المحتوى الرئيسى

فضفضة عامين من الاعتقال

03/07 11:27

دفعني لكتابة ما ستقرأون.. ليس فقط لأن اليوم هو ذكرى اعتقالي قبل عامين، ولكنها محاولة في سطور لا نقل خليطاً من المشاعر التي تتقلب بين تناقضاتها الناس، لكن بعد عامين من الاعتقال، تبين أنها تختلف حين تتعلق بمشاعر سجين..

فصغيرة تلك الأشياء التي تتحكم في مشاعرنا وتشغل بالنا وتقلب أمزجتنا وتهيمن على حواراتنا ومسامراتنا، ليس من بينها "التعدد" أو "رسالة إلى صديقي الذي لم يتزوج ".. وغيرها من تلك الأمور التي شغلت بال الافتراضيين من الناس، وسيطرت على تعليقاتهم، والتي تابعتها آسفاً من خلال نافذتي، شعرت بالبون الشديد.. بين ما يشغلنا ويشغل الآخرين.. نحن في وادٍ وهم في وادٍ آخر، تذكرت حينها في فيلم الملك الأسد مقولة موفاسا لسيمبا عن "المكان الضلمة".. المكان الضلمة خارج مملكتنا إياك تروح هناك!

حاولت قدر إمكاني وأنا أصف المكان الضلمة أن أقبض قلمي وأنا أتحدث عن المؤلم وأبسطه في حديثي عن المبهج والإيجابي..

لكن عذراً هو موجود بالفعل، ففي النهاية نحن سجناء.

هي حكايات، مواقف ومشاعر عبثت بقلبي عبر عامين.

قد تجدون المقال طويلاً، ولكنه غير مرتبط، وهو معنون اختاروا ما تشاءون ففيه -كما أسلفت- الأَسود وفيه الملون..

مر عليّ الخوف في محبسي مرات لا أحصرها.. أذكر هنا موقفين لعلكم عايشتم أحدهما..

حين خرجتْ زوجتي بعد إحدى جلسات التجديد، وقد فاض بها الكيل وأُعدمت الحيل في استرداد حقها أن أكون إلى جوارها في أشهر زواجي الأولى..

خرجت تصرخ في الناس عبر لافتة كتبت فيها "زوجي جعفر الزعفراني ليس إرهابيًّا" طافت بها في أرجاء أحد مجمعات التسوق تكاد تحرقها أعين الاستهجان -مكانك ليس هنا- تحرك الأمن بالطبع لإحباط محاولة تكدير صفو السادة.. تابعت ذلك لحظة بلحظة عبر وسيلة مهربة ثم انقطع الاتصال.

سأترك لكم تخيل وضعي وأنا مكبل، محتجز بين أربعة جدران وباب حديدي وابنتي ذات العشرة أشهر معرضة لتفقد أمها كما فقدت أباها من قبل.

وَصَلَنِي أن والدي وُضع على قوائم الضبط والإحضار، أظلمت الدنيا في وجهي وشعرت لأول مرة بالسجن الحقيقي، وأنا أتخيل أبي الذي لا أستطيع أن أصف ما يمثله لي هذا الرجل وأتخيل في المقابل مشاهد التنكيل التي ضجت آذاني من سماع حكاياه عن كلاب السكك وانتهاكهم كل ذي قيمة في هذا المجتمع لا كبار للسن ولا نساء الكل مستباح..

شل الخوف تفكيري قد أتحمل أنا ما أمر به لصغر سني، لكن أبدا لن أتحمله على أبي حفظه الله..

يمر الخوف علينا أكثر ما يمر حين نستشعر خطراً على أهالينا، أما عنا نحن المعتقلين فما عدنا نكترث..

حين يتعرض أحدهم أمامك لألم يدفعه للصراخ تستدعي الفطرة الإنسانية أن تتحرك لتحمله لأحد المستشفيات، أو على الأقل تستدعي الإسعاف، تخيُّلك أنك تتألم مثله دفعك للتحرك، لكن تعالَ معي للتخيل أن من يتألم أحد أعز الناس على قلبك، ولكنك عاجز عن النجدة أو عمل أي شيء يخفف وجعه..

حدث ذلك معي مرتين مع اثنين من أحبائي، وكانت آلامهما بالطبع نتاج تعذيب وحشي أفقد أحدهما ارتباط ذراعيه بجسده وأخرج العظم من مكانه، أما الآخر فقيل له من أحد المغاوير أثناء تعذيبه "والله لأعجزك" يسعي الأخير لإجراء عملية منذ عام ونصف، ويقابل طلبه بالرفض يرقد الآن في مستشفي عاجزاً عن الحركة عن سريره..

اترك لكم مرة أخرى تخيل شعوري وأنا أسمع أناتهما وصراخهما وأنت ملازم لفراشك تنظر ولا تستطيع الحركة

أستشعر الحسرة كل صباح حين يفتح علينا باب الزنزانة لأي سبب إخراج القمامة، إبلاغ عن الجلسات وأرى نظرات الفزع في عيون كل من حولي وقد استيقظوا منتفضين، لما يحمله صوت فتح باب الزنزانة كل صباح من ذكرى، هل يستطيع هؤلاء ومثلهم الآلاف أن يشعروا يوماً بأمان حتى لو عادوا إلى بيوتهم..

يغمرنا شعور الفرحة ويصبغ جدران السجن الكئيبة بعض الألوان حين يفارقنا أحد الزملاء لا لإحدى السجون الأخرى، لكن إلى بيته.. أمه.. أبيه.. زوجته.. أولاده.. تكون فرحة حقيقية من القلب، كانت أولها بعد عام كامل، وقد تسرب إلينا يقيناً أن لا خروج لهذه المجموعة إلا بعد زوال الانقلاب، لكن المعجزة حدثت وخرج خمسة مرة واحدة، دبَّ الأمل في قلوبنا من جديد، في فرج حتى وإن تأخر لكنه يأتي على أي حال..

وتداعب الفرحة قلبي أيضاً حين تحدث ثورة داخل الثورة، بسبب تضييق علينا أو على أهلينا، يمثل لي معنى أن الثورة ما زالت في القلوب، ولم تمت بعد، حتى وإن كانت وقتية شيئاً يطربني.. اللهم أدمها ثورة في القلوب على كل ظلم واحفظها من الزوال.

يحتاج الإنسان في حالتها الطبيعية أن يشعر بالاهتمام، فما بالك بحالته الاستثنائية، يزداد الاحتياج أن هناك من يشعر بك في حالتي.. حباني الله عائلة دافئة مترابطة تغمرني باهتمامها وأخص منهم تلكم الثلاثة ونصف.. أمي.. زوجتي.. أختي الكبري.. وابنتي آمنة..

أصبحن جزءاً من حبستي لا أتصور زيارة دونهم بحساب الأرقام 230 على أقل تقدير، لم يتخلفن عن واحدة على مدار سنتين بما تحملة الزيارة من عنت ونضب، ليس فقط اهتمامهن، بل إني أشعر حقيقة أن حياتهن متوقفة لغيابي، عبر نظراتهن أول الزيارة وآخرها، أشعر أن حياتهن تسحب منهن، حتى وإن ضاقت دائرة الاهتمام، لكن أحمد الله أن تبقّى في الكون من لا ينساني بدعائه وفكره.

شكراً عائلتي الدافئة وشكراً لثلاثة ونصف بطلة.

اما عن الحب فيتلخص عندي في تلك الفتاة التي تزوجتها لستة أشهر، ثم شاءت الأقدار أن أغيب عنها في غياهب السجون، كان الوجه المشرق فيها أن يتبين قدر ذلك الحب الذي يحمله لي قلبها الصغير بأسطع ما يكون في رؤيتها لها، وهي تتعثر وهي تحمل أضعاف وزنها أسبوعيًّا في زيارتي

في اضطراب حياتها -الذي أستشعره- وهي تقابل رياح تلك الحياة وضرباتها وهموماً ومسؤولية طفلتنا الصغيرة وحدها، لكنها يوماً لم أرها عابثة وشاكية..

في حضورها لمحاضراتي لدراستي العليا رغم ما بها، وتلخيصها وتحضير الأبحاث وعنائها الذي تلاقيه في ترددها عليّ لعشرات الجهات لتمكيني من الامتحان داخل السجن.

في نظرات عينها التي تقول إن الحياة فقدت المعنى بغيابي، فيصلني أنها حرمت نفسها من كل ترفيه أو تنزه لأنها لا تتصوره من دوني، إلا فيما أجبرها أنا عليه حتى يمكنها أن تكمل شعوري بهذا الحب أحد اسرار صمودي، إلى الآن فلله الحمد على تلك النعمة.. زوجتي.

أشتاق لكل لون غير الأبيض

أشتاق لكل مكان غير محدود بجدران وأبواب

تشتاق عيني لتنظر مدَّ البصر دون أن يمنعها حاجز

تشتاق قدمي للجري في خط مستقيم دون تكرار نفس الأمتار العشرة

اشتاق لإفطار بعد صوم بين أهلي في الإسكندرية وصلاة القيام على كورنيش البحر خلف الشيخ حاتم.

أشتاق لوجبة هنية من زوجتي أتبعها بكوب شاي في شرفتنا وأنا أتنهد مرتاح البال على نعمة الحرية التي لم أقدرها قبل أن أُسجن..

لا تتسع الصفحات لتعبر ويعجز فقر البلاغة لدى قلمي لأصف لكم كيف يعيش هؤلاء في المكان الضلمة

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل