المحتوى الرئيسى

تحرير العقل.. إشكالية الثقافة والدين فى خطاب جابر عصفور

02/28 18:13

يحمل جابر عصفور على كاهله مسألة "عقلنة الفكر الإسلامى المصرى" وذلك من خلال رصده وتفكيكه وتحليله للخطاب الدينى المسيطر، سواء داخل المؤسسة الدينية الرسمية، أساسًا، أو بعض الخطابات خارجها، مستصحبًا معه الموروث التاريخى الاعتزالى والرشدى، وفى ذات الوقت تاريخ حركة التجديد والإصلاح الإسلامى، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى المرحلة شبه الليبرالية وتجلياتها فى إسهامات المفكرين المصريين، لا سيما أستاذه العميد د.طه حسين، وبعض مجايليه ومشايخ الأزهر الذين انفتحوا على عالمهم ومجتمعهم شبه المفتوح آنذاك من أمثال المشايخ: مصطفى المراغى وعبد الحميد بخيت، ومحمود شلتوت ومحمد عبد الله دراز.

يركز الكاتب القدير فى كتابه "تحرير العقل" على عديد من القضايا والإشكاليات الهامة، وعلى رأسها العلاقة بين الثقافة والدين، والتنوير والتراث، وذلك على النحو التالى:

يحدد الكاتب عدة أوضاع للعلاقة بين الثقافة والدين فيما يلى:

1- الوضع الأول: الدين مكون من مكونات الثقافة

يرى الكاتب "أن الدين مكون أساسى من مكونات الثقافة فى كل مجتمع من المجتمعات البشرية، ويمكن أن يكون عنصر ضعف أو قوة بحسب طبيعة الفكر الدينى السائد من حيث قدرته على الاجتهاد، أو غلق أبوابه.

فى هذا الصدد يركز على محورى الجمود والانغلاق، والتجديد والانفتاح وإعمال سلطة العقل، ومن ثم يذهب إلى أنه: "إذا استبدل الفكر الدينى الأتباع والتقليد ومعاداة العقل، هنا تبدو معاداة العقل والاختيار الحر للإنسان. وهو الدرس الأول للحضارة الإسلامية فى العالم الوسيط التى فرضت وجودها على العالم، من خلال إعمال سلطة العقل والاجتهاد الذى رفع لواءه الكندى وابن سينا وابن رشد. وفى ظل معاداة العقل ومناصرة التقليد الجامد تم حرق كتب المخالفين فكريا ولم ينج من الحرق حتى كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالى، ومن ثم غربت شمس الحضارة الإسلامية وهاجرت أفكار ابن سينا وابن رشد إلى أوروبا.

وذهب الكاتب أيضا إلى أن ازدهار الحضارة الإسلامية مع تلازم السلطان العادل والفقهاء المجتهدين، وتتقلص فى ظل سلاطين الاستبداد وفقهاء السلطان".

إذن حرية العقل وسلطته فى النظر للظواهر والأشياء والأفكار الأخرى، وعدم الحجر عليه هو الذى يؤدى إلى ديناميكية الفكر الدينى وقدرته على التفسير والتأويل للنصوص الدينية فى تعاملها على الواقع المتغير وحركتها نحو المستقبل.

الوضع الثانى: الدين كموضوع للإبداع الثقافى

وهذا الوضع يراه د.جابر عصفور بدءًا من حسان بن ثابت شاعر الرسول الأكرم إلى حديث الروح لمحمد إقبال، إلى نهج البردة لأحمد شوقى، إلى بردة البوصيرى قبله ومثلها آلاف القصائد والأعمال الأدبية حول السيرة، والفنون الإيرانية الإسلامية، ومنمنماتها ورسومها للرسول الأكرم والصحابة على خلافٍ مع الفقه السنى الأغلب المعارض لتصوير الرسول والصحابة والأنبياء السابقين.

الوضع الثالث: توازى الدين كبنية من النصوص مع الثقافة كبنية موازية من الموروثات والمكتسبات والعادات والمبادئ والقيم التى هى أسلوب حياة، وكلاهما متداخل ولكن الكاتب يفصل بينهما لضرورات التحليل.

فى المدخل لتحليل هذه الإشكالية الهامة حدد الكاتب الكبير القواعد التالية:

1- النهضة ليست استعارة سلبية لنموذج مثار

2- الشرط التاريخى لحظة التهيؤ للانطلاق

3- علاقة التضاد بالآخر ومحاولة الإفادة من تجربته وتقدمه والتخلص من التبعية

4- القدرة على صياغة أسئلة اللحظة التاريخية التى عاشوها، وتأسيسهم لحركة الاستنارة نابع من هذه الأسئلة

5- العلاقة المتواترة بعناصر التراث الممتدة فى حاضرها بوضعها إمكانات للتقدم والتخلف

6- إعادة تأويل التراث بما يؤكد التقدم لا التخلف، والانفتاح لا الانغلاق والابتداع لا الاتباع، وحيوية التنوع والمغايرة لا جمود الإجماع والمصادرة

المقدمات/ القواعد الست السابقة السرد هى بتعبير د.جابر عصفور، استخلاصاته لكيفية تعامل مفكرى النهضة المصرية والعربية مع التراث والعلاقة مع النموذج الغربى، ويؤصل هذه المقدمات/ الاستخلاصات على التراث الفلسفى العقلانى بدءًا من معتزلة البصرة وانتهاءً بتلامذة ابن رشد فى قرطبة، وأنهم شكلوا سند رواد النهضة فى الحوار مع أفكار التنوير الأوروبى، والتعامل الانتقائى معها بالقبول والرفض، ومن ثم كانت استراتيجيتهم الفكرية هى التأويل، ومن ثم إعمال العقل التأويلى الابتداعى بديلا عن العقل النقلى الاتباعى.

إن الهاجس الأساسى/ والإشكالى فى مقاربة جابر عصفور هو إشكالية شرعية العقل النهضوى المصرى والعربى، وأنه شكل مغامرة ذات جذور فى الموروث الكلامى/ الفلسفى العربى الاعتزالى والرشدى، ومن ثم يعتبر بعض مفكرى النهضة أنهم بتعبيره "وارثى إبراهيم بن سيار النظام والكندى والفارابى وإخوان الصفا وأبى حيان التوحيدى ومسكويه وابن سينا وابن رشد وغيرهم".

والسؤال هنا: أين نضع من رواد النهضة، داعية التقنية بتعبير عبد الله العروى عن سلامة موسى وبعض مجايليه ضمن هذه المشروعية، وأين من هؤلاء بعض المجددين من الأزهريين الذين سبق لنا إيراد أسمائهم سلفًا؟

وأين نضع فقهاء مدرسة الحقوق المصرية فى طلائعها الأساسية من الذين شاركوا فى تأسيس المنظومات القانونية للدولة الحديثة عن المدرسة القانونية اللاتينية فى غير نظام الأحوال الشخصية؟ وهم بناة أساسيون للدولة الحديثة؟ صحيح أنهم قاموا بترجمة النظريات والمصطلحات القانونية الحديثة، من خلال إيجاد تعريب لها من داخل التراث اللغوى والاصطلاحى الشريعى إلا أنهم كانوا ذوى نزعة حداثية بامتياز، إلى أن انقلب غالبهم جريًا وراء التغير فى المزاج الدينى الأصولى وراحوا يحاولون البحث فى الميراث الفقهى الإسلامى لإثبات أصالة ما لهذا التراث وأنه أصّل لدى قلة منهم، للمفاهيم والنظريات القانونية الحداثية والمعاصرة.

بعض المشايخ المجددين اتخذوا من الاجتهاد ومفهوم المصالح المرسلة والعرف والقياس كمصادر للأصول، مع بعض من الاعتزال لدى بعضهم، طريقا للتجديد، ومن الشيق ملاحظة أن بعضهم لم يذهب مع العقل ومغامرته إلى مداراتها غير المحدودة، وبعضهم ذهبوا مع المبادئ العامة الكلية للشريعة تفسيرا وتأويلا، ولم يذهبوا عميقا بحثًا ودرسًا للموروث سياقيا وتاريخيا وإشكاليا حول قضايا محددة، وقد يكون ذلك أحد أسباب تراجع مشروعات التجديد الدينى، وطابعها الجزئى ومناورات بعضهم مع المؤسسة والقوى المتشددة داخلها، وخارجها. 

من ثم نستطيع القول إن ثمة بعضا من الخصوصية فى مغامرة التجديد المنضبط لدى المشايخ عن بعض الأفندية ومناوراتهم التوفيقية التى وصل بعضها إلى مأزق تاريخى. بعض المشايخ لم يكن ينظر إلى المستقبل ويؤمن به، وإنما كانوا مسكونين بأسئلة اللحظة التاريخية، ويحاولون إيجاد إجابات حولها.

فى هذا الصدد يمكننا ملاحظة أن تراجع التجديد فى الفكر الدينى أدى إلى انتقال الفكر العربى من النزعة التأملية فى الكتابة إلى إجراء بعض الدراسات والبحوث حول مدارس ورواد التجديد، ولماذا وصلت "مشاريعهم/ مناهجهم"، وأفكارهم إلى مأزق تاريخى؟ ولماذا لم تستكمل هذه المحاولات التجديدية مهامها التاريخية؟ 

ولعل أبرز الأمثلة على ذلك مدرسة صديقنا الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفى وتلامذته فى تونس.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل