المحتوى الرئيسى

"مِسْرُ" التي لا نعرفها

03/05 20:14

اعتقالاتٌ وحالاتُ إخفاءٍ قسري، قتلٌ للمواطنين في وَضَحِ النهار، وتبريراتٌ بأعذارٍ أقبحُ من الذنب، وكأن ثورتنا في 25 يناير/كانون الثاني قد شاخت ومرت عليها مئات السنين، بل وكأن الثورة لم تندلع من الأساس! يتفننون في الانتقام من هبّتنا الشعبية في 2011، لا يملّون من محاولة رَبْط ثورتنا البيضاء بالفوضى ومخططات إسقاط الدولة! يسبّون ويصرخون، وفي الدماء يشمتون، وعلى المبادئ يزايدون، ولكل معارض يُخَوِّنون، وللوطنية هُم مُحْتَكِرون.

وصلت مِصْرُ فى عهد نظام عبد الفتاح السيسي، لمرحلةٍ غير مسبوقة من التفكك الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي، والانحدار في مجالات الحياة كافة، سواء السياسية، أو الإعلامية، أو الثقافية، أو الفنية، ففي الوقت الذي يقبع فيه المناضل أحمد ماهر، مؤسس حركة 6 إبريل، وكل من النشطاء علاء عبد الفتاح ومحمد عادل وماهينور المصري، والآلاف من الأبطال المجهولين في سجون النظام.. تجدُ محمود بدر وطارق الخولى وعبد الرحيم علي ومرتضى منصور وسعيد حساسين! نوابًا في مجلسٍ أشبهُ بالسيرك المليء بالبهلواناتِ التى لا تعرفُ إلا التصفيق والتهليلِ والتبرير. وفي الوقت الذي تُكَمَّمُ فيه أفواه إعلاميين مخضرمين مثل يسري فودة، وباسم يوسف، وريم ماجد.. تجدُ أحمد موسى، ووائل الإبراشي، ومصطفى بكري وأشباههم.. يطلون عليك ليلَ نهار من الشاشات، يطعنون في شرف الثورة، ويتغنّون بعظمة السيسي وقدراته شِبْهُ الإلهية.

وكلما أعلنت أى شخصية عامة رفضها للممارسات القمعية لنظام السيسي الشمولي، يتبارى إعلاميو النظام في تشويهها والإلقاء بها في خندق الإخوان بأسلوبٍ مفضوح، ووِفْق منهجٍ مَلَّ المشاهدُ المصري منه وحفظه عن ظهر قلب، لينقسم المجتمع إلى قسمين؛ الأول يؤيد السيسي على طول الخط باعتباره البطل المعصوم ومُنْقِذ الأُمّة! ويبذل أفراد الصفوة الذين يعتلون هرم هذه الفئة كل جُهْدٍ للوقوف بجانب السيسي ونظامه الفاشل بكل ما أوتوا من قوة، وعلى رأسهم رجال الأعمال، والفنانين، والإعلاميين، بالإضافة إلى كل من تنازل ووافق على الانخراط في عالمهم السياسي المشبوه، أمّا القسم الثاني فيشمل كل مناهضي النظام الأخطبوطي وممارساته، ومنهم من سافر إلى الخارج إما هربًا من بَطْش النظام، أو نتيجة ضيق العيش تحت مظلّة نظام لا يحمي إلا الإقطاعيين ورجال الأعمال ويرمي الفُتات للعوام.. ومنهم من يعيش على أرض الوطن، وهؤلاء إما شهداء أو مُعْتَقَلون وساكنو زنازين، أو يعيشون خارج السجون ينتظرون الزج بهم داخلها.

عبد الفتاح السيسي لا يترك أي مناسبة إلا ويطالبُ فيها بالتقشّف واتّباع استراتيجية تقسيم رغيف العيش "أربع أرباع" الذي تتلخص رؤيته للنهوض بالبلاد في مبردات بيع الخضراوات، وماكينات الحياكة، ووِرَش التطريز كمشروعاتٍ قومية للشباب! عبد الفتاح السيسي الذي أعلن من قبل عدم تقديم أي خدمة للمواطنين دون مقابل وعدم محاسبة أي ضابط يقتل أي متظاهر! وعدنا مؤخرًا بمعالجة مياه الصرف الصحي لتصبح صالحة للشُرْب! لينتظر المصريون أن يتجرعوا مياه مجاريهم والنيلُ يجف من تحت أقدامهم، وأخيرًا مبادرة السيسي صَبَّح على "مسر" بجنيه، فالمشير دائمًا يستقوي على البُسطاء وأصحاب البطون الخاوية، مُبْعِدًا رجال المال والأعمال وأعالي القوم عن مرمى نيران مبادراته الطاحنة الموجّهة للسواد الأعظم من الشعب.

يطالب السيسي "المسريين" بإرسال رسالة نصيّة يوميًّا جنيه واحد ثمنها، فالبلاد تعاني حالة اقتصادية متدهورة، وهناك توجّهات بخفض رسوم مرور السفن عبر قناة السويس بنسبة 50% بعد عودتها للسفر عبر طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا، نظرًا لانخفاض تكلفته وتوفير ما يقرب من 235 ألف دولار في الرحلة الواحدة، ولكن هل يَعْدِل السيسي في تعامله مع كل فئات المجتمع وشرائحه؟ هل يجوز أن يطالب السيسي المصريين بالتقشّف والتَبَرُّع في نفس الوقت الذي تَزِيدُ فيه باستمرار مرتبات القضاة والمستشارين وضُباط الجيش والشرطة؟ ناهيك عن المكافآت التي يحصلون عليها في كل مناسبة وبدون مناسبة.. شدّوا الأحزمة المربوطة حول بطونكم، فعليكم التبرّع بالجنيه ليتمكن الأسيادُ من زيادة المرتبات وصَرْف المكافآت.

في "مِسْرَ" عليك ألا تُدْهَش عندما تجدُ توفيق عكاشة يلتقي بسفير الصهاينة، في مبادرةٍ منه للتعاون مع الكيان الإرهابي المُغْتَصِب، فبعد أن تربّينا على معاداة مشروع الاحتلال الصهيوني، علينا أن نتعرّف من جديد على كل ما نشأنا عليه، فانقلبت الحقائق واِسْتُهْدِفَت المُسَلَّمات.. فصداقة عكاشة الجديدة مع الصهاينة لم تنشأ من العَدَم، بل تسعى لتهيئة الرأي العام للتطبيع مع إسرائيل بشكلٍ علني بعد أن كانت في الخفاء من وراء الستار خوفًا من الغضب الشعبي، وبالتالي التنسيق معهم على الأصعدة والمستويات كافة، ليشمل التعاون الأمني لدحر الإرهاب الذي أعلن السيسي في وقتٍ سابق مكافحته في سيناء حتى لا يتهدد من وصفهم بـ"الجيران".

ورَغم أن عكاشة ليس من صُنّاع الرأي العام في مصر، إلا أنه يكفي طَرْحه مسألة التطبيع على الرأي العام ليتلقفها باقي الإعلاميين ويحوّلونها بحرفة شيطانية إلى رأي عام حقيقي بشكلٍ غير مباشر، فتجد وائل الإبراشي قبل عدة أيام يتحدث في حلقته عن المهزلة العكاشية ولقاء السفير الصهيوني، ثم يسمح بمداخلةٍ هاتفية لصحفي مصري يعيش في الأراضي المحتلة، ليشيد بالعلاقات الرسمية بين مصر والكيان، ويبارك زيارات علي جمعة مفتي الديار الأسبق، والبابا تواضروس الثاني، والإعلامي عماد الدين أديب الذي التقي بنيامين نتنياهو، والمخلوع حسني مبارك الذي قَدَّمَ العزاء في إسحق رابين رئيس الوزراء الأسبق للكيان، فلن تجد إعلاميًّا يطلب منك صراحةً أن تنسى الكيان المحتل وتحذفه من أجندتك التاريخية، ولكن يحقنك بأفكارٍ سامة وِفْقَ استراتيجيةٍ مُمَنْهَجَة على المدى البعيد، لتتبدل معتقداتك وتنهار أراضيك الصلبة التي تقف عليها مرفوع الرأس، لتصبح صداقة إسرائيل من المسلّمات! صَدَقَ من سمّاكم "سَحَرة فرعون".

أين ذهبت مصر الثورة؟ أين دولتنا الجديدة التي وضعنا فيها أول لَبِنَة بعد 25 يناير؟ دولتنا التي حلمنا بها -وما زلنا- تقوم على عدالة التوزيع وليس العيش على الفُتات، تبًّا لرغيف الخبز الذي يستعبدُ الفردَ في وطنٍ ليس له مبادئ، فالوطن ليس مجرد "حُضْن".. الوطن هو المكان الذي تضرب في أعماقه جذور المجتمع الواحد، هو المكان الذي يجد فيه الفرد آدميته، وتُصانُ إنسانيته، وطننا يُسَمَّى "مصر" وليس "مسر" التي لم يسلم منكم حتى اسمها.. تسعون لتغيير المُعْتَقَدَات وكل ما هو ثابت.. هناك من يتاجر بـ"مِسْرَ" بين بلدان العالم الثالث، وهناك من يدفع من عمره وسلامته وحريته لبناء "مصر" الثورة.. وشتّان بين الصاد والسين.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل