المحتوى الرئيسى

مجدي منصور يكتب: القصة الروسية من القيصر «إيفان» وحتى القيصر «بوتين» (4) – بحث في السياسة الخارجية الروسية | ساسة بوست

03/07 22:09

منذ 6 دقائق، 7 مارس,2016

كُنت أوثر أن تقولَ رثائي يا مُنصف الموتى من الأحياءِ

ولكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منيةٍ بقضاء.

الحق نادى فاستجبت ولم تكن تحفل بالحق عند كل نداءِ

«عندما كان قُرب القمة كان الاهتمام بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة تحول الاهتمام إلى ما يفكر فيه»أنتوني ناتنج عن هيكل

هذا هو الجزء الرابع من بحثى في السياسة الخارجية الروسية، أكمل فيه ما بدأته في الحلقات الثلاث السابقة، ولكن أستأذن في وقفة قصيرة أقول فيها كلمة لرجل رحل عن دنيانا تاركا خلفه ( فراغاً لن يستطيع أحد ملأه رغم كثرة الكتبة والمُتحدثين في كل شيء، وأي شيء بدون فهم أو علم أو دراية ).

هذا الرجل العظيم هو أخر جيل العظماء، هو أستاذ الصحافة المصرية والعربية قاطبةً هو: (محمد حسنين هيكل) أو (الجورنالجى) كما كان يُحب أن يُطلق عليه. كانت أول معرفتي بالأستاذ عندما قرأت له كتابه الشهير (خريف الغضب)، كان ذلك وأنا في الصف الثاني الإعدادي، ومن يومها لم أترك شيئاً كتبه الأستاذ إلا قرأته وكم كُنت سعيدا عندما أهدتني الدكتورة (هدى جمال عبد الناصر) عددا من الموسوعات الإلكترونية، ومن ضمنها جميع مقالات الأستاذ التي نشرت في جريدة الأهرام المعنونة تحت اسم (بصراحة)، كان ذلك في مكتبها بحي الزمالك في القاهرة. إن ما كتبه الأستاذ سيظل محفورا في قلوب وعقول مُحبيه.

كان الأستاذ هو الذى كتب (المقال الصدمة) كما يطلق عليه في أدبيات التيار الناصري المصري في أربعين الزعيم (جمال عبد الناصر) تحت عنوان (عبد الناصر ليس أسطورة) دعا فيه إلى “عدم نسيان أن (عبد الناصر) إنسان، وليس إلها، وحذر ممن يحاولون لعب دور كهنة المعبد، وحذر كذلك من محاولة تحويل الفكر الذى مثله عبد الناصر من تجربة حية، تؤخذ في الحسبان باعتبارات الصواب والخطأ، إلى عقيدة (دوغمائية) لا يمكن مناقشتها أو نقدها”.

وكان الأستاذ (هيكل) هو أول من اعترض على سياسة الرئيس (السادات) بعد حرب أكتوبر، وأكد أنه يرى (السادات) يمشى إلى (حل منفرد سيهدم تحالف أكتوبر العظيم الذى “تعمد بالدم” في سيناء على الجبهة المصرية، وفى الجولان على الجبهة السورية يوم 6 أكتوبر 1973)، وانتهى به اعتراضه المستمر إلى الاعتقال مع من اعتقلوا في اعتقالات سبتمبر الشهيرة 1981 في زنازين الرئيس (المؤمن!).

وكان الأستاذ(هيكل) أول من تحدث في عهد (مبارك) عن ( السلطة التي شاخت على كراسيها). وأول من أطلق صيحة (الرفض لمشروع التوريث) لجمال مبارك، في محاضرته الشهيرة بالجامعة الأمريكية في خريف (٢٠٠٢) بالقاهرة.

وكان حتى أخر يوم يعبر عن رأيه وانتقاداته للوضع الحالي، عندما قال: (لا تستطيع أن تستعيد سلطة جمال عبد الناصر بسياسات إسماعيل صدقي باشا).

أستاذ الصحافة المصرية ( محمد حسنين هيكل ) وداعا

في الصورة من اليمين السيد (على صبري) والزعيم (جمال عبد الناصر) ونجلته الدكتورة (هدى) والأستاذ (محمد حسنين هيكل)

الزعيم (عبد الناصر) والأستاذ (هيكل) تاريخ طويل في النضال العربي

كانت آخر كلمات الأستاذ لأبنائه: (الرحلة انتهت لا تعاندوا القدر).

ولعل أصدق ما يقال في النهاية ما قاله (أبو تمام): “ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام”.

«لماذا يتصور بعض الناس أن عقاب بريطانيا وفرنسا على العدوان لا يتحقق إلا بضرب لندن وباريس ؟ » خرشوف لعبد الناصر

كان الإنذار السوفيتي واحدا من أهم العناصر التي ظهرت في معركة السويس 1956م، وربما يختلف كثيرون في تأثيره المباشر على تطورات المعركة، وما إذا كان العامل الفاعل في توقف القتال، أو أن المعركة كانت منتهية من قبله، وبالتالي فإن دوره لم يزد على تأكيد حقيقة أمر واقع تقرر سلفا من قبله.

إن هذه النقطة شغلت كثيرا من الباحثين، بل شغلت كثيرا من الذين كانوا شركاء في إدارة معركة السويس، وكان بينهم وزير الدفاع الفرنسي، الذى قال لشيمون بيريز، مدير وزارة الدفاع في إسرائيل وقتها: ( إن الروس يقومون بعملية تهويش ). و(إيزنهاور) قال لألفان سفيرنا في واشنطن الذى قابله أمس: (إن “الإنذار الروسي جد، ويجب أن تأخذوه كذلك”– لكنى أعتقد أن (إيزنهاور) يبالغ فلا يمكن للولايات المتحدة أن تقبل بضرب باريس ولندن بالصواريخ النووية – لأن ذلك معناه حرب عالمية ثالثة). وسكت وزير الدفاع الفرنسي قليلاً ثم استدرك قائلاً: (لكنى مع ذلك لا أستطيع أن أضمن شيئا).

لمزيد من التفاصيل حول الإنذار السوفيتي برجاء مراجعة الرابط

وسوف يستمر الجدل حول هذه النقطة العملية، ولكن الذى لا يختلف عليه أحد هو الأثر الاستراتيجى للإنذار السوفيتي، سواء كان هدفه عمليا أو كان هدفه نفسيا، وسواء كان مجرد تهويش، وهذا ظن، أو موقف حزم، وهذا بدوره ظن آخر، ولكن الأثر الاستراتيجى تحقق في الحالتين، فقد كان أول مرة يتم ـ فيها بعد الحرب العالمية الثانية ـ تهديد بسلاح نووي في إطار أزمة عالمية مفعمة بالتوتر.

والحقيقة أنه بعد الإنذار السوفيتي فإن العالم ليلة 6 نوفمبر 1956م، وجد نفسه واقفا على حافة الهاوية النووية، ومهما قيل في أنه كانت هناك شكوك في إمكانية الانتقال بالإنذار السوفيتي من مرحلة التلويح إلى مرحلة التصريح، ومن ثم إلى مرحلة التنفيذ، فإن البشرية كلها لم تكن مستعدة لاختبار النوايا إلى النهاية؛ كان التلويح كافيا، فتوقف الجميع، ثم استداروا راجعين بخطاهم بعيدا عن الحافة المظلمة.

وعلى أية حال فإن الذى لا يستطيع أن ينكره أحد، هو أن الإنذار السوفيتي كان ـ وبصرف النظر عن الاحتمالات العسكرية ـ عنصرا سياسيا مؤثراً في معركة السويس. إن أغلبية أطراف العدوان شكوا في مدى جدية الإنذار، مثل (إيدن) و(موليه) و(بن جوريون)، لكن مشكلة الأسلحة النووية أنها قضية لا تحتمل الشكوك، وإزاء الأسلحة النووية فإن حالة الشك في حد ذاتها تستوجب الحذر والمراجعة لأن المخاطر المحتملة تفوق كل طاقات الاحتمال.

وللحق فإن جمال عبد الناصر نفسه ساورته الشكوك في عزم الاتحاد السوفيتي على استعمال الأسلحة النووية، بل قد وصلت به الشكوك إلى حد أنه أثار الموضوع مع الزعيم السوفيتي (نيكيتا خروشوف) في لقاء بينهما بعد سنين تماما من توجيه الإنذار.

قال (جمال عبد الناصر) في ذلك اللقاء في موسكو في 2 مايو 1958 لخروشوف في عبارة تحاول أن تبدو استفسارا، وليس استنكارا: (بالطبع إننا قدرنا موقفكم، لكنى لا أخفى عليك أننى يومها، وبعد أن قرأت نص الإنذار تساءلت فيما بيني وبين نفسى: هل يعقل أن يكون الاتحاد السوفيتي مُستعدا بالفعل لتوجيه صواريخه النووية إلى لندن وباريس؟ لقد كان ذلك في ظني كفيلاً بأن يفرض على الرئيس الأمريكي أن يتدخل بأسلحته النووية ضد الاتحاد السوفيتي؛ لأنه ساعتها لن يكون الموضوع هو لندن وباريس وحدهما، وإنما الغرب كله معرض للدمار).

ورد (خروشوف) بـ(أنهم كانوا جادين بالفعل في الإنذار، وإلا لما غامروا بتوجيهه).

ولعله أحس أن هذا الرد العام لا يكفى لإقناع محدثه، فأضاف بطريقة غامضة:

(لماذا يتصور بعض الناس أن عقاب بريطانيا وفرنسا على العدوان لا يتحقق إلا بضرب لندن وباريس؟ لقد كانت هناك أهداف أخرى مباشرة في تنفيذ العدوان يمكن توجيه ضربة محدودة إليها).

وكان الانطباع الذى أخذه (جمال عبد الناصر) هو أن (خروشوف) يلمح” إلى أن الإتحاد السوفيتي كان في تخطيطه إذا لم تحدث إستجابة لإنذاره أن يوجه ضربة إلى أساطيل الغزو”.

وبعد المقابلة تساءل (جمال عبد الناصر) والشكوك مازالت تساوره (هل يمكن أن ذلك تخطيطهم فعلاً؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فكيف السبيل إلى تنفيذه؟ مع العلم أن توجيه ضربة نووية إلى أساطيل الغزو كان من شأنه أن تؤثر الضربة تأثيراً مباشراً على بورسعيد وما حولها من منطقة القناة، وفيها وقتها حوالى المليون من المدنيين المصريين؟)

جمال عبد الناصر تشكك في الإنذار السوفيتي

وبقيت إجابة السؤال معلقة حتى وقتنا هذا. وربما زاد من الشك أن الاتحاد السوفيتي، لم يتوقف عند حد توجيه الإنذار يوم 5 نوفمبر 1956م، وإنما اتبع ذلك بخطوات عملية، ففي يوم 7 نوفمبر ـ أي بعد الإنذار بيومين ـ قام الاتحاد السوفيتي بتحركات عسكرية دفع فيها بأعداد كبيرة من القوات البرية والجوية نحو الشرق الأوسط وصفتها جريدة النيورك تايمز الصادرة في 9 نوفمبر هذه التحركات بأنها (أحدثت فزعا في أوروبا الغربية).

ولم تمض أيام حتى أصدر رئيس الوزراء السوفيتي (بولوجانين) بيانا، قال فيه بالنص: (إن الاتحاد السوفيتي يستطيع الاستيلاء على أوروبا الغربية كلها، دون حاجة إلى استخدام صواريخ أو قنابل ذرية)، ثم اقترح مشروعا للسيطرة على الأسلحة النووية من ست نقاط، ختمه بقوله: (إن العالم كله أمام خيار أن يقبل المشروع السوفيتي أو يواجه حربا عالمية ثالثة، لم تشهد البشرية مثيلا من قبل لأهوالها وفظاعتها).

«إننى مُشفق على إسرائيل فقد ظهر في مصر فرعون جديد، ولا أجد في أعماقي قوة موسى الذى قاد شعبه إلى الخلاص» دافيد بن جوريون عن جمال عبد الناصر

يتبقى لي نقطة أُريد تغطيتها بالفحص، وهى الادعاءات الإسرائيلية بانتصارها في حرب السويس 1956م، ولعل من الغريب أن أعداء الرجل والفكرة (جمال عبد الناصر) و(القومية العربية) يأخذون الادعاءات الإسرائيلية كمسلمات، دون تدقيق أو تمييز بين الحرب النفسية والحقائق المجردة، وذلك ما سأحاول كشفه من واقع الوثائق الإسرائيلية.

بعد الصمود الأسطوري للشعب المصري والإدارة الناجحة لقيادته (جمال عبد الناصر) الذى أصبح (رمزاً)، ليس في العالم العربي وحده، ولكن في العالم الثالث بأسره، الأمر الذى جعل الاتحاد السوفيتي يتقدم خطوة ويطلق إنذاره الشهير لقوى العدوان في السويس، ليعلن بعده كل من بريطانيا وفرنسا قبولهما لوقف إطلاق النار، ولسحب قواتهما من مصر.

لم يكن (بن جوريون) قادرا على تصور الحقائق الجديدة التي برزت أمامه، تمنعه من تحقيق آماله، في اللحظة التي ظن فيها أن كل شيء أصبح في قبضة يده:

لقد أصبح شريكا في تحالف سياسي وعسكري يضُم بريطانيا وفرنسا، وتعاون معهما فعلا، في عمل موحد ضد مصر التي يعرف في قرارة قلبه أنها عدوه الأكبر، وعلى رأسها عدوه اللدود (جمال عبد الناصر)، والآن فإن شركاءه على وشك أن يتركوا رأس الجسر الذى حصلوا عليه في بورسعيد.

( دافيد بن جوريون )

إنه تمكن في حماية حلفائه (الإنجليز والفرنسيين) من احتلال كل شبه جزيرة سيناء، وأعلن ضمها بالفعل إلى (أرض إسرائيل)، وبانسحاب الإنجليز والفرنسيين من بورسعيد، فإن الجيش الإسرائيلي في سيناء سيكون عليه إما أن يحارب معركة باهظة التكاليف أو ينسحب بغير قتال.

إن الأمم المتحدة، وكانت في بواكيرها، استطاعت تكتيل رأي عام قوي ضد إسرائيل، وقد أحرجت شراكتها مع بريطانيا وفرنسا موقفها أمام شعوب العالم التي راحت تصدق ما كانت تقوله مصر؛ من أن إسرائيل أداة في يد الاستعمار. وقد حدث أن وزير العدل الإسرائيلي (بنحاس سابير) قال في مجلس الوزراء: (إن إسرائيل تستطيع أن تركز على حشد التأييد لها في الأمم المتحدة) وانفجر فيه (بن جوريون) قائلا: (إنه ليس لإسرائيل صديق واحد في الأمم المتحدة، وإن كل من فيها أصبحوا أصدقاء ناصر). ثم أكمل قائلا: (علينا أن نفهم أن الأمم المتحدة بالنسبة لإسرائيل هي خلية نحل، ليس فيها عسل، وسوف يقرصوننا جميعا، دون أن نشعر بطعم الحلو على أطراف ألسنتنا. ليس أمام إسرائيل الآن غير الولايات المتحدة).

إن الولايات المتحدة الأمريكية ـ لأسباب متعددة، منها: تضارب المصالح بينها وبين بريطانيا وفرنسا، ولأمل استمالة أصدقائها العرب، ولطمع في السيطرة على بترول الشرق الأوسط بأسره ـ قد انتهجت سياسة لا تستطيع إسرائيل أن تعتبرها ودية؛ فقد أدانت تدخلها في مصر من أول لحظة، وظلت تدينه إلى النهاية. وأثناء الأزمة قال (بن جوريون) في اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي، بعد أن استعرض الوضع، وجاء دور الولايات المتحدة في العرض قال: ( ليس أمام إسرائيل الآن، إلا الولايات المتحدة الامريكية؛ لقد كانوا باستمرار أصدقاءنا، وكانوا يتعاطفون مع قضيتنا باستمرار، وقد أرسلوا إلينا كثيرا من المساعدات، لكنهم كانوا أصدقاء، والآن فإن “هدف إسرائيل يجب أن يكون تحويل الولايات المتحدة من صديق إلى حليف”. إن إسرائيل كانت دائما تحتاج إلى حليف من بين القوى الكبرى، وقد أثبتت الأسابيع القليلة الماضية أنه لم تعد هناك قوى كبرى في هذا العالم غير الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والاتحاد السوفيتي لن يكون حليفا لنا، ولا حتى محايدا بيننا وبين أعدائنا، وليس أمامنا غير الولايات المتحدة).

إن (جمال عبد الناصر) عدوه اللدود حارب معركة السويس كلها بكفاءة وحكمة رفعت قدره في العالم العربي وفي أسيا وأفريقيا، وإذ (خرج) من هذه المعركة (سليما) فمعنى ذلك أنه (سيتحول إلى بطل قومي يستطيع أن يستقطب مشاعر وأفكار الجماهير العربية المحيطة بإسرائيل).

إن الاتحاد السوفيتي دخل إلى الشرق الأوسط صديقا للعرب ومصدرا لتسليحهم، ومن المؤكد أنه بعد فشل العدوان فإن الاتحاد السوفيتي سوف يفتح أبوابه لمساعدات عسكرية واقتصادية وسياسية لمصر والعرب بغير حدود. كان ذلك بالنسبة لبن جوريون طبقا لوصفه في اجتماع لمجلس الوزراء عقد يوم 22 ديسمبر: (كابوسا مرعبا يتمنى أن يستيقظ منه، ويتأكد أنه مجرد كابوس).

وبعد عودة القوات المصرية إلى (غزة) كان (بن جوريون) في مأزق مستحكم، فلم يكن قادرا على قبول الأمر الواقع، ولم يكن قادرا على تغييره، وذهب إلى مستعمرة (سد بوكر ) يفكر ويتأمل، ثم قال لموشيه ديان وشيمون بيريز اللذين ذهبا إليه هناك؛ لإقناعه بإنهاء اعتزاله والعودة إلى تل أبيب؛ لأن الناس بدأوا يتساءلون عن غيابه ويقلقون له.

وقال لهما ( دافيد بن جوريون): (إننى مُشفق على إسرائيل؛ فقد ظهر في مصر فرعون جديد ولا أجد في أعماقي قوة موسى الذى قاد شعبه إلى الخلاص )، وأضاف (بن جوريون): (إننى أفكر في اعتزال السياسة، وقضاء ما بقى من عمرى في مستعمرة “سد بوكر” أعمل راعيا للغنم مثل أنبياء إسرائيل القدامى).

ورد عليه (موشى ديان): (إن إسرائيل مازالت في حاجة إليك) .

و كانت السويس ولازالت نقطة تحول فاصلة بين انتهاء عصر وبداية عصر جديد

«قُل للرئيس ناصر إننى أريد أن أراه وإنني معجب بكفاحه وصلابته في سبيل استقلال بلاده وحريتها» ماو تسي تونج للمشير عبد الحكيم عامر

في يوم 5 أكتوبر1957م أرسل الاتحاد السوفيتي دعوة للرئيس (جمال عبد الناصر) لزيارتهم والمشاركة في احتفالات الثورة السوفيتية في عيدها الأربعين بعد شهر واحد. وقرر (عبد الناصر) إرسال المشير (عبد الحكيم عامر) بدلا عنه، رغم كونه، أي: (عبد الناصر)، يريد رؤية الاتحاد السوفيتي وقيادته على أرض الواقع، وليس من واقع التقارير الرسمية، إلا أنه لم يكن يريد لزيارته الأولى إلى الاتحاد السوفيتي أن تكون رحلة تقديم شكر على صفقة الأسلحة، وعلى إنذار السويس، أو رحلة تقديم طلبات، فقد كان يريد عقد صفقة سلاح ثانية، والحصول على قرض للتصنيع إلى جانب جس النبض في مشروع السد العالي.

وتم تشكيل الوفد المصري، وكان وفدا عسكريا صرفا؛ فقد رأى (جمال عبد الناصر) أن الطابع العسكري للوفد سوف يُخفى بعض المهام التي كلف بها (عبد الحكيم عامر)، وأولها جس النبض بشأن السد العالي. وهكذا ضم الوفد إلى جانب المشير (عامر) كلاً من (سليمان عزت، وجمال عفيفي، وحافظ إسماعيل) وكلهم برتبة لواء، كان الوفد برئيسه مُهيأ لتمثيل مصر في العيد الخمسين للثورة السوفيتية. وكان مُهيأ بتشكيله العسكري لبحث صفقة سلاح جديدة.

وفوق كل ذلك فقد كان (عبد الحكيم عامر) مُكلفاً بالاتفاق على حجم قرض معقول لبرامج التصنيع، فإذا ما تم الاتفاق عليه سافر إلى موسكو الدكتور (عزيز صدقي) وزير الصناعة بادئا من إطار الاتفاق إلى تفاصيل مشروعاته. وأما بالنسبة للسد العالي فقد كان التكليف إلى (عبد الحكيم) بأن يسأل فقط عن مدى الاستعداد السوفيتي، دون الدخول في تفاصيل.

وفى أول نوفمبر وصل (عبد الحكيم عامر) إلى موسكو مُستقلاً طائرة سوفيتية، وفى اليوم التالي لوصوله كان مدعوا إلى حفل عشاء كبير أقيم في قاعة (كاترين العظيمة) ( لمعرفة المزيد من التفاصيل عن كاترين العظيمة برجاء مراجعة هذا الرابط  وهي أفخم قاعات الكرملين بأعمدتها الرخامية البيضاء الشاهقة، وجدرانها وسقوفها المغطاة بالذهب التي لم يبدع أساطين الفن أجمل منها ولا أروع.

«لن يتركوكم ولا تتصوروا أنهم سوف يسكتون عنكم، بل سوف يطاردونكم إلى آخر الأرض»ماو تسى تونج لعبد الحكيم عامر

وعندما دخل (عبد الحكيم عامر) إلى قاعة (كاترين) كان محط الأنظار بالفعل وكان ذلك راجعا ـ بطبيعة الحال ـ إلى أنه دخل في هذه اللحظة (ممثلا لمجد السويس)، وأقبل عليه كبار المدعوين يتسابقون إلى مصافحته، وكان المشهد مثيراً للاهتمام. وأقبل (ماو تسى تونج) قائد الثورة الصينية يصافحه، وظل مُمسكا بيديه، وهو يقول له: (قل للرئيس ناصر إننى أريد أن أراه، وإننى معجب بكفاحه وصلابته في سبيل استقلال بلاده وحريتها. فأنا أحب جميع الذين يحبون حريتهم)، ثم أمسك (ماو تسى تونج) بكتف (عبد الحكيم عامر) وقال له:( إننى سعيد أن وزير حربية مصر شاب إلى هذه الدرجة، فالمجهود العسكري اليوم يقتضي جهدا لا يقدر عليه غير الشباب، وأريد أن أقول لك نصيحة من صديق أكبر منك سنا) وسكت (ماو تسى تونج) لحظة، ثم استطرد قائلاً لعبد الحكيم عامر: (جنرال عامر لا تدخر جهدا في الاستعداد وفي تدريب جنودك؛ لن يتركوكم ولا تتصوروا أنهم سوف يسكتون عنكم، بل سوف يطاردونكم إلى آخر الأرض).

وفي هذه اللحظة اقترب (هوشي منه) قائد الثورة الفيتنامية العتيد من الاثنين، وهو يسحب في يده الأسقف (هيوليت جونسون)، وكان معروفاً بأفكاره التقدمية، حتى اُطلق عليه وصف (الأسقف الأحمر). وقال (هوشي منه) لعبد الحكيم عامر: (لقد كنا نتابعكم ساعة بساعة، وكانت قلوبنا معكم، وقد أحسسنا بفخر عندما رفضتم الإنذار البريطاني الفرنسي، وقررتم المقاومة مهما كانت التضحيات. إن الذي يحسب التضحيات أمام نداء الحرية سوف يجد نفسه يخسر الاثنين – حريته وتضحيته – بغير قتال).

(هوشي منه) قائد الثورة الفيتنامية

ولم يكن (خروشوف) قد التقى بعد بعبد الحكيم عامر، وأقبل السفير(سيمونوف) وكيل وزارة الخارجية السوفيتية يربت على كتف (عبد الحكيم عامر) يستأذنه في كلمة، ثم يهمس في أذنه بأن (خروشوف) يريد أن يراه بعد أن يفرغ من حديثه مع (ماو تسى تونج) و(هوشي منه)، وبعد دقائق توجه (عبد الحكيم عامر) إلى حيث يقف (سيمونوف)، ومعه السفير (محمد القوني) والسفير (نيكولاي تسائتيف)، ثم تحرك الثلاثة نحو باب القاعة، حيث كان (خروشوف) ينتظر في أحد الأركان .

وهمس (سيمونوف) في أذن (عبد الحكيم عامر) قائلا: ( هل لاحظت؟ سفير فرنسا وسفير إسرائيل كلاهما يتابع كل سكنة وكل حركة تقوم بها). وكان (خروشوف) قد مد يده إلى (عبد الحكيم عامر) مرحبا، ثم احتضنه وقبله، والأضواء كلها مُسلطة عليهما، وكذلك الأنظار.

وقال (خروشوف): ( يبدو أننا لن نستطيع أن نتحدث طويلا في هذا الجو، إننى تركتك في أول يوم إلى العسكريين، لكنى لا أنوى أن أتركك معهم طويلا، لقد فهمت أن الرئيس “ناصر” كلفك أن تبحث معنا عددا من المسائل، وأريد أن أعرف منك رؤوس موضوعاتها؛ حتى نستطيع أن نقرر من يمثلنا في التفاوض بشأنها معك).

ورد (عبد الحكيم عامر) بسرعة: (إننى مكلف بثلاثة أنواع من المسائل: سياسية – اقتصادية – عسكرية).

ورد (خروشوف) قائلاً: ( حسناً سوف أقول لك من الآن من سيتحدث معك في كل مسألة:

في المسائل السياسية سوف يكون حديثك معي ومع “بولجانين” (رئيس الوزراء) ومع “جروميكو”(وزير الخارجية).

وفى المسائل الاقتصادية سوف يكون حديثك مع “ميكويان” ( نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية) و”بيروفكين” (المشرف العام على العلاقات الاقتصادية الخارجية للاتحاد السوفيتي).

وفى المسائل العسكرية سوف يكون حديثك مع الماريشال “ماليونفسكى” (وزير الدفاع)، والماريشال “سوكولوفسكى” (نائبه)، ثم تساءل (خروشوف): (هل هذا كاف؟)

وتولى الإجابة نيابة عن (عبد الحكيم عامر) السفير المصري”محمد عوض القوني” الذي قال لخروشوف:(إن هذا أرفع مستوى يمكن أن يتفاوض فيه الاتحاد السوفيتي مع أي دولة أخرى، ونحن شاكرون لهذا الاهتمام)

كان الاهتمام بالفعل غير مسبوق في علاقات الاتحاد السوفيتي بأية دولة أخرى.

«لم أجئ إلى الاتحاد السوفيتي للمساومة، وإن مصر طلبت فعلا ما هي في حاجة إليه، وإنها لا تريد أن يتحمل أصدقاؤها أكثر مما يطيقون» عبد الحكيم عامر لخروشوف

في المسائل العسكرية لم يطُل النقاش فقد تمت الموافقة على طلبات (عبد الحكيم عامر) وجرى توقيع عقد لصفقة سلاح جديدة.

وفى المسائل السياسية بدا أن الاتحاد السوفيتي يتفهم دور مصر في العالم العربي ويقدر مقاومتها للاستعمار وأحلافه، ويؤكد استعداده لمساندة مواقفها على النحو الذى تقرره هي وتختاره.

وفى المسائل الاقتصادية كان (عبد الحكيم عامر) يحمل معه مشروع السنوات الخمس الأولى للتصنيع، وقد فوجئ بأن الجلسة المخصصة لبحث المسائل الاقتصادية لم تقتصر على (ميكويان) وحده، وإنما جاء معه كل من (خروشوف) و(بولجانين).

وعرض(عبد الحكيم عامر) تفاصيل المشروع قائلا: (إنه بالفعل مشروع طموح، لكن الاستقلال الاقتصادي هو الوسيلة الوحيدة التي تراها مصر لتحقيق ثلاثة أهداف في نفس الوقت: أن تقدر على مواجهة الحصار الاقتصادي الذى يحاولون فرضه عليها – وأن تواجه مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية بما فيها زيادة عدد السكان – وأن تأخذ دورها الطبيعي كدولة قوية في المنطقة).

وأضاف (عبد الحكيم عامر): (إن مصر لا تحتاج إلى منح ولا إلى هبات، وإنما هي تريد مصانع، وتريد أن تدفع ثمنها بشروط محتملة، فهي تريد أن تدفع بالتقسيط، وتريد أن يبدأ الدفع بعد أن تبدأ هذه المصانع في إنتاجها فعلا).

وعرض (خروشوف): (استعداد الاتحاد السوفيتي للمساهمة بـ 50 مليون جنيه في مشروع الخطة بفائدة قدرها 2.5% مع فترة سماح مدتها خمس سنوات، ومع تقسيط المبلغ على 12 سنة بعد انتهاء فترة السماح، ثم توجه (خروشوف) إلى (عبد الحكيم عامر) بسؤال قائلا: (هل تعتقد أنه إسهام معقول؟)

ورد (عبد الحكيم عامر): ( إنه لم يجئ إلى الاتحاد السوفيتي ليساوم، وإن مصر طلبت فعلا ما هي في حاجة إليه، وأنها لا تريد أن يتحمل أصدقاؤها أكثر مما يطيقون)، ثم أضاف: (إنه في كل الأحوال سوف يتصل بالرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة).

وكان هناك اجتماع آخر في الصباح، بدأه (خروشوف) بسؤال (عبد الحكيم عامر): (ماذا قال الرئيس عبد الناصر عن عرضنا أمس؟)

ورد (عبد الحكيم عامر) قائلا: ( لقد كلفني بأن أوجه إليكم شكره).

وابتسم (خروشوف)، وقال: (يبدو أنه غير راض تماما عما فعلناه هنا. نحن نريدكم أن تشعروا أننا نقدر مشاكلكم، ونريد أن نطمئن إلى أنكم راضون تماما عن هذه المهمة التي جئت من أجلها إلى موسكو).

وفي المساء تولى (خروشوف) إبلاغ (عبد الحكيم عامر): (بأن القيادة السوفيتية قررت رفع مساهمتها في خطة التصنيع الأولى إلى 700 مليون روبل أي 62 مليون جنية).

وأبدى (عبد الحكيم عامر) تأثره، ثم أضاف: (الحقيقة أن هذا التجاوب من جانبكم يستحق التقدير، وقد كنت أريد أن أطرح موضوعا آخر للمناقشة، ولكنى سوف أطرحه الآن كمجرد رأس موضوع لمجرد التفكير فيه، وليس لاتخاذ قرار عاجل، وأقصد به مشروع السد العالي. إن مشروع السد العالي كما تعرفون هو الآن محور نضالنا بعد معركة قناة السويس، ونحن نتصور أن بناءه هو الهدف لنا في المرحلة القادمة).

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل