المحتوى الرئيسى

المفكر الإنسان!

03/09 15:29

زكي نجيب محمود (1905-1993) مفكر جبار ترك ثروة فلسفية وأدبية، تُعَدُّ من مآثر الثقافة العربية المعاصرة، قضى عمره كله في محاولة التوفيق بين متطلبات الحداثة ومقتضيات الأصالة، وفي التمييز بين المعقول واللامعقول في تراثنا العربي والإسلامي، وأتاحت ترجماته للقراء فرصة التعرف على (خرافة الميتافيزيقا) و(الوضعية المنطقية) واطَّلعوا على روائع الموسوعة الخالدة (قصة الحضارة).

في كتابه (قصة عقل) صرح بأن الأفكار لا قيمة لها إذا لم تشعل جدلاً صاخباً يستفزُّ العقل ويحرضه على اكتشاف الوجوه المتعددة للحقيقة، وألف كتابه (الشرق الفنان) ليكون بمثابة "مخطط تفكير" لتجديد منهجي بأسلوب موجه يساهم في التقريب بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، كما منح قراءه متعة الإبحار عبر ثقافات الشعوب في كتابه (قصة الأدب في العالم) وأودع آراءه الفنية في كتابه (أيام في أميركا).

وهو أول مفكر عربي لفت نظر مريديه إلى محورية "الإنسان بآلامه وآماله" في جميع المدارس الفلسفية المعاصرة باتجاهاتها الأربعة، ويقصد بالاتجاهات الفلسفية الأربعة: النظريات التحليلية -ظهرت في بريطانيا- تهتم بفلسفة العلوم وطرائق التفكير العلمي، والمدارس البراغماتية -اشتهرت في أميركا- تؤكد أن المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة وقيمة الفكرة تتحدد بمنافعها العملية، والمذاهب الوجودية -انتشرت في غرب أوروبا- تركز على فردانية الإنسان وحرية إرادته ومسؤوليته الشخصية عن تحديد مصيره، والأفكار المادية -تغلغلت في أوروبا الشرقية- تعتبر أن الوعي انعكاس للمادة، وطرائق اكتساب المعيشة هي ما يحدد أنماط التفكير السائدة.

ويلاحظ القارئ لكتبه إصراره على الربط بين الطابع النظري لأفكار المثقفين، والتأثير الفكري الذي يحدثونه في مجتمعاتهم، فمثلا: تكيف المجتمع مع الطغيان السياسي وغياب ثقافة حقوق الإنسان يقف وراءه تنظير فكري يمارسه كتاب ومثقفون، فالحساسية تجاه وضعية الاستعباد تبدأ بالوعي والمقارنة -التي تعتبر من واجبات المثقف الحقيقي- وتنتهي بالمطالبة والكفاح، والسعي إلى الكمال حاجة إنسانية اجتماعية يترجمها المثقف بممارسة التفكير النقدي لردم المسافة "اللامرئية" بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون.

طغيان النزعة التنويرية لدى فيلسوف الإنسان زكي نجيب محمود ظهرت في أبهى تجلياتها في كتابه الرائع (بذور وجذور) حيث قام بإجمال العوائق الفكرية التي تحول بيننا وبين الانخراط في تيار الحداثة والتنوير في خمس بذور:

البذرة الأولى تمثلت في "هوية تحطمت عناصرها حتى فقد الفرد انتماءه"، والبذرة الثانية تجسدت في "فهم خاطئ للإنسان أخرجه من مدار العقل ووضعه في أفلاك اللامعقول"، والبذرة الثالثة يمكن ملاحظتها في "ثقافة بلا غاية ابتلي بها المبدعون، فانعكس هذا التيه على المستهلكين"، والبذرة الرابعة توجهت إلى التراث "الذي جعلناه همًّا بالليل ومشغلة بالنهار، لأننا أخطأنا تحديد البؤرة التي يجب أن يتجه إليها البصر"، وكانت البذرة الخامسة في طريقة استخدامنا للغة في حياتنا الفكرية "إذ تحولت على أيدينا إلى أداة لا تؤدي، وكان الأساس أن تكون أداة توصيل من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ".

يشير زكي نجيب محمود في كتابه "عربي بين ثقافتين" إلى أن ثقافة الإنسان ليست للتباهي والتفاخر، وإنما هي وسيلة لإنجاز تغيير حضاري على أرض الواقع، وقام باستحضار أهمية الانفتاح على الآخر، عن طريق استدعاء عوامل النهضة في العصر الذهبي الإسلامي، التي بدأت مع تأسيس بيت الحكمة في زمن العباسيين، ومقارنة ذلك بحركة الترجمة التي دشنها الشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر إبان عصر النهضة.

وشدد على أن "العروبة" ليست دالة على عرق أو إثنية، وإنما هي مركب ثقافي ينضوي في جوهره على موقف من الكون والوجود يميزه عن غيره من الثقافات الأخرى؛ يقول زكي نجيب محمود: "إن الشاعر العربي في أعماقه متعلق بالمثال المجرد لا بالمثال الجزئي مما يرى على الأرض، وذلك استلهاماً لديمومة الحقيقة الصحراوية التي تحيط به، فهو مؤمن في حياته الفنية كما هو مؤمن في حياته الدينية بأن (كل من عليها فانٍ)، إنه يتكئ على هذه الواقعة الجزئية؛ لينفذ منها إلى ما هو أقرب إلى المثال الأفلاطوني في الموضوع الذي يعالجه".

وعندما أحس زكي نجيب محمود بدنو أجله بعدما بلغ الخامسة والثمانين من عمره، قرر أن يكتب كتابه "حصاد السنين" ليقدم صورة موجزة للحياة الفكرية التي عاشها، وليكون -كما يقول في مقدمة أحد فصوله- بمثابة "تغريدة البجعة" التي تصدر حال احتضارها أنَّات منغومة تطرب لها آذان البشر!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل