المحتوى الرئيسى

لأن العالم العربي فقد مناعته

03/03 12:42

قبل أكثر من ثلاثين عاما (عام ١٩٨٣) أصدر الدكتور جمال حمدان كتابه "إستراتيجية الاستعمار والتحرير" وأورد فيه خريطة لما اعتبره "مراكز القوة الطبيعية في العالم العربي والشرق الأوسط".

وتحت الخريطة ذكر ما يلي: لاحظ مثلث القوة المحلي في كل من المشرق والمغرب العربيين. يضم المثلث في المشرق كلا من العراق وسوريا والسعودية، أما في المغرب فإنه يضم المغرب والجزائر وتونس. وبين الاثنين تبرز مصر باعتبارها قطب القوة الإقليمي الأساسي في العالم العربي. لاحظ أيضا أن مصر بدورها تمثل أحد رؤوس مثلث القوة الإقليمي في الشرق الأوسط الذي يضم إلى جانب مصر تركيا وإيران. وهو ما وصف في بعض الكتابات بالمثلث الذهبي.

قبل سنتين من صدور كتاب أستاذ الجغرافيا السياسية الأشهر كان الدكتور حمدان قد أصدر الجزء الثاني من مؤلفه الموسوعي "شخصية مصر". وفى فصل خصصه لشخصية مصر الإستراتيجية ذكر أن لها خاصية مميزة هي أنها كانت دائما قطب قوة وقلب إقليم. "فحتى وهي مستعمرة محتلة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فقد كانت مصر -للغرابة والدهشة- مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى.. ولاشك أن هذه الصفة الجوهرية ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة".

وفى تحليله فإن الدكتور حمدان أرجع الدور القيادي لمصر إلى موقعها الجغرافي الذي تكامل فيه الموضع مع الموقع. وفي موضع آخر من الكتاب ذكر أن مصر "أصبحت مفتاح العالم العربي، إن سقطت سقط، وإذا فتحت فتح. ولذا كان الاستعمار يركز دائما ضربته الأولى والقصوى على مصر، ثم ما بعدها فسهل أمره. وهو ما أدركته وفشلت فيه الصليبيات وتعلمه الاستعمار الحديث. فكان وقوع مصر ١٨٨٢ (تاريخ الاحتلال البريطاني) بداية النهاية لاستقلال العالم العربي. بينما جاء تحرر مصر الثورة بداية النهاية للاستعمار الغربي في المنطقة بل وفي العالم الثالث جميعا".

في مقابل هذه الرؤية المصرية فإن العقل الإستراتيجي الإسرائيلي رأى العالم العربي من منظور مختلف. ففي كتاب "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" الذي أصدره عام ٢٠٠٣ مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا التابع لجامعة تل أبيب، ذكر مؤلفه العميد المتقاعد موشى فرجى ما يلي:

إن الإستراتيجية الإسرائيلية إزاء المنطقة العربية انطلقت من رفض فكرة انتماء المنطقة العربية إلى وحدة ثقافية وحضارية واحدة، والتعامل معها باعتبارها خليطا متنوعا من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني. إذ اعتادت على تصويرها على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وتركمان وآشوريين!

وبالتالي -يضيف المؤلف- فإن المنطقة ما هي إلا مجموعة أقليات ولا يوجد تاريخ موحد يجمعها. ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة، والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية، واعتبار القومية العربية فكرة يحيطها الغموض وغير ذات موضوع.

الهدف الثاني هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي الصهيوني في المنطقة. إذ ما دامت تضم خليطا من القوميات والشعوب والقوميات التي لا سبيل لقيام وحدة بينها، فمن الطبيعي أن تكون لكل قومية دولتها الخاصة. وهو ما يضفي شرعية على وجود إسرائيل باعتبارها إحدى الدول القومية في المنطقة.

استشهد المؤلف في ذلك بكتابات أبا إيبان (وزير خارجية إسرائيل الأسبق) في مؤلفه "صوت إسرائيل" التي اعترض فيها على فكرة أن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وذكر أن العرب عاشوا دائما في فرقة، وأن فترات الوحدة القصيرة كانت تتم بقوة السلاح، ومن ثم فإن التجزئة السياسية لم يحدثها الاستعمار، لأن الروابط الثقافية والتراثية التي تجمع البلاد العربية لا يمكن أن تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.

قرأت عرضا لكتاب بعنوان "نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه"، للباحث الألماني فولكر بيرتس المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، (عين أخيرا مساعدا للمبعوث الدولي لسوريا ستيفان دي ميتسورا) ووجدت أن عنوانه يعبر عن حقيقة بات الجميع لا يختلفون عليها، وربما اختلفوا على ما بعدها، أعني أن ثمة اتفاقا على أن خريطة سايكس بيكو التي استمرت نحو مائة عام تخضع للتغيير الآن، والسؤال الذي تتعدد الإجابة عنه هو: كيف يكون شكل ذلك التغيير؟

ما فهمته من عرض الكتاب أن المؤلف يعتبر أنه لم يعد في العالم العربي دولة كبرى بالمفهوم السياسي، وأن نفوذ إيران في العالم العربي أصبح أقوى من نفوذ أي دولة فيه. وإزاء الهشاشة والضعف المهيمنين عليه فمن الصعب استمرار سياسة عدم التدخل الخارجي في شؤونه، (من جانب الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي).

الضعف الذي مني به العالم العربي حين تصدع وتشرذم تجاوز الأنظمة إلى المجتمعات العربية التي ظلت مهمشة طول الوقت، الأمر الذي أصاب الأمة بنقص المناعة، وكما يحدث لأي جسم يفقد مناعته وتتكالب عليه الأمراض والعلل، فإن السقوط الذي أدعيه فتح الأبواب واسعة لانفراط عقد المجتمع العربي واستدعاء الصراعات والخلافات السياسية والعرفية والفكرية والمذهبية والدينية. وأتاح للرهان الذي أشرت إليه في كتاب العميد الإسرائيلي المتقاعد موشى فرجى أن يتحقق على أرض الواقع.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل