدو الرقم الأول، وهذا اكتشف لنا الوجه القبيح لهذا النظام السوداني الذي يعتقل شيخاً لا يملك إلا لسانه وفكره فاعتقلوه وسجنوه، وقد ساهموا -وبلا شك- في اغتياله معنويًّا ونفسيًّا عبر الاعتقالات المتكررة له، ووضعه بعد ذلك في إقامة جبرية، وخاصة في اتهامه أن حكم البشير هو الذي أدى إلى تقسيم السودان ولم يراعِ الظلم الواقع على شعب الجنوب..

وفي اعتقادي أن الترابي هو الذي يؤمن بفكرة الحرية والديمقراطية من غيره من المفكرين، وربما هذا كان سبب خروجه من التحالف الذي أدى للانقلاب في أواخر الثمانينيات.. فقد كان يرى أن تتبنى الحركة الإسلامية الحرية الفكرية والعقلية بالمفهوم الغربي، باعتبار ذلك أرقى ما وصلت إليه البشرية، وحاول أن يلعب على توسيع نطاق الحرية حتى لامس بعض القواعد مثل قوله بأن الحجاب كان واجباً على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وربما سلك هذه المنعرجات بسبب طغيان الردود التي كيلت ضده، وهذا يمكن تقريره في كثير من الدعاة والمفكرين والكتّاب، كما أن الترابي هو أحد الذين حاربوا الفكر الكراماتي حيث يسعى بعض المتصوفين في استغلال العوام، فهو لم يكن من الشخصيات السهلة. أضف إلى ذلك أنه ساهم في كتابة الدستور السوداني، إذ يعتبر أحد فقهاء الدستور ليس في السودان فقط، وإنما في العالم كله.

فأرى أن ندرس هذه الظواهر العلمية التي أنتجتها الأمة وأنجبتها، فكل هذه المعارك الفكرية في الأمة يعتبر إثراء وغناء للعالم الإسلامي وأعتقد أن الأمة كما احتضنت المذاهب الأربعة وغيرها، حري بها أن تتمكّن من احتضان هؤلاء أيضاً، رغم الاختلاف الواضح بين هذه المدارس والمشارب المختلفة..

أعتقد أن الأمة فقدت جبلين من أعمدة الفكر الإسلامي، كما ذكرت في إحدى تغريداتي، ممن كانت متابعتهما لها طعمهما الفكري الخاص، والإثراء الإشعاعي لوعي وضمير الأمة، نعم لقد غاب النجمان لكن لم يغب قط ولن يغيب المنحى الفكري الذي رسماه للأجيال القادمة من أبناء الأمة وإلى دراسات أخرى..

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل