المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (10).. ما معنى “ازدراء الأديان”؟

02/27 10:31

تعالوا نتأمل فعل الازدراء، إنه يعني مزيجا من الاحتقار للدين والاستهانة بمشاعر أتباعه بشكل عمدي مقصود.. إذن فالركن المادي من الجريمة هو القيام بعمل يمثل بشكل صريح ومباشر وقاطع احتقارا للدين أو بعض مكوناته الأساسية المتفق عليها من مجمل أهل هذا الدين، وأما الركن المعنوي منها والمتمثل في الجانب النفسي، فهو وجود قصد وتعمد لإهانة الدين وجرح مشاعر معتنقيه من منطلق كراهية أو أية مشاعر سلبية ضده أو ضدهم.

هذا هو فهمي -سواء كشخص أو كمسلم أو كدارس للقانون- لقيام شخص أو أكثر بفعل يوصف بازدراء الأديان.

بالطبع فإن المتمسكين بقوانين ازدراءالأديان في صورتها الحالية، لن يتفقوا معي، فهذا الفهم للمصطلح سيخرج من تحت طائلته أفعالا مثل الاجتهاد المخالف لجمهور الفقهاء، الانتقاد لبعض ما يعتبر من ثوابت الدين، انتقاد بعض الشخصيات الموصوفة بـ”الدينية”، المزاح غير المسئول -بل وربما حتى المزاح البريء- في بعض أمور الدين، طرح أفكار جديدة عن العقيدة أو الشريعة أو حتى التاريخ الديني.. وغيرها من الأفعال والمواقف التي يترصدها المتنطعون والمتشددون.

إذن.. فبموجب هذا الفهم الذي أطرحه لازدراء الأديان لن يحبس إسلام البحيري لانتقاده صحيح البخاري، ولن تعاقب المدرسة المسيحية التي قالت إنها تحب البابا شنودة أكثر من الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ولن يحاكم من يجاهر بإلحاده على مواقع التواصل الاجتماعي..  فكل هؤلاء لم يرتكبوا -في رأيي- إهانة للدين الإسلامي.

المفترض من تجريم فعل ما أن يكون مقصد المشرع منه حماية “السلام المجتمعي” من الفتن، لكن ألا تشكل حرية الرأي ركنا أساسيا في هذا السلام المجتمعي؟

وفي المقابل، ألا تمثل حالة التربص والتحفز و”التسخين” والحض على افتراض سوء نية الآخر خطرا على سلم المجتمع واستقراره؟ بلى والله، بل وإنها كذلك تصم المسلمين والإسلام بالتعصب والعنصرية.

والمثير للتأمل أن في التاريخ الإسلامي سابقة شهيرة للنتيجة السلبية لهذا التربص، فبموجب تهمة مشابهة تعرض الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله للحبس والضرب بالسياط في عهد المأمون لمخالفته القول “الرسمي” بـ”خلق القرآن”، والمساحة تضيق عن سرد الوقائع، ولكني أحيل القاريء لكتابات الباحثين في التاريخ الإسلامي في هذا الشأن.. الفرق أن هؤلاء الذين يتربصون بكل صاحب رأي ديني مخالف لهم يصنفون تلك الحالة باعتبارها “طغيان من الدولة” على الرافضين لنظرية خلق القرآن.. ماذا لو تناولنا نموذجا معكوسا؟ أعني اغتيال الخوارج للإمام علي لأنه -من وجهة نظرهم- قد أهان الدين بموافقته على إجراء التحكيم، إننا أمام حالة لاعتبار رجل كان يوما ما ثلث الإسلام، وهو من هو في بلائه الحسن لنصرة الدين، مارقا عن هذا الدين بسبب خلاف في الرأي، واستباحة دمه بناء على ذلك.

وللقائلين بخطأ قياسي على هاتين الحالتين، إنني أعلم جيدا أن موقف كل من المأمون والخوارج كان مخالفا لجمهور المسلمين، ولكني أتحدث هنا عن فكرة اعتبار الاختلاف اعتداء على الدين في حد ذاتها بغض النظر عن أعداد معتنقي هذا الرأي أو ذاك.. فمجرد اعتبارها مقبولة يفتح الباب للمفاسد.

ثم إن حالة الافتراض المسبق الجاهز الآلي لسوء نية كل من يتكلم في الدين بغير المألوف أو المعتاد، هي مما يغلق أبواب الاجتهاد والبحث والإثراء للمحتوى الديني.. واعتقد أن ما نعانيه كمسلمين من هذا الجمود واضح للمتأمل.

وعودة للأمثلة التاريخية، فعن اعتبار مخالفة قول العالم أو الفقيه أو الشيخ ازدراء للدين، بمّ تفسرون إذن موقف الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من المرأة التي ردت عليه قوله في مبلغ صداق النساء عند الزواج عندما أراد وضع حد أقصى له، فراجعته أمام الناس وهو على منبره، فقال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”، لاحظ أن هذه المرأة ردت القول على أحد أفقه أهل الإسلام أمام الصحابة، هل قال لها أحدهم زاجرا “من أنت لتردي على عمر قوله وهو من هو علما”؟ كلا لم يحدث.. ولكن ماذا لو حدث هذا في زماننا هذا، وعارض البعض قول شيخ شهير متوسط العلم؟ اعتقد أن النتيجة معروفة.

لم يزجر الصحابة المرأة، لأن السلف الصالح كانوا يدركون سماحة الإسلام أكثر مما يفعل أولئك المدعون للغيرة على الدين في أيامنا هذه.

وأزيدكم من القصيد بيتا، فإن السماحة في تقبل الكلام في الدين بلغت حد تقبل بعض المزاح البريء فيه.

فمثلا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن الجنة، فذكر أن رجلا من أهل الجنة طلب من الله أن يجعله يزرع في الجنة، فزرع حتى تطاول زرعه.. هنا قال أعرابي للرسول عليه الصلاة والسلام “إني لا أراه إلا مهاجرا أو أنصاريا، أما نحن أهل البدو فلا إرب لنا في الزراعة”، فضحك الرسول والصحابة.. أو عندما جاءه رجل فسأله “يقال إن المسيخ الدجال يجيء بالثريد، ويكون الناس في جوع وقحط، فهل أصبر على إيماني حتى أموت جوعا، أم آكل من ثريده حتى إذا شبعت كفرت به؟”، فتبسم الرسول الكريم من قوله وقال “بل يرزقك الله”.

سماحة ما بعدها سماحة في المزاح، فما بالنا بالجد؟

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل