المحتوى الرئيسى

صاحب هذه الأسطورة

03/01 23:22

التاسع والعشرون من فبراير يوم نادر مثله، يزورنى كل أربع سنوات، فأدرك أننى عايشت جانبا من أسطورة هذا الإنسان الفريد، وشاركته بعض تفاصيل حياته المذهلة.

طفلا كان فى برارى القرية شبه الصحراوية، يستمع إلى الراديو، ويحلم بمدن الدنيا البعيدة وقاعات المدرسة، حين احتاجت العائلة إلى «يده» العاملة بعد سنة رابعة، فى مدرسة زخارى بالمدينة القريبة. حرمته الظروف من التعليم، لكنه واظب على قراءة الصحف والمجلات، وشراء الكتب المهمة والروايات الشهيرة.

مع أولاده يحكى قصص الأنبياء، ويشرح شعر أحمد شوقى أو إبراهيم ناجى. يطلب الإنصات لعبدالوهاب فى تلحينه التعبيرى لجملة «لنحيى الكنيسة والمسجدا»: اسمعوا الكلمة الأولى بطريقة الترانيم، والثانية مثل الأذان.

يجمع الكتب والأعداد التاريخية للصحف فى صندوق حديدى بقفل، سيفقده بعد ذلك فى فوضى حرب أكتوبر.

كان يفتح أطلس العالم، ويحكى عن الحرب العالمية أو مؤتمر باندونج. يتذكر صرخة عبدالناصر على منبر الأزهر: سنقاتل.

شاهد الزعيم مرتين، عندما أوقف سيارة عسكرية فى أتون حرب 1956، وفوجئ بعبدالناصر فى النافذة، فهرب منه الكلام، وعادت السيارة للانطلاق. كان ناصر فى طريقه لقيادة المعركة فى بورسعيد بنفسه، لكن الجيش منعه من المرور خوفا على حياته.

المرة الثانية استمع إلى خطبته فى الاستاد. كان قد أصبح عضوا بالاتحاد الاشتراكى، مؤمنا بشعارات العدالة والمساواة.

امتحان حياته الأكبر كان بعد النكسة. فقد أغلقت المدارس أبوابها فى خط القناة، وسحب جميع سكان القرية أبناءهم من المدارس إلى الغيطان، إلا هو. قرر إرسال أطفاله وحدهم إلى الدلتا، ليتعلموا. كان الأصعب فى هذه المغامرة توفير الميزانية لاستئجار بيت ريفى، ومصروفات إدارة البيت، الذى تقوده طفلة فى الرابعة عشرة.

المغامرة أدهشت العائلة والجيران، «هيطلعوا ايه ان شاء الله يعنى؟ خليهم فى الغيط أحسن لك». هكذا قالوا ولم يرد، وهكذا زاد إصرارا.

زيارته نصف الشهرية لأولاده هناك كانت حدثا لا تصفه الكلمات، يجلسون حوله، فيحدثهم عن قريتهم البعيدة، ويحمل تحيات الأم التى يرونها فقط فى إجازة الصيف، ومع التحيات «أكلة حلوة» من يديها.

يضيق الرزق أحيانا عن هذه الأكلة الحلوة، فيذهب بعد عمل الحقل إلى ترعة الإسماعيلية، على كتفه شبكة صيد، وفى قلبه كل العشم فى ربنا.

تعليم الأولاد كان امتحانا لا يقارن بجحيم القصف الذى اقترب كثيرا من حدود البيت. ثلاث غارات تشنها الفانتوم على الكوبرى القريب، وصاروخ ينفجر على أطراف جنينة المانجو أمام البيت، وينجو الجميع فى معجزة يصعب تكرارها. كان يكتب تاريخ الغارة على نتيجة الحائط، ثم يفتح الراديو على إذاعة لندن، ليعرف حقيقة ما جرى، بعد أن فقد ثقته نهائيا بالسلطة وإعلامها.

تهرب السنوات من يديه، وتخفت ابتسامته فى السنوات الأخيرة، لكنه يصبح محاطا بقلوب تعبد أنفاسه، وتدعو له بالصحة والسعادة، فهو شجرة العائلة الوارفة، وحنانها الذى لا يخفت مع السنوات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل