المحتوى الرئيسى

هوامش على دفتر «الخيال»

03/02 13:57

أسرد هنا بعض الأفكار المتناثرة، وغير المترابطة أحيانا، التى راودتني على مدار الشهور الأخيرة بعد أحكام السجن الأخيرة والتى تمس قضايا حرية الرأى والخيال. تركت العنان لهذه الأفكار وهى تجوب كل جوانب الأزمة كما أراها:

أعتقد أن هناك مشكلة فى كل الأفكار المطروحة والتى يتم الدفاع عنها من الجبهتين المتنازعتين، سواء كانت جبهة "حرية الخيال" أو على الطرف الآخر جبهة "خدش حياء المجتمع أو ثوابته الدينية أو الأخلاقية". وربما تكون الفكرتان قناعين لصراع آخر يدور حول السلطة يأخذ طابعا معاصرا، ولكنه فى الحقيقة يعكس كونه صراعا غريزيا، ولم يدخل المفهوم الحديث للصراع: كعلاقات بين قوى لها تمثيل اجتماعى ما. يذهب المجتمع الآن لتكوين كتل على أساس مهنى لعمق هذه العلاقة المهنية وارتباطها بمصالح مباشرة لأفرادها. أما الصراع هنا فيضفى عليه الطابع الرمزى، لغياب تمثيل واضح وراءه، إلا التمثيل التاريخى لقوة الخيال وأهميته، وأيضا لأهمية المحافظة على الأخلاق العامة، لذا فهو مختلط ويخفى أشياء كثيرة مستبطنة فيه.

كما أن مطلب "المحافظة على الحياء العام" غير واضح، إلا أن مطلب "حرية الخيال" الذى صيغت فيه القضية الخاصة بالكاتب أحمد ناجى على سبيل المثال، كأنها أحد بيانات السورياليين، مطلب يحتاج إلى تعريف، ربما هناك اتفاق ما على مصطلح "حرية التعبير"، وهذا ينطبق على القضايا الثلاث التى تضم قضية الأستاذة فاطمة ناعوت والأستاذ إسلام البحيرى.

أعتقد مصطلح "حرية التعبير" يختلف نوعًا ما عن مصطلح "حرية الخيال". "حرية التعبير" فرض اجتماعى معترف به، وملموس، حتى ولو كان مُصادَرًا، أما "الخيال" فله قوانين أخرى متعالية ومتخصصة تحكم عليه. لذا فهو ممثل، فى لحظة تجليه والحكم عليه؛ لجماعة متخصصة من البشر. بالتأكيد لا أقصد استعماله ولكن قياسه. لذا هو غير قابل للتداول والدفاع به كمصطلح يقاس عليه اجتماعيا.

ما مدى مساحة وحدود هذا "الخيال"؟ ما مسئولية هذا "الخيال"؟ لا بد من إعادة الاتفاق على هذه الحدود والمسئولية، سواء للمصطلح، أو للمجال (1) الذى يعمل به داخل المجتمع الثقافي والإنساني.

مفهوم "الخيال" غير ناضج فى تاريخنا الحديث والقديم ومثار اختلاف دائم وليس له حدود واضحة تتيح له الحرية غير المشروطة. إن كان "الخيال" صفة إنسانية هامة متعالية ومتجاوزة، إلا أنه بالضرورة يتشكل تبعًا لصياغة وتفاعل الفرد صاحب الخيال مع مجتمعه. لذا فالمجتمع مشارك بجزء ما فى صناعة هذا الخيال الفردى. خيال المجتمع، ولا وعيه، جزء من خيال أفراده وتواريخهم وأحلامهم، ومكبوتهم النفسى.

كذلك هناك تحول شديد حدث فى مفهوم "الحياء" نفسه، وأساليب خدشه، والذى أصبح جزءًا من حياة اجتماعية تطورت وتغيرت مفاهيمها وأجيالها، وتم تبديل مفهومه فى الحياة العامة بوضوح، بينما النص القانونى والأخلاقى ظلا ثابتين.

"الأنا المراقِبة" والزاجرة (داخل الفرد أو التى يدخل في تكوينها مطبقو القانون) والتى تحافظ وتقمع؛ هى الأخرى تغيرت عن مكانها القديم، وتغير مفهومها من خلال علاقتها بالمجتمع. وبالتالى القوانين نفسها أصبحت فى حاجة لتجديد وتكوين "أنا عليا" مختلفة، تبعًا لتحولات عميقة مر بها المجتمع والفرد.

هذا النوع من القضايا المثارة الآن يجر المجتمع كله إلى مواجهات غير مستعد لها، لأنه لا يملك توصيفًا لما يدافع عنه، أو يرفضه. ربما الخاسر/ المستفيد الوحيد هو الكاتب/ صاحب الرأى الذى تحول لأضحية دون إرادته، والذى اعتقد فى لحظة ما أنه يحلق بخياله وبأفكاره فوق المجتمع، مثل عباس ابن فرناس.

لن تؤثر هذه القضايا فى المتن العام للمجتمع، ستثير ضجة على هامشه المستريح، كأن المجتمع فى لحظات ضعفه المستمرة يستدعى القضايا السطحية وغير الممثلة له، التى لم تغيره، أو هو دائما مقاد لها، للفوز عليها أو لتفوز هى عليه. بمعنى ما المجتمع/ الناس يختار القضايا الخاسرة (التى لن يحدث فيها جدل بين عناصرها إنما تسكين أو انتصار لإحداها. فى كلتا الحالتين: المجتمع هو الخاسر.

ربما قضية مثل قضية المفكر الراحل الدكتور نصر أبو زيد توفَّر لها عناصر الجدل، خلال كسر حاجز التخصص العلمى ووصولها إلى المجتمع وتفاعلها داخله. ربما لوجود حدود علمية واجتماعية لجأ لها الطرفان المتنازعان، باختلاف شرعية وإنسانية هذا اللجوء، والمستفيد هنا هو هذا المجال الذى يحكم على هذا النوع من الأفكار الدينية، سواء كان القضاء أو المجتمع، الذى كان بشكل ما شريكًا. كانت هناك فكرة شاملة ولها تمثيل اجتماعى. يصحبها معها وعلميتها المتفق/ المختلف عليها، ومرجعيتها العامة جعلها قضية مؤثرة. هى بالنسبة لى موقعة حقيقية.

خلال أغلب المواجهات التى حدثت سواء فى قضايا دينية أو قضايا حرية الرأى أو الخيال، كانت المواجهات سطحية، أى غير قابلة للحوار بين أطرافها، كل طرف متمسك بأشكال من القواعد غير الواضحة التى تحول بين التفاعل، دفاعًا عن الفكرة المتعينة أكثر من المضمون الذى يتم الدفاع عنه. كأن المجتمع حتى الآن يرشح أفكارًا سطحية ليتم الاختلاف عليها بدلا من ترشيحه، عبر أعضائه المتناحرين، أفكارًا جدلية، أو جذرية.

ربما نحتاج لموقعة حقيقية، قريبة من الناس، أو تقارب منهم. نحتاج لمعادلة ماسة، ولكنْ لها مجتمع، ومشترك عام، وليس هامشيا، على أهميته، كتلك القضايا الثلاث باختلافها.

أرى فى القضايا المطروحة الآن بشأن حرية الرأى والتعبير والخيال، أنها صراع بين سلطتين رمزيتين، كل منهما تحاول، باختلاف قوتها الرمزية (2)/ والمادية أحيانا، سلطة الخيال وسلطة الزجر. كلاهما يدافع عن سلطة مطلقة يريدها، صراع بين سلطات، وكلا الطرفين يتكلم باسم السلطة المطلقة للمجتمع، واحد باسم الخيال والآخر باسم التقاليد والآداب العامة.

هناك سلطة متنازع عليها، بين الكاتب/ صاحب الرأى، فى هذه الحالة، بوصفه "نبيا" أو "رائيا" وممثل القانون كأنه الحامى لهذا المجتمع. هذه القوة الرمزية الممنوحة مسبقا سواء للكاتب الذى ينوب فى هذه الحالة عن آخرين بحكم أنه يكتب للآخرين، وأيضًا ممثل القانون، الذى يحافظ على استقراره من وجهة نظره.

السلطة الرمزية أو الجهة، المنوط بها أن تحاسب الأديب أو الكاتب، غير موجودة أصلا حقيقة ومجازًا. هذه السلطة الرمزية تتكون من تأثير جموع مثقفين وكتاب، تحولت كتاباتهم إلى إحدى حساسيات المجتمع وطريقة لنظر الأفراد إلى حياتهم. لذا فهذه المنطقة فارغة، حائط الصد ليس له رصيد حقيقى، لذا هناك مواجهة يقوم بها الكاتب/ صاحب الرأى بمفرده مع المجتمع، فى أسوأ تمثيل وتقليدية له. معركة مكشوفة، بدون أى توسط نوعى أو معرفى.

ربما نُضج المجال الذى يتحرك فيه الأدب، كان من الممكن أن يمنع هذا التورط أو هذه المجازفة غير المحسوبة، أو يشيع جوا علميا مختلفا، ولكن للأسف هذا المجال الذى يعرِّف الأدب ويغير من قواعده باستمرار غير موجود أساسا، ونحن نعتمد فى الحكم على هذه القضايا على مرافعات قديمة فى مصر الليبرالية فى العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من قبيل "الشعر الجاهلى" و"لماذا أنا ملحد". خيال المجتمع متوقف عند هذا التعريف القديم، ولم ينتج قواعد جديدة.

ربما رمزية فكر الكاتب هنا هى الجزء الأضعف والأقوى فى الوقت نفسه. كونه يعتمد على الخيال أو الرمز بدون سلطة حقيقية ممنوحة له سوى الإيمان بهذا الخيال -أو تمثيله لطبقة اجتماعية أو لأفكار يقف وراءها، أو يساندها شرائح من المجتمع، ويدافع عنها لأنها جزء من أحلامه عن نفسه، أو جزء من واقع- سوى السلطة الرمزية الكتابة.

من الذى منح الكاتب/ النص حق عدم مساءلته، لا هو.. لا نصه؟ أى علم يتم مساءلته من داخل قواعد بداخله، من تطوره وعلاقاته مع المجال الذى ينمو فيه كما يقول بيير بورديو فى كتابه الهام " قواعد الفن". الكتابة، باختلاف أنواعها، أحد العلوم بالمفهوم الواسع للعلم الذى يعتمد على أدوات ضبط وتطور ذاتيين. من الذى منح الكاتب هذه اللا مسئولية إلا لكونه يرى ما لا يراه الآخرون، بوصفه "رائيا" (3). حصانته فى رؤيته وقوتها فى فتحه لمجالات أوسع فى الخيال والوعى، فى الفكر والحرية والتداول، لذا هناك "رسالة" ما، حتى ولو كان ظاهرها عكس هذا. هناك رغبة "تنويرية" كامنة وصادمة. بهذا الشكل سيكون التغيير للمجتمع أحد أهدافه. إنها "نبوة مقنعة" وربما "لا مبالية"، تظهر بأشكال جديدة غير تقليدية، أو تقليدية.

هناك سلطة ممنوحة للأدب وللخيال، تصل إلى حد التقديس لجوهرها، وغير مدفوع ثمنها حاليا. ربما نعيش حتى الآن على الميراث السابق (المصرى والأجنبى) فى تأسيس عرش قداسة الخيال. قداسة تجعلك لا تسائل الأديب أو العمل الأدبى، فله كامل الحرية، فهو يكتب تحت حصانة هذا العمل الأدبى. حرية لم تمنح لأى سلطة أخرى فى المجتمع. أيضا هى حرية لم تسهم فى تطوير النوع الأدبى الذى تعمل داخله، أو الدراسات. ربما ما يشفع لأن نطلق العنان لهذه الحرية هو تطوير النوع الذى يعتمد على هذه الحرية.

هل كل عصر قادر على أن يطرح "رسلا" للكتابة يريدون أن يسبقوا المجتمع ويفتحوا منافذ خياله؟

ربما القضايا المطروحة التى تمس الأديان ستكون لها تأثير أكبر، لأنها ممثلة أكثر لفئات اجتماعية، أما القضايا التى تخص الأدب، فستظل معاركها دائرة على هامش المجتمع، لأنها غير ممثلة إلا للفئة النوعية التى تؤمن بالخيال وبالسلطة الرمزية المتمثله فى الأدب وخياله.

حضور الجانب" الغربى" فى مثل هذه القضايا، بالنشر أو الدفاع والحشد بصفته مرجعًا؛ عادة ما يشوه المعادلة، ويصعِّدها بشكل يمكن أن يلغى أى جدل ممكن أن ينشأ. يدخل فى المعادلة بقوة دفاعًا عن أفكاره هو ويحولها لقضية سياسية بعيدا عن الخيال أو حريته. يتلاعب بها ويأخذ خطوة أوسع من أى خطوة داخلية فى التأييد، لذا يقف كحاجز بينى، كمثقف(4) مصرى، وبين قضية هامة كقضية حرية الخيال، أو الإبداع.

ربما نعيش فى مجتمعنا ونحلق بخيال وعقل مجتمعات أخرى، وهذا حق للجميع أيضا. يجب أولا أن نفض هذه الإشكالية حتى تكون تضحياتنا غير مجانية ولها القدرة على التوسيع من خيال مجتمعاتنا بالفعل. أن تكون القضية ليست مجلوبة بالقوة داخل متن مغاير من الصعب أن تتفاعل أو تغير من بناه المحافظة أو البرجوازية، أو المختلفة. أخشى أن يكون هناك، خلف ما نختلف عليه، ما يمكن تسميته "استعمار الخيال" و"الخيال المستعمِر والمستعمَر".

فى كل الأحوال نحن، كمثقفين(4) ومواطنين، مضطرون إلى أن ندافع عن خلود لفكرة لا زمنية مثل "الخيال"، مضطرون إلى أن نفعل هذا. كما نفعل وندافع عن ركن من عقيدة. كونها حافظت على طاقة داخل الفرد والمجتمع لم توفرها أو تعوضها القوانين أو "الأنا المراقِبة".

داخل عقد اجتماعى جديد لا تمجيد لأحد، ولا تعالٍ، وكما أن هناك قوة مكتسبة للتعقيب على أحكام القضاء، هناك نفس القوة فى إعادة النص الأدبى ومحاسبته اجتماعيا وفنيا ضمن قواعد علمية واجتماعية يمكن أن نتفق عليها، أو على الأقل نسعى حثيثًا لوجودها.

فى النهاية، وحتى تنظيم هذا المجال الذى يتحرك ويُنتج فيه الأدب أنا مضطر إلى أن أقف مع أى شخص يمكن أن يُسجن فى سبيل رأيه حتى لو كان مخطئًا، أو متجاهلا بكل هذه الظروف التى تحيط بعملية الإبداع وشروطها، وحتى يكون مستجيبًا فقط لتعاليه عن المجتمع، أو لأحلامه الذاتية، أو لشكل أدبى مغاير؛ فى هذه الحالة أنا مضطر إلى أن أقف معه للنهاية، وضد سجنه.

(1) يفسر بيير بورديو فى كتابه "قواعد الفن" الذى ترجمه الأستاذ إبراهيم فتحى والصادر عام 2012 الهية العامة للكتاب، يفسر المجال "كل مجال (به العديد من العلاقات التنافسية) تنظمه قواعد غير منطوقة تحدد ما الذى يصح قوله أو إدراكه داخله، وما الذى ينبغى ألا يرد ذكره على اللسان، أو ينبغى أن يظل خارج مدى الرؤية. تلك القواعد المنظمة تسمى نمطا من "العنف الرمزى" عنف شرعى لا يلحظه أحد، عنف الثقة وإضفاء القيمة والالتزام والولاء.

(2) يعرف بيير بورديو الرأسمال الرمزى فى كتابه السابق "رأس المال الرمزى: كل قدرة اجتماعية تستطيع أن تنتج آثارًا أو تؤدى إلى نتائج، بوعى أو بدون وعى، باعتبارها أداة فى عملية التنافس الاجتماعية (الطاقات اللغوية السليمة، الدرجات العلمية، جسم الممثلة....).

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل