المحتوى الرئيسى

ننشر الفصل الثالث من رواية “بعد الحفلة”.. لـ يحيى الجمال

03/08 10:19

في ضوء البلاك كالفادوس الخافت وقف علي وحده أمام البار يشرب كأسا من الفودكا البلفيدير. الكأس تلونت بألوان النيون المختلفة من أزرق إلى أصفر المنبعثة من أركان القاعة. وقف إلى جانبه شاب في منتصف العشرينيات نصف أمريكي ونصف فرنسي، يدعى إدجار ويدير المكان. تعرف إليه عن طريق أصدقاء مشتركين له من مصر كانوا يعرفون إدجار من خلال إجازاتهم في جنوب فرنسا حيث كان يدير بارًا في بلدة جوان لوبان قبل أن يستقر في باريس.

استدار علي من البار بحركة عفوية عندما فُتح الباب ليرى فتاة فارعة ممشوقة القوام تميل إلى النحافة، تتقدم إلى البار وتنظر إليه. كانت ترتدي بنطلون جينز مقطعًا من عند الركب وتي شيرتًا أسود دون أكمام وقبعة سوداء غطت جزءًا من عينيها المسحوبتين لفوق وتركت إسدالة من شعرها الكستنائي القصير تظهر. تبع الفتاة شاب آخر فارع الطول شعره أسود طويل يقع على أكتافه ويرتدي قبعة سوداء أيضًا. لفت انتباه علي تشابه منظريهما ونظرات الاستهتار التي ترتسم على وجهيهما المتشابهين. ظن علي أنهما ليسا فرنسيين. ربما أمريكيان.

كان المكان حالك الظلام إلا من بعض الأضواء الفوسفورية الزرقاء، وموسيقى الديب هاوس بإيقاعها القوي السريع تجعل الحديث شبه مستحيل.

فوجئ علي بالوافديْن يقتربان منه ليلقيا السلام على إدجار، ثم نظرت إليه الفتاة فهز علي رأسه وابتسم لهما. عرَّفهما إدجار بـ”آن” و”كيڤين”، ثم عرف علي بـ”صديقه من مصر”، فظهر عليهما الاهتمام وسألته الفتاة بلكنة أمريكية كاليفورنية خالصة “انت عايش هنا؟” فسارع علي بالإجابة “أيوه بقالي شهر هنا… جيت أخلص رواية باكتبها”. ندم علي أنه سارع وتطوع بوصف ما يفعله في باريس ولكن اهتمام الفتاة زاد – كانت لأول وهلة تبدو لعلي هي وصديقها كأنما يخرجان من فيلم مصاصي دماء بوجهيهما ناصعي البياض ونظرتيهما الفارغة من كل شيء إلا مسحة حزن ثابتة لا تتغير.

بدا وكأن هناك هالة تغطي كليهما تجعلهما غير قابلين للاقتراب، ولكن سرعان ما بدأت هذه الهالة تذوب تدريجيًا (على الأقل من الفتاة آن التي بدت مهتمة بـ”صديق إدجار المصري” كعنصر مختلف ربما عما تقابِل معظم الوقت في باريس)، بينما انشغل صديقها بالنظر إلى الزبائن الآخرين وبعض عارضات الأزياء اللاتي أخذن يرقصن في أماكن مختلفة من المكان.

سألته وهي تنظر إليه بعينين بدتا له لوهلة كأجمل شيء وقعت عليه عيناه في المكان، عينين لا تختلفان عن شعرها الكستنائي الذي أزاحته بحركة تلقائية ورفعته من فوق عينيها ربما كي لا يكون هناك حاجب بينها وبينه.

ورد إلى علي أنها قامت بهذا من أجله فقط فاغتبط وأحس لأول مرة منذ حضر إلى المكان أنه موجود بالفعل.

روايتك عن إيه؟ والّا ما تفضلش تحكي عنها قبل ما تخلصها؟” سألته برقة منتهاه، ثم أضافت بكل بساطة “أنا لو مكانك يمكن كنت حافضل ما أتكلمش عنها قبل ما أخلصها”.

“لا أبدًا ممكن أديلك فكرة” أجابها علي بابتسامة مرحِّبة “بس ناخد شوط تيكيلا الأول…. إيه رأيِك؟”.

طلب علي من البارمان أربعة شوطات من التيكيلا، فبعد أن وصلت إليه باقي العمولة منذ أيام كان يظن أنه يستطيع أن يعيش كالملك في باريس.على الأقل لبضعة أسابيع سيعيش حياته التي عاشها قبل أن يفقد كل شيء في مصر.

بعدما قام علي وأصدقاؤه الجدد بطرق الأكواب الصغيرة بعضها في بعض والصياح “تشيييرز” وارتسام علامات القرف المعتادة بعد التيكيلا التي تتبعها ابتسامة بلهاء، سارع علي باستكمال حديثه مع آن “الرواية بتتعرض للتهميش اللي حصل في مصر لجيلي من سنة 2000 عن طريق المخدرات الحكومة كانت بتشجع الشباب بشكل غير مباشروعن التغييرات اللي حصلت بعد حرب العراق”.

حاولت آن أن تبدي اهتمامها من خلال تضييق حاجبيها تعاطفًا مع ما يقوله، ولاحظ علي ذلك “لماذا أحكي لها عن تهميش جيل وهذا الحديث غير المناسب مع المكان؟” فقرر على الفور أن يقطع موضوعه “وأنت احكيلي بتعملي إيه في باريس؟”.

نظرت إليه آن بعينيها الضيقتين المسحوبتين لفوق وأجابته بلكنتها الكاليفورنية “أنا وكيڤين بنشتغل مع چون جاليانو. بنطلع معاه في ديفيليهات من وقت للتاني. بقالنا سنتين في باريس”.

بينما كان كيڤين مشغولا بالحديث مع إدجار تساءل علي عن طبيعة العلاقة بينه وبين آن. تبادل كيڤين النظرات ذات معنى مع الفتيات اللاتي كن يمرُرن أمامهم على البار. ربما هناك علاقة مفتوحة بين الاثنين لأن علي لم يكن لديه شك أن آن مهتمة به وإلا لكان أحس على الفور أنه غير مرحب به وانسحب من البداية، وتساءل لماذا عيناها لا تغادرانه وتنظران إليه بكل هذا الاهتمام؟

لم تطل تساؤلات علي بعد أن مدت إليه يدها بورقة صغيرة مقفولة على شيء لم يتبينه وسألته بكل هدوء “تاخد مولي؟”.

ازداد شعور علي بالغبطة لظهور”الم دي إم إيه” داخل مكونات الليلة، لأنه يعلم أن الحب سيصبح غير مشروط، والحاجة إلى الكلام شبه منعدمة. مجرد أحاسيس تتطاير عبر الأثير لتحدد كل شيء دون أن يتدخل هو أو هي.

إيقاع الموسيقى اجتاح كل شيء. المكان والأشخاص أصبحوا لدى عليٍّ مجرد جزء من الإيقاع لا أكثر، والابتسامات أفضل طريقة للتواصل. فجأة تحول كيڤين الذي كان يبدو في البداية كشخص منزوٍ، إلى إنسان ودود، وكذلك الفتيات الفارعات الطول اللاتي كان جمالهن يشكل حاجزًا بينه وبينهن حتى لحظات مضت، أصبحن يتبادلن النظر معه، وبعضهن اقتربن منه أكثر من أخريات إلى درجة الملامسة عند مرورهن بشكل يبدو غير متعمَّد.

لم تبرح آن مكانها إلى جانبه. بدت سارحة في أفكارها معظم الوقت. تخفي عينيها تحت إسدالة شعرها ثم تحركهما بيدها لفوق جبينها تحت قبعتها فتقابل نظرتها علي، الذي بدأ يفعل نفس الشيء تقريبًا، حتى أصبحت متعته أن يدير وجهه لفترة عنها حتى يحس أنه افتقد العينين الضيقتين في نفس اللحظة التي تحس هي فيها بنفس الشيء. لم يدرِ كم مر من الوقت وهو في هذه الحالة من اليوفوريا الخالصة. توقف الوقت داخل البلاك كالفادوس وكأنه داخل الخرم الأسود للكون حيث يمكنه تجاوز الزمان والعودة به للوراء إن أراد. لم يعد لأي شيء في الخارج وجود. حياته السابقة لم تعد موجودة. انحسر عالمه في عيني آن ونظرتها الحزينة الغامضة التي تعكس أحيانا ترحيبًا به وتبدو في أحيان أخرى خائفة من نظرته القوية… فاجأته آن عندما توجهت لـكيڤين وجذبته من ذراعه مشيرة برأسها تجاه باب الخروج، ثم عادت في مكانها إلى جانبه وهمست في أذنه “رايحين بار للأبسينت في الحي الـ 12، كيڤين حيلعب فيه ساكسوفون مع فرقته.. تحب تيجي معانا؟”.

قالتها له بنبرة لا تدع مجالا للرفض ولم تتأخر موافقته بإيماءة “ياللا بينا”.

وقف بار مان “كباريه العدم” وخلفه عشرات من زجاجات الأبسينت بألوانها المختلفة فوق أرفف خشبية معلقة بسلاسل من حديد مربوطة في السقف العالي. إضاءة المكان كانت باهتة لدرجة تثير الدوار قبل اللجوء حتى للأبسينت.

لم يتذكر علي أنه دخل مكانًا كهذا طيلة حياته. كل شيء في هذا المكان ينتمي إلى ما قبل الحداثة. بدءًا من البار مان ذي الشعر القصير واللحية الحمراء الذي يشبه ڨان جوخ كنقطتين من الماء (حتى إن علي استرق النظر إلى أذنيه ليتأكد أنهما موجودتان في مكانهما).

كمّ زجاجات الأبسينت المتراصة بألوانها المختلفة ونسب الكحول المختلفة داخل كل واحدة لم يكن الشيء الوحيد الذي استوقف علي. كانت هناك صورة بالأبيض والأسود لفتاة في الركن إلى جانب البار ترتدي زيًا كأزياء الممرضات اللاتي كن يعتنين بالجنود في مستشفيات فيردان الميدانية خلال الحرب العالمية الأولى.

الفتاة كانت آن.. نعم هي آن بالضبط، حتى إنه أخذ يبدل عينيه بين الصورة وبين الفتاة المستغرقة في أفكارها وهو يعجز أن يصدق ما تنقله إليه عيناه، ولكن الصورة الفوتوغرافية تنتمي بما لا يدع مجالا للشك إلى بدايات القرن الماضي. الرداء الأبيض وطبيعة الألوان المطفأة. وبينما هو يبدل عينيه بين الفتاة على الحائط وآن، وجد الأخيرة تخرج من أفكارها لأول مرة وترفع عينيها بكل جدية إلى الصورة ثم تحوِّل نظرها إليه بكل صرامة سرعان ما تحولت لابتسامة واثقة وإيماءة.

خلال الأسبوع التالي لم تكن الصورة هي الشيء الوحيد الذي رسّخ في ذهن علي المشوش أنه كان في مكان مسحور وسط أناس ينتمون لعصر آخر، مصاصي دماء عابرين للعصور. ولم تكن أيضا الأزقة الموحلة المظلمة التي مشوا فيها حتى يصلوا إلى كباريه العدم.

بعد أن صب لهم البارمان ڤان جوخ المشروب الأخضر المسحور وحرق عليه قطعة السكر البنية، استدار علي ليجد الحائط المقابل للبار عليه تابوت ملاصق بالطول وهيكل عظمي بداخله يرتدي عباءة حمراء ويحمل سيفين فوق العظام مكان الكتفين.

لم تكن الهلوسة بالجديدة عليه، فهو يستطيع أن يميز هذا الخط الرفيع جدًا عندما تتجرد الأشياء وتنقشع الحواجز، ليرى من يريد أن يرى ما يختبئ خلف المسلمات التي تنكشف للعين في الوهلة الأولى.

تذكر أنه في الماضي كان من الممكن أن يرى نفس الأشياء التي يراها أصدقاؤه المقربون عندما يخرجون من القاهرة ويقتربون من الطبيعة في سيناء. ففي مرة مثلا، كان يقود سيارته ليلا في الطريق المؤدي لسيناء، وكان منهك القوى وبالكاد يرى معالم الطريق، عندما رأى إمرأة عملاقة تمر مع أطفالها وعندما قال لصديقه الجالس إلى جواره إن هناك امرأة، أكد الآخر أنها تصطحب أطفالها دون أن يقول له إنه رأى أطفالًا معها.

انبعثت الموسيقى من أنحاء المكان، تجمع بين الچاز وإيقاعات قبائلية وأصوات إلكترونية مصحوبة بأصوات نساء أخذت الطابع الأوبرالي. رائحة العرق امتزجت بالعطور المختلفة بعد أن انضمت لهم عارضتان للأزياء ممن كُن في البلاك كالفادوس منذ قليل. لم يمانع أن صديقته اتخذت جانبًا بعد أن أصبح في حالة من الألفة مع المكان تعدت الحاجة إلى توجيه كلام لأحد أو الاستماع إلى أي ثرثرة، ولم يهتز عندما لاحظ أن إحدى الفتاتين اقتربت من آن واحتضنتها بشكل حميمي، ثم تبادلتا حديثًا خافتًا.

ابتعد عن البار وطاف المكان. وقف كيڤين بمصاحبة فرقته يضعون معداتهم من درامز وبيس جيتار وساكسوفون في ركن من القاعة وخلفهم تابوت مفتوح وقف فيه هيكل عظمي آخر يرتدي خوذة حرب وتدلَّت سيوف فوق كتفيه وتدلت من السيوف جماجم أخرى صغيرة.

وقف وحده لوهلة وهو شارد يدخن سيجارته بمتعة واضحة، ودار في ذهنه أنه “لا بد أنني حُملت خارج الزمان والمكان. أو أن كل ما أراه لا يتعدى أفكارًا أو حلمًا غريبًا. كيڤين وآن الفامبيرز… ڨان جوخ الذي يسقيني نفس الشراب الذي أدمنه في حياته… ثم صورة آن المعلقة على الجدار، التي يرجع تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى.. ثم عارضات الأزياء اللاتي يشبهن فتيات دراكولا، واقتراب إحداهن من آن بشكل مثير. وأخيرًا هذه الهياكل العظمية لملك محارب وفارس من القرون الوسطى أو ما تبقى منهما. يبدو أن هذا الملك يمتلك ويحكم هذا المكان السُفلي. ربما أنا ما زلت داخل شقتي في الزمالك بالقاهرة، وكل هذا حلم. لم أغادر إلى باريس ولم أترك حياتي كلها خلفي. كل ما أرى لا يتعدى أن يكون أضغاث أحلام سأفيق منها قريبًا وأجد نفسي وسط أصدقائي القدامى في شقتي بالقاهرة فنضحك ملء أفواهنا مما رأيناه. كلُ بطريقته، ثم أستيقظ غدًا وأنا كاره لحياتي، فأتجه إلى المكتب عند أبي وأقابل شركاء وعملاء وأمثِّل دوري باقتدار، أو على أفضل وجه ممكن وأنا كاره لنفسي أيضا. ولكنني سعيد هنا ولا أحس بالغربة. موسيقى الچاز هذه مصحوبة بإيقاعات قبائلية تغمر وجداني. وهؤلاء حولي(أيا كان جنسهم) أحس بألفة معهم أكثر مما كنت أحس مع أهلي في الفترة الأخيرة.

وهناك سلام يصاحب هذا الغموض المحيط بالمكان. سلامٌ لا يحتاج إلى كلام.. نعم وها هي موسيقى المكان توقفت لتحل مكانها ألحان كيڤين وفرقته. روك آند رول.. لمَ لا؟ نعم، عرفت لمَ الغبطة. سواء كان ما أحضره الآن حلمًا أم واقعًا، فمن المؤكد أنني الآن أعيش، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ”.

جلس علي القرفصاء إلى جانب آن على أرض شقتها بجزيرة سانت لويس في وسط باريس. كان الليل ما زال يغطي بإسداله كل شيء في هذه الليلة الصيفية الحارة. تشابكت أيديهما وهما يستندان إلى الحائط ويحلقان في سقف حجرة المعيشة المرتفع. تبين لعلي من خلال ضوء أباجورة خافت بعض الأثاث المتناثر في أركان الحجرة. وضعت آن جهاز اللاب توب الخاص بها في الركن المقابل لهما وأدارت بعض الأغاني الفرنسية القديمة الهادئة.

“ممكن تحكيلي عن كباريه العدم؟”.

“بار أبسينت بنروحه ساعات أنا وكيڤين. عجبك؟”.

“أيوه عجبني بس عايز أفهم… مين دول؟” قالها علي وهو يُرجِع رأسه للوراء أكثر “البار مان ليه شبه ڨان جوخ؟” ثم وهو ملتفت إليها “والصورة…. الصورة”.

سحبت يدها من يده وسألته وهي تتجاهل أسئلته وكأنه يحدث نفسه “تاخد ويسكي؟ عندي بواقي إزازة”.

أجابها عليّ بنبرة استسلام “أوكي. هاتيها”.

قامت آن لتحضر له الزجاجة فبدت أجمل مما رآها في البداية. انعكس الضوء على وجهها فظهرت عيناها الضيقتان كأنها أميرة من الهنود الحمر فارعة الطول تتحرك بخفة لم يلحظها وهي في وسط الزحام. ورد إلى علي أنها بالتأكيد تنحدر من الهنود الحمر. قال لها وهو ليس متأكدًا مما يقول “عينيك ضيقة زي عينيّ. إنت منين أصلا؟ متأكدة إنِك أمريكانية خالصة وايت-أنجلو-ساكسون-بروتستانت؟ شكلك فيك حاجة هندي أحمر أو يمكن جذورك زيي من آسيا الوسطى”.

نظرت إليه بشيء من الدهشة المتعمدة وهي تبتسم “إنت بتجيب الأفكار دي منين؟ جدودي راحوا أمريكا من ألمانيا وأيرلندا. ما فيش هنود في الموضوع”.

“طيب ارجعي لورا شوية.. مش عارف.. يمكن حصل وأنت مش عارفة”.

“كل اللي أعرفه إن جدي الكبير طلع نيويورك من 150 سنة وبعدين اتجه على كاليفورنيا مع الاندفاع اللي حصل لما اكتشفوا الدهب”.

“جدي كان بيحكي لي إن جده لقى دهب فعلا وعمل مزرعة وبنى بيت وبعدين اتقتل في هجوم من الهنود الحمر..”.

“حيهمك في إيه أنهي قبيلة؟ يمكن قبيلة التاراهومارا. عارفهم؟”. نظرت إليه بتحدٍ وهي تسأله.

“آه في الشان دو مارس وإنت كمان…. صح؟…  بتجري فين؟”.

“على الكي دو سين..  بتجري كام كيلو في المرة؟”.

“تقريبًا وساعات عشرة… قبائل التاراهومارا عايشة في نيو مكسيكو وعندهم القدرة يجروا 450 ميل في يومين يعني 724  كيلومتر. بيجروا حافيين أو لابسين صنادل خفيفة..  العلماء مش قادرين يلاقوا تفسير واحد للموضوع ده غير إنهم عندهم قدرات غير عادية”.

نظرت إليه لترى آثار الدهشة على وجهه، ولكنه استكمل غير عابئ. وكأنها تحكي له عما اشترته في جاليري لافاييت أو أي قصة أخرى عادية.

“أنصاف آلهة يعني. بس الرجل الأبيض جيه قضى على أنصاف الآلهة ونصّب نفسه إله.. تفتكري ليه جسمهم بيساعدهم على الجري ده كله؟”.

“لأن حياتهم قايمة على الصيد زي الإنسان الأول ولازم يجروا في نفس سرعة الحيوانات اللي بيطاردوهم لحد ما ينهكوهم”.

ردد علي جملة كان يحب ترديدها كثيرًا بالإنجليزية قبل أن يرحل عن مصر “صيادين ومُحَصِّلين… صيادين ومُحَصِّلين. الإنسان إما صياد أو مجرد مُحَصِّل”.

“متأكدة إن ما حصلش تزاوج بين جدودك وحد من القبيلة؟”.

نظرت إليه بجدية وهي تقول له “لأ متأكدة إن جدودي قضوا على قبائل كتير..  ده اللي متأكدة منه بس. المهم مين بيطور أدوات الصيد ومين أسرع في ضغط الزناد مش بس في الجري… لكن كفاية حديث عن قبائل الهنود الحمر واحك لي عن القبائل اللي إنت نازل منها في آسيا الوسطى-” ثم مستدركة نفسها كالطفلة الصغيرة التي تذكرت شيئا بديهيًا في لعبة تلعبها – “. لازم تقول لي إنت جيت باريس هاربان من إيه؟”.

اعتدل علي في جلسته مرة أخرى ليخرج علبة سجائره من جيب بنطلونه، وبعد أن شمر عن ساعديه وأشعل سيجارة، أخذ يحكي لها أشياء كثيرة لم يتذكرها في اليوم التالي عن حياته في مصر وعن عمله السابق، وعلاقاته أو بعض منها. ظن أنه أخرج كل ما في جُبتَّه كأنه يسدد لكمات في الهواء ينِّفس بها عن غضبه، وكان من وقت للآخر يسألها “إنت شايفة إن أنا بني آدم وحش يعني؟”. سألها هذا السؤال أكثر من مرة، فلم تجبه، ولكنها اقتربت منه وجلست أمامه لتواجه ركبتاها ركبتيه، وسألها : “عمرِك رُحت مصر؟”.

“لأ بس إريك أخويا راح مع صاحبته من عشر سنين. كان عنده شغل… تصوير. كان بيصور مظاهرات التضامن مع الانتفاضة. إريك كان بيغطي ويبعت لنيويورك تايمز”-  مرت سحابة حزن على وجهها فجأة. حزن لم يكن علي رآه بهذا القدر على وجهها حتى هذه اللحظة  -“راح إسرائيل يغطي بداية الانتفاضة وبعدين طلع على القاهرة يغطي المظاهرات هناك”.

لاحظت آن التغيير في وجه عليّ فسألته “إنت حضرت الكلام ده؟”.

اكتفى بإيماءة وسرح بعض الوقت قبل أن يفيق من هواجسه على صوت آن وهي تناديه “هي هي… إنت رحت فين؟ أكيد إنت مش هنا علشان تكتب رواية وخلاص. كلنا موجدين هنا هربانين من حاجة أو في انتظار إنه يحصل حاجة ما بتحصلش. صح؟”.

اقتربت منه لدرجة عرف منها أنها ستقبِّله، ثم غابا في قبلة طويلة أخذته بعيدًا ولم يدرِ كم من الوقت استغرقت ورجع مرة أخرى عندما أبعدت وجهها وتمتمت “إريك… إريك غطى كل حاجة من البوسنة للانتفاضة لحرب العراق..”.

“وبعدين؟” سألها عليّ مستعجبًا لإصرارها عن الكلام على أخيها رغم انتهائهما من موضوعه من فترة.

طيلة حياته لم يعرف علي طبيعة رد الفعل المطلوبة منه في موقف كهذا، فأجاب باختصار “آسف.. آسف”.

ولكنها لم تعره انتباهًا وأكملت “إريك بعد ما رجع من العراق. صاحبته دخلت عليه في شقتهم في مانهاتن لقيته قاطع شريان من إيده في الحمام”.

ساد بعدها بينهما صمت ثقيل وبدأ ضوء النهار يتسلل من خلال إسدالات الستائر الماركيزيت الشفافة، وأنذر تغريد العصافير بيوم جديد، وظهرت الشقة فارغة وباردة أكثر من ذي قبل، ورأى علي الكراتين المليئة ببعض الرفائع والفرش المغطى، فانتابه قلق لم يستطع تفسيره، ثم تبادلا قبلة أخرى طويلة قبل أن تدفعه برفق وهي تردد في أذنه “مش حينفع.. مش حينفع”.

لم يجاوبها ولكن تعبيرات وجهه أفصحت عن تعجبه من ابتعادها المفاجئ، فقالت له بكل بساطة “أنا لازم أسيب الشقة دي كمان كام ساعة. عايز تعرف ليه؟ تعالى أورِّيك” ثم جذبته من يده نحو غرفة نومها، وفتحت باب الغرفة بحركة نمت عن بؤس أكثر من أي شيء آخر.

رأى علي كمية كبيرة من البدل الرجالي مطروحة على الفراش وحقيبة كبيرة خاوية وجاهزة لترتيب هذه الملابس فيها. على التسريحة رأى مجموعة من البراويز لصور لآن ورجل ملامحه أقرب لملامح سكان أوروبا الشرقية يتخطى الستين من عمره بالتأكيد، وتغلب الصرامة على تقاطيع وجهه في جميع الصور.

قطعت آن تأملاته قائلة “دي شقته ولازم أخليها قبل بكره. هو مسافر دلوقت بس قرر ينهي علاقته بي نهائيًا وطلب مني في التليفون إنني أفضِّي الشقة قبل بكره.. يعني النهارده. وفيه ناس من عنده في المكتب جايين يستلموا كمان كام ساعة”.

“طيب وحتعملي إيه؟ فيه مكان تقعدي فيه؟ تحبي تيجي تقعدي عندي في ڨوچيرار لحد ما تلاقي مكان تاني؟”.

خرجت هذه الكلمات من علي بسرعة لاحظها فقط بعد فوات الأوان إلا أن آن هزت رأسها بإباء رافضة عرضه “اتفقت حاقعد عند كيڤين لحد ما يبقى معايا فلوس كفاية من عرض أزياء جديد علشان أأجر شقة جديدة… مش لازم في جزيرة سانت لويس-”  قالتها ورفعت شفتها بسخرية، ثم بحسم أفقده توازنه  “دلوقت عايزاك تروَّح لو أمكن لأنني محتاجة أريّح ساعة أو اتنين قبل ما عمال شركة النقل ييجوا”.

خلت الشوارع المحيطة بمنزل آن إلا من بعض المحلات السياحية الصغيرة التي فتحت أبوابها، وأخذ أصحابها ينظفونها وينظرون إلى علي باستعجاب لم يفته. كانت أفكاره مشوشة وبزوغ الشمس في السماء لا يساعده على تجميع شتات أفكره. أخذ يفكر”ماذا لو كان رجع منزله بعد كباريه العدم بدلا من أن يواجه نهار باريس وهو في هذه الحالة؟ لماذا وافقها على مصاحبتها بعد كل ما رآه فيها من سلوك عجيب خلال الليلة؟ هكذا هو دائمًا.. يضع نفسه في مواقع يعلم أن الخروج منها عسير. يجري وراء رغباته حتى يُقارب الهوة. انتابه شعور أنه تحول لمصاص دماء مثل هؤلاء الذين قضى معهم ليلته. ضوء النهار الصيفي يكاد يقتله. ود لو أن هناك اختراعًا يسمح له بأن ينتقل إلى حجرته وسريره مرة واحدة دون أن يتعامل مع أحد في مواصلات أو يواجه أحدًا من جيرانه وهم متجهون إلى أعمالهم. وروبير… كم يرجو أن لا يرى روبير وهو في هذه الحالة. سيمسكها ضده لا محالة. لن يقول له شيئًا. سيرمي عليه السلام وكأنه لم يلحظ حالته الرثة، ولكنه سيرمي له كلمة خلال لقائهما القادم بسخريته الباردة. هكذا هم الناس في باريس. هكذا الباريسيون. لا أحد يتدخل في شئون الآخر بشكل مباشر، ولكن هناك دائما طريقة غير ملحوظة لا يعرف كيف يصفها لنفسه، ولكنها هكذا مختلفة عن الطريقة التي يتدخل بها الجميع في حياة بعضهم في مصر بشكل خانق. هنا يتدخلون بحساب، ولكنهم يسجلون نقاطًا عند الضرورة…. أهم شيء الآن هو أن يجد أي وسيلة للعودة إلى منزله وأن يدعه من أي مصدر آخر للقلق.

هناك أربعة كبارٍ تصل جزيرة سانت لويس بالضفتين الغربية والشرقية للمدينة. الشقة التي قابل فيها علي آن كانت أقرب إلى جنوب الجزيرة. سلك كوبري سولي الذي يخترق الجزيرة من طرفها الجنوبي إلى الضفة الشرقية بدلا من أن يأخذ الاتجاه الغربي الذي يقربه من منطقته السكنية. وجد نفسه على رصيف هنري الرابع. حاول أن يستوقف تاكسيًا ولكنهم لم يعيروه أدنى اهتمام. كل شيء حوله يجري بسرعة لم تستطع قدراته العقلية بعد ليلة كهذه أن تحصلها. رجع يسارًا لعله يستطيع أن يدرك المترو ويغير عددًا من المحطات حتى يصل إلى محطة ڨوچيرار. على الناحية الأخرى من الطريق وجد أمامه محطة سولي-مور لاند، ولكنه رأى اندفاع الناس من فتحات المترو وأعدادهم الغفيرة، فتراجع عن الفكرة. وبعد أن عبر الطريق أخذ يهيم في جميع الاتجاهات حتى وجد نفسه في شارع ريفولي. نظر في ساعته. شارفت الساعة على التاسعة صباحًا “اللعنة.. اللعنة” أخذ يردد في نفسه. دخل إلى الشارع العمودي على ريفولي واحتمى إلى جانب كنيسة سانت بول، ثم لمح موقفًا للسيارات الأجرة، فخُيِّل له في البداية إنه وهم إلى أن اقترب ووجد سيارة بيجو أجرة بالفعل داخلها سائق أربعيني جلس يقرأ الجريدة ولم يلتفت إليه عندما قرع على الزجاج كاملا. اكتفى بإشارة من يده يدعوه للدخول، وقبل أن يُكمل دخل علي وقال له بصعوبة بالغة “ڨوچيرار.. عند كنيسة سانت لامبير لو سمحت”.

في اليوم الذي تلى ليلة كباريه العدم لم يحاول علي الخروج من شقته إلا لشراء احتياجاته الأساسية من غذاء. استيقظ على أجراس الكنيسة الاثنى عشر. لم ينم إلا ساعتين كانتا كل ما يحتاج ليفصل بين هوَّة الليلة السابقة واليوم الجديد. تناول قطعتين من علبة للبسكويت ملقاة إلى جانب حوض المطبخ واجهّز لنفسه فنجانًا من الإكسبريسو، ثم وقف وراء النافذة يتأمل الشجرة الملاصقة لسور الكنيسة ويرشف قهوته وينفث دخان سيجارته الأولى بصعوبة بالغة.

بعد أن انتهى من حمّامه جلس أمام المنضدة الصغيرة التي يتخذها مكتبًا. حاول تنظيم أوراق روايته المتناثر وأمسك قلمه ليخط به كلمات لم يستوعب معناها. أفكاره ظلت أسيرة ليلة الأمس، فاتجه مرة أخرى إلى النافذة ووقف يشاهد عروسين يخرجان من البوابة الرئيسية للكنيسة بجوار القسيس الذي أتم الزيجة ووسط صيحات فرحة عائلاتهم وأصدقائهم الذين وقفوا يستقبلونهم أمام السلالم. وجدهما علي على قدر كبير من الجمال، أو ما استطاع أن يرى من المسافة التي تفرق بينهما. بديا لم يتجاوزا منتصف العشرينيات. ارتدت الفتاة فستانًا أبيض ديكولتيهًا بسيطًا ووقعت خصلات شعرها الأشقر على كتفيها العاريين، أما هو فشاب نحيف وجهه ما زال يحمل تعبيرات الطفولة وفرق شعره البني من الجانب.

“إنه حلم الطبقة المتوسطة الفرنسية الجميل. العالم كله يرى أن الفرنسيين شعب يعيش على الملذات والمتعة، وأنهم يرفضون الحياة المؤسسية، ولكنها صورة خاطئة تمامًا”-  هكذا أكد علي لنفسه  -“لقد تم تصدير صورة منبثقة من الحياة الثقافية والفنية التي تلت الحرب العالمية الثانية. حياة مارجريت دوراس أو كامو أو سارتر أو جان جيني. هؤلاء لا ينتمون للشريحة العظمى في المجتمع الفرنسي. مثقفون ما بعد الحرب العالمية الثانية انحسروا في الحي اللاتيني وأحيانا في مونمارتر، وانتشرت أعمالهم وقبلها أعمال الكتّاب الأمريكان الذين عاشوا السنوات المجنونة في باريس بين الحربين. هؤلاء كلهم كانوا حالات فريدة ولكن وجودهم من خلال الأدب والفن أعطى حياتهم؛ التي لا تخضع لأي مقاييس، بعدًا أكبر من البعد الحقيقي. أما الفرنسيون الحقيقيون فهم أولئك الذين يراهم الآن أمام الكنيسة، يتزوجون وهم تقريبًا أطفال ويتمتعون بالتأمين الاجتماعي والتعليم المجاني لأطفالهم، ويشكون من كل شيء ويسافرون لقضاء إجازتهم بأبخس الأسعار مرتين في السنة. مرة في مخيمات بجنوب غرب فرنسا في فصل الصيف والأخرى ليتزلجوا على الجليد في الشتاء) أو مع انخفاض أسعار الطيران إلى جنوب أوروبا).

وضع علي يده تحت ذقنه وهو يمشي في الصالة الصغيرة ذهابًا وإيابًا “ماذا لو أن كل ما حدث بالأمس ليس حقيقيًا؟ ربما آخر شيء حقيقي حدث هو وجوده في البلاك كالفادوس ومقابلته لإدجار لأنه يعرف إدجار عن طريق ناس من (مجتمعه في مصر). من الدوائر المقربة كما كان يحلو له أن يصفهم قبل سفره. لا بد أن كباريه العدم هذا من وحي خياله، وكذلك البارمان ڨان جوخ والهيكل العظمي للملك المحارب وفتيات دراكولا وآن وكيڤين بالتأكيد يأتون من حقبة أخرى ولا يموتون، وإلا فماذا يفسر الصورة المعلقة لآن في المكان، وهي ترتدي زي ممرضات الحرب العالمية الأولى؟ الصورة قديمة بلا شك… ولكن كيف ينام على هذا العالم السُفلي ويستيقظ على حفل زواج لعروسين من الطبقة الوسطى في الكنيسة وكأن شيئًا لم يكن؟”، نظر علي إلى الكنيسة بتمعن وتخيلها وقت الثورة الفرنسية. “لقد سمع أن مكان هذه الكنيسة كانت هناك كنيسة أخرى حتى منتصف القرن التاسع عشر، وأن الثوار اقتحموا تلك الكنيسة وقاموا بقتل القساوسة وأقاموا الحفلات الماجنة على المذبح. وهو يؤمن أن الطاقة تبقى في أي مكان، لذا فقتْل رجل دين في مكان عبادته عمل دموي تبقى آثاره في المكان مهما حدث، وقد تختلط الطاقات وتغلب الطاقة الإيجابية أحيانا ثم تنزوي”.

فكر أن يغادر منزله ويستغل المناخ الصيفي ليتسكع بين كافيه وآخر، ولكنه غيَّر رأيه سريعًا لأنه لم تكن لديه القدرة أن يتعامل مع إنسان حتى لو كان جرسونًا سيتلقى منه الطلب فقط.

دق جرس التليفون فانتفض علي من أفكاره وتخيل لثوانٍ أنه ما زال في عالم موازٍ لأن أحدًا لا يعلم تليفون منزله “آه… ربما روبير، ولكن لماذا يتصل به روبير الآن؟ لقد دفع الإيجار وباقٍ أسابيع على الإيجار الجديد”.

جذب سماعة التليفون في تردد وجاءه صوت عرفه على الفور. صوت أبيه هادئًا وبعيدًا كعادته “إزيك يا علي”.

“الحمد للـه. إزيك إنت؟” جاء صوت علي متحفِّظًا وبعيدًا أيضًا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل