المحتوى الرئيسى

مارسيل خليفة: العشق فعل مقاومة

03/09 01:57

قبل أكثر من شهر ونصف الشهر، وفي بلدة البترون الشمالية، اتفقنا على هذا اللقاء، مارسيل خليفة وأنا. في تلك السهرة «تعاتبنا» قليلا. بالأحرى «تصافت القلوب»، كما نقول في لغتنا العامية. أعترف: كنت أنا من كتب شيئا «ضدّ» مارسيل خليفة. بالأحرى لم أكن معه في أشياء كثيرة. لكن في تلك السهرة، قدّم كلّ واحد منّا، وجهة نظره إلى الآخر، في ما يجري من أحداث تلفنا. لم يكن علينا بالطبع أن نكون على رأي واحد لا في السياسة ولا في الموسيقى مثلا. ولكن كان علينا – كـ«راشدين» على الأقل ـ أن نجد صيغة مشتركة للتفـــاهم. صيغة تخرج من الحدث «الآني»، لتعيد صوغ بعض الأشياء الكـثيرة التي تجمعنا.

قال لي مارسيل يومها، إنه انتهى من عمله الجديد «أندلس الحب». هو «غنائية» (لمدة ساعة تقريبا) ستصدر في آذار (الحالي)، في ذكرى ميلاد محمود درويش الخامسة والسبعين. اختار لقصيدة «يطير الحمام، يحط الحمام» هذا العنوان الوارد في مقطع من القصيدة التي يقول فيها درويش: «رأيت على الجسر أندلس الحب والحاسة السادسه/ على وردة يابسه/ أعاد لي قلبها/ وقال: يكلــــفني الحبّ ما لا أحب». دفعني «حسي الصحافي» أن أطلب منه حوارا حول عمله الجديد هذا الذي يوقعه (نهار الجمعة المقبل في 11 الحالي، بدءا من السابعة مساء في «فيرجين ميغاستور»، وسط البلد). لم يمانع. قال: «شَرطي» الوحـــيد أن نتحدث عن الموسيقى والشعر والفن، بعيدا عن كلّ الأحداث السياسية. وافقته بدون تردد. قال سأتغيب فترة عن لبنان، وحين أعود أتصل بك. وهذا ما حصل.

قبل يومين، وبعد عودته من سويسرا، حيث قدم حفلا مع ابنيه رامي وبشار، اتصل لنحدد موعدا. التقينا البارحة في أحد الأماكن التي لم أزرها من فترة بعيدة. وفي الركن الذي انتبذناه، بدأ حديثه عن «الحب». بالتأكيد، لم يكن يخشى أن أخلف بوعدي وأسأله عن أشياء أخرى. فقط هي تحية لمحمود درويش الذي كان يرغب دائما، في أن يكتب مارسيل لهذه القصيدة، موسيقى لها. المشروع يرى النور اليوم، وسيكون متاحا لمن يرغب في الاستماع إليه.

لِمَ الحب، الآن يا مارسيل؟ يقول: «الحلّ هو الحب في هذا العالم الوحشي. يأتي الحب كزهرة تطلع من بين الأنقاض. من العيش في الخوف والقتل والدمار والحرب والبشاعة ينبثق هذا العمل، لأنني لا أريد أن أستسلم للوحوش الكاسرة، ولا لأي وحشية، ولا أن أقضي بوحشية أفظع هي وحشية الزبالة. ولا للغة الموت ولغة التاجر ولغة السياسي والزعيم والحزب. أتجرأ على المقدسات القاتلة لأفتح باب التمرد بمزيج من الموسيقى والقصيدة والغناء، بمزيج من الآفاق والألوان». يستسلم مارسيل لنشيده الداخلي كي يضيف: «أنا مؤمن بالحب مع أن هذا العالم يسحقه. أنا إنسان أحب. ومنذ البداية كانت قضيتي هي الحب. أعترف بالحب مع أن هذا العالم يعيش في حرب ضروس».

هل هو الشعر إذًا الذي ما زال يشغله منذ أكثر ثلاثين عاما؟ ليس هذا وحده فقط: «الشعر، الفن، الحرية، الطيور، وقلق الإبداع. هذا ما يشغلني، ولو أن مساحة وطني صغيرة، ولكنني حاولت أن أوسعها بالتجوال والسفر اللذين لم ينقطعا منذ 30 عاماً أو أكثر. ذهبت إلى كلّ القارات وقلت لهم إنني من هنا. حاولت أن أعزز قيمة إنسانية مستهدفة. قيمة الحرية والاعتراض. واليوم بالذات لا أريد أن تموت الصياغة الروحية اللامتناهية السخاء».

هذا الصوغ الروحي، الجديد، يأتي اليوم مع «أندلس الحب»، عمله الجديد الذي يفتح فيه آفاقا واسعة للعمل الموسيقي والشعري. عمل يصفه بالقول: «هو الغزل الصارخ، بعيداً عن الوطنية التقليدية كشلح الأرزة مثلا أو صرخة أو نشيد». ويضيف: «غزل شفّاف على صفحة القصيدة والموسيقى المرتعشة والغناء الحميم والإيقاع الصادح. ساعة شعرية وموسيقية مشتعلة، واحتراق الذات بتجربة الحب. لم أستعمل لغة القصيدة لأجنّ بل لعل الحب والموسيقى أيضاً هما جنون مع قلب الحياة. لقد (شدّيت) وتر العود ليعتصر حباً وصلاة. ليس ترفاً ما فعلته مع (أندلس الحب) ولا نظرة هامشية إلى الحياة، بل وسيلة خلاص من هذه الوحشية الدائرة في كل الاتجاهات».

صحيح أن قصيدة درويش هذه صدرت العام 1984 (في ديوان «حصار لمدائح البحر»)، إلا أن العمل عليها، جاء متأخرا. جاء قبل وفاة الشاعر، الذي كان يرغب في سماعها. وهو المتشوق لهذه التجربة. إلا أنها الحياة. حياة تنساب أحيانا من بين الأصابع، ولا تستطيع أن تقبض عليها. في أي حال، وكتحية لدرويش، غنّى مارسيل مقطعا منها، حين وصول نعش الشاعر من أميركا إلى الأردن، قبل أن يوارى في الثرى في الأرض المحتلة. يومها وقف مارسيل واستعاد هذا المقطع: «أنا وحبيبيَ صوتان في شَفَةٍ واحدهْ/ أنا لحبيبي أنا، وحبيبي لنجمته الشاردهْ/ وندخل في الحُلْمِ، لكنَّهُ يَتَبَاطَأُ كي لا نراهُ/ وحين ينامُ حبيبي أصحو لكي أحرس الحُلْمَ/ مما يراهُ».. بهذا المعنى، هل وجد خليفة، في تجربة درويش في هذه القصيدة، أي تقاطعات مشتركة، خاصة؟. يقول الفنان إن «(أندلس الحب) تنطوي على معاناة حقيقية مع تجربة الحب. حملتني المعاناة والعيش في قلب الحبّ إلى إطاحة أشكال القوالب الغنائية والموسيقية العربية والخروج بعمل ذي نكهة لتجربة شخصية عندي وعند الشاعر في آن.. ثمة تعب في هذه التجربة، إذ من قلب الموسيقى ينبض الحب ويصبح قصيدة وأغنية وشكلاً من أشكال الخلق الذي لا يموت». من هنا، يرغب في أن يكون العمل «مساحة روحية لا محدودة. كل عمري أبشّر بالحب عبر ما قدمته من موسيقى ومن أغانٍ. وهذا العمل لكلّ الذين (صلبونا) ولكلّ الذين أحببناهم بصدق خالص غير مرتبط باليومي».

من يستمع إلى مارسيل خليفة وهو يتحدث عن عمله الجديد، يدرك رأسا كم هو مهجوس به. عاش معه لسنوات طويلة قبل أن يطلقه. «أحببت أن يكون هذا العمل أطرى من «نسيم الريح» في المرارة التي نعيشها. وفي السأم أيضاً. أعتبر أن هذا العمل ربما سيعيد زمن الحب. زمن التمرد والحرية المتجرئة على السائد وعلى التراث وعلى الآلهة والأسياد الذين (فلقونا) بتحجرهم ووحشيتهم».

هو سعي إذًا إلى غناء بديل في «أندلس الحب»؟ هو «أيضا سعي إلى غناء نقيّ، معافى، ممتلئ بماء الحياة ودافئ بمشاعر النفس الداخلية العميقة. يُحرّض على الجمال ولا يخاطب فينا رغوة الغرائز السهلة الرخوة، إنما يتوجه إلى كل حواسنا فيشبعها ويخصبها ويخاطب فينا الرغبة من أعماقها ويخاطب الحنان من جذوره». لهذا، وبعد توقيع العمل الجديد، يعتبر خليفة أنه « سيخرج مني حتى يغدو لحاله. كل مستمع سيأخذه على هواه ولا أستطيع شيئاً حيال ذلك. فيصبح مشاعاً للجميع. أقف امام العمل وأمام المستمع من بعيد».

كأن ثمة مسافة أتاحت لمارسيل أن يقف اليوم أمام تجربته التي امتدت لسنين عديدة في التأليف والعمل الموسيقي. مساحة تجعله يعيد التفكير بأشياء كثيرة كي يختار ما يريد. «أنظر في داخلي وأنظر حوالي وأرى ما تراه من وحشية في دواخلنا ووحشية علينا. لهذا ربما يقال إن الوقت غير ملائم لغناء الحب، لأنه وقت الحروب والمصير وما شابه. أعتقد أننا لا نستطيع أن نؤجل الحب من أجل الحرب والبطولة. لست مع فكرة الذهاب مع العسكر إلى الجبهات وفي الوقت عينه نجدنا نستخف بالقضايا الإنسانية التي هي عن حق قضايا جوهرية. وكلما أهملنا الحب ازدادت مشاكلنا وحروبنا».

لن اخنق وجه الحب من أجل إرضاء موقف ما. لم أكن اريد أن اصدح بالنشيد فقط واخنق حنجرتي في المقامات الموسيقية. ومع جمالاتها هائم بحرية اختياري غير متملّق أو مستجدٍ التصفيق. أحمل مع داخلي شهوة مستحيلة لأجعل وجه الحب حبا إلى الأبد. ربما سيُزَوِّد «اندلس الحب» خصومي بمزيد من الاغتيال المعنوي الشائع عندنا مع ثقافة الكراهية. ربما سيقال كما قيل عندما كتبت الموسيقى الخالصة إنني تخليت عن القضية».

في جملته الأخيرة هذه تبدو «الإشكالية الكبيرة» التي نتوقف عندها أمام عمل مارسيل خليفة. ربما لأن كثيرين منّا ما زالوا يرغبون في وضعه ضمن إطار أغانيه الأولى، التي شكلت ذاكرة ما. من هنا، نتناسى أحيانا كلّ هذا العمل الموسيقي الكبير الذي قدمه. يقول: «سأعترف أمام المتجهمين بأنني – ومنذ البدايات – تخليت عن أي تلميح عن السياسي المباشر المحدود الدلالات في الإبداع، من دون أن أتخلى عن مفهوم المقاومة الجمالية، لأن على الموسيقى والقصيدة أن تتغيّرا باستمرار وأن لا نتوقف عن تطوير أدواتنا الفنيّة»، لهذا، وكما «صرخت للوطن مع (تصبحون على وطن) سأهمس كالطيف مع (أندلس الحب)».

هل ينفي مارسيل خليفة بكلامه هذا أي علاقة له «بأيديولوجية» ما؟ لا يمانع من القول إن «الأيديولوجيا رافد معرفي مهم، يمكن مصادقته في بعض مراحل الإنسان. الفنان معني بهذا الرافد الحيوي شريطة ألا يكون (دوغما). المشكلة أن تتحول الأيديولوجيا إلى خطاب فج في العمل الفني؛ الحرية الفكرية شرط لازم للحرية الفنية». ويضيف: «أتطلع إلى جماليات حيّة لأقاوم البشاعة بالجمال. لم أُغرِق أغنيتي بشعارات، ولكن بتطوير أشكال التعبير عن الجوانب الإنسانية، بتطوير جماليات النغم والإيقاع والإبداع. المبدع ناقد للواقع لا مثبت له، ولأنني أكتب بحب، يصل ما أكتبه للمستمع».

تبدو تقاطعات مارسيل خليفة اليوم وكأنها أوصلته إلى فضاء لا يريد غيره: «لا أريد الحرب، ولا أريد الأرض. أريد الحب». قد تبدو جملته صادمة للبعض. ومع ذلك، فخلاصاته الراهنة هي التالي: «لن يبقى إنسان إلا الأكثر حباً. لن يبقى إنسان إلا الأكثر جمالاً. ولن يبقى إنسان إلا الأكثر قدرة على تحرير الآخر من التفاهة والعذاب والشقاء والخوف بواسطة الحب». بدون شك، تمارس المناخات العامة التي نعيشها، جزءا من هذه (الاستنتاجات) التي يفكر فيها صاحب «وعود من العاصفة». ربما لأننا «نعيش في عالم، يفقد فيه الإنسان، الأمل بشكل يومي وساحق في غياب العدالة والحرمان من الحريات والحقوق. كل ذلك سبب في هذه الانهيارات والانفجارات والتعصب الديني والانحطاط الحضاري الذي نتدهور فيه منذ سنين. لا نستطيع أن نكافح هذه الظواهر العنيفة بعنف آخر. العنف ليس حلاً. لا نستطيع ان نمحو الدم بالدم. العنف الأصولي، العنف السلطوي والعنف الدولي هي خطأ كوني وتاريخي كبير. ماذا ينفعنا أن نصبح رؤساء جمهورية أو عصابة وملوكا وآلهة وقلوبنا جائعة؟ ما لم تتحرر رغباتنا لن تتحرر عقولنا. قد نربح الحرب أو نخسرها، لكننا سنربح ونحن مشوهون ومهزومون».

قد تكون الثورة التي يرغب فيها خليفة اليوم هي «الثورة من أجل ممارسة رغباتنا بحرية. ثورة ضد الكبت والتعصب الطائفي والعائلي والعشائري والحزبي. فالثورة السياسية ليست مفصولة عن الثورة الروحية. الثورة كل لا يتجزأ. نجمع الخبز والورد في جسم واحد. لقد أفسدوا عقولنا وكبتوا فينا رغباتنا وحقنونا بعقدة الذنب والندم وأقنعونا أن الحب ألم وخطيئة، وأن الإنسان أُعطِي الرغبة لكي يخنقها». هل لهذا يعتبر أن كل الثورات «قد فشلت لأنها لم تحمل في طياتها «نور الحب»؟

في أي حال، يكتب مارسيل خليفة الحب اليوم، لأن «الحب الحقيقي هو ثمرة الحرية الإنسانية الكاملة». وهو بذلك يصغي إلى «نداء الجسد، وإلى نداء الروح كي لا تموت. إن استيعاب الموسيقى والشعر لقوة الحب فينا هو فعل مقاومة». ففي هذا العالم الذي نعيشه، على قوله: «ما من مشاريع فوق مستوى الشبهة، ما دامت هي مشاريع تصاغ في ظلام غرق المؤسسات؛ فهي مؤامرات قيد التنفيذ. يراد لنا الاعجاب بها وتبنيها والامتثال لها. من حقنا أن نكون جزءا من هذا المشروع مشاركين في صياغته متمتعين بحق النقد، وعندما يتحقق شرط نقضه وتلغى التبعية والرد والوأد بكل صورة، وتُطلَق العدالةُ الإنسانية، ساعتها يمكننا الحديث عن المشاريع الاجتماعية والسياسية في وضح النهار بصدق وبلا نفاق».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل