المحتوى الرئيسى

تحية له في ذكرى رحيله: حكاية جوزف...

02/26 02:01

ليس لجوزف سماحة شبيه بين الذين جاءت بهم السياسة إلى الصحف، ولكنها لم تشغله عن الثقافة، وإن كان شغفه بالحياة والرغبة في أن يعيشها بجوارحه جميعاً قد خالط ذلك وحدد له المسار.

ولقد بدأ جوزف الكاتب الصحافي حياته المهنية في «السفير» ومعها منذ عددها الأول، من دون ان يقطع علاقته مع الثقافة بل لعله قد اندفع يشرب من منابعها أكثر فأكثر. وهو بالتأكيد قد أفاد كثيراً من مهنيين كبار أسهموا في إطلاق «السفير» بصيغتها المختلفة عن السائد، أبرزهم الراحل إبراهيم عامر، وهو صحافي مصري قدير، والزميل الكبير بلال الحسن، والمخرج الفني والرسام المميز حلمي التوني، المصري أيضاً، ثم مبدع الكاريكاتور السياسي الراقي ناجي العلي الفلسطيني، فضلاً عن جمهرة من الصحافيين والكتّاب لبنانيين أساساً وسوريين وتونسيين وعراقيين الخ.

نجحت «السفير» منذ عددها الأول بخطها السياسي المعلن صريحاً وبهذه الكوكبة من المهنيين والكتّاب، ولقد استقطبت أساساً جيل الشباب، وقد كان مسيساً، ولبنان فوار بالنشاط السياسي والشارع ممتلئ بدعاة التغيير والطامحين إلى تحقيقه..

ولقد زادت الظروف الاستثنائية التي كان يعيشها لبنان ومعه وفيه «الثورة الفلسطينية» من خطورة المهمة التي انتدبت «السفير» جهدها لها، فخرجت بصيغة متميزة عن زميلاتها في لبنان... حتى إذا تم تفجير الحرب الأهلية سنة 1976 تصدت لها ـ بخطها الوطني ـ المعزز بأدائها المهني... مقدمة جيلاً من الكتّاب والصحافيين المميزين كان أبرزهم جوزف سماحة وحازم صاغية والكثير غيرهما، ممن ثبتوا في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982.

مثلت «السفير» قلعة وطنية لأنها لم تغادر المهنية بل وظفتها في خدمة خطها الوطني، وكان قلم جوزف سماحة سيفاً من سيوف هذه القلعة.. ونتيجة للاجتياح ووصول من وصل إلى رئاسة الجمهورية على ظهر الدبابة الإسرائيلية، وتفجر الداخل بالغضب بعد اندفاع السلطة إلى الانتقام من الشارع الوطني عبر «الضاحية الضحية»، كان طبيعياً ان ينسحب بعض الزملاء العرب من «السفير» فغادرونا وعلى رأسهم بلال الحسن مستدرجاً في ما بعد جوزف سماحة ليعمل معه في مشروع صحافي انشأته منظمة التحرير في باريس بعنوان «اليوم السابع».

على ان التجربة لم تعمر طويلاً، فعاد جوزف سماحة إلى السفير في العام 1995، بعد «فاصل» عبر تجربة محدودة في الزميلة «الحياة» في لندن.

لكن البيت الأول ظل ينادي جوزف سماحة، فعاد إلى «السفير» ثانية في بداية العام 1996 واستمر فيها لسنتين غادر بعدها إلى «الحياة» مجدداً.

وعاد جوزف سماحة مرة ثالثة إلى «السفير» في 1/8/2001 ليتولى، منصب رئيس التحرير، الذي تخلى له عنه طلال سلمان طائعاً مختاراً... لكن القلق الأبدي الذي يسكنه والرغبة في التغيير حملاه على الانسحاب من «السفير» ليخوض مع زميله فيها إبراهيم الأمين تجربة جديدة في جريدة «الأخبار» ابتداء من 28/2/2006 مفترضاً انه يمكن ان يقدم فيها نموذجه المميز في الصحافة اليومية... وكانت النهاية الحزينة، في لندن، حين طار إليها جوزف ليطمئن إلى صديق مريض.

هنا نص بديع عن جوزف سماحة القلق دائماً، مختزن الرغبة العارمة بالتغيير مع طموح إلى الجديد والأجد والمتميز والأكثر تميزاً في عالم الصحافة.

النص (وهو أطول كثيراً من المنشور هنا) هو للكاتبة الهولندية ليف جوريس، وقد تضمنه كتاب بعنوان «مطربة زنجبار» وفيه اضاءات على جوانب من شخصية جوزف سماحة ارتباطاً بهموم تلك المرحلة السياسية العاصفة. أما الترجمة عن الفرنسية فقد تولاها يوسف ضومط.

خلال أزمة الخليج، كانت اتصالاتي الهاتفية بجوزف تجري بشكل دوري، وكانت لا تخلو من تعليقات ساخرة يطلقها بطريقته المعهودة. 10 دقائق كانت كافية لتزويدي بحصيلة قراءة عميقة لصحف الأسبوع.

كنت أحيانا اسمعه يتحدث بالعربية الى أحد المحررين لديه. كنت اتخيّله خلف مكتبه الباريسي يلتهم السجائر ويحتسي القهوة، محاطا برجال ذوي شوارب ووجوه عبوسة. كان موقف مجلته «اليوم السابع» ضد اجتياح العراق للكويت، لكنها أيضاً، كما قال لي، ضد أي تدخل أميركي. كانت تلك وجهة نظر محايدة يصعب الإصرار عليها أكثر فأكثر كلما كان العرب يزدادون انقساماً.

لقد بدا لي ان هذا الموقف ينطوي على قدر من البراءة والسذاجة. سبق لـ «اليوم السابع» ان واجهت، في الماضي، مشكلات حدثني عنها جوزف بنبرة تختلط فيها المرارة بالسخرية: إذا احتلت صورة صدام حسين مكانا تحت صورة الرئيس السوري حافظ الأسد، فلم تكن المجلة تخترق حاجز الرقابة العراقية. اما اذا احتلت، عرضاً، صورة الأسد مكانا لها تحت صورة حسين، فلن يكون مبيع المجلة متاحا في سوريا.

أدركت ذلك فقط حين سمعت ان «اليوم السابع» لم تعد تُقرأ إلا في ست دول من أصل احدى وعشرين دولة عربية: المسألة جدية، هذه المرة، إذ يمكن لعنف الحرب ان يجرف معه المجلة. بعد بضعة أسابيع، ابلغني جوزف ان اياً من نسخ «اليوم السابع» لم تعبر عتبة المطبعة. «لقد علّقناها على الحائط، انها، هنا معرض من صور وقصر من مرايا. لقد بتنا وحدنا قراء مجلتنا!». كان هناك نوع من النشوة في صوته، لكنني كنت أعرفه بما يكفي لأشعر انه كان على حافة اليأس.

ـ الآن، سوف تكتب أخيراً بالفرنسية، قلت له، في محاولة لتسكين روعه.

مرّت لحظة من الصمت على الطرف الآخر من الخط. هل كان ينظر إلى الخارج من فوق السطوح الحمراء باتجاه كنيسة «القلب الأقدس»؟

ـ لماذا إذن يا جوزف؟

ـ لننتظر ونر، قالها بضحكة يكتنفها لغز لفظة «كويت» Ku- wait (التي تعني بالإنكليزية الانتظار).

ذات يوم، لم يعد مركز عمله يجيب على أي اتصال. كان العراق قد هزم. آلاف الشاحنات العسكرية تحتضر تحت شمس الصحراء الحارقة.

لأول مرة منذ سنوات عدة، وجدت جوزف في بيته. قال لي مستسلماً إن «اليوم السابع» لم تعد تصدر. كان لا يزال ينتقل يوميا إلى مكتب التحرير، يقرأ الصحف ويتحادث مع زملائه ثم يعود إلى منزله من دون كتابة سطر واحد. كان الأمر محبِطا جراء عدم القدرة على التفاعل مع الأحداث.

كان السعوديون يشترون كل أنواع الصحف في وقت قياسي. ألم أر كيف همس الجنرال (الأميركي) شوارزكوف، خلال مؤتمر صحافي في الصحراء العراقية، إلى زميله السعودي خالد بن سلطان: «لا ارغب في الرد على هذا السؤال»؟ كان هذا الأخير قد أصبح صاحب «الحياة» وهي «أكبر» صحيفة يومية عربية في لندن. «هل تتخيّل شوارزكوف مالكاً لـ «النيويورك تايمز»؟

حين استعلمت عن مشاريعه، اجابني بأنه لا يعرف شيئا عنها. عند ذاك لم اعد اطرح عليه أية أسئلة. من البديهي ان يستبد به القلق الذي لم يكن بوسعي تصوره بفعل الأمان الذي يوفره لي الجانب الذي انتمي إليه.

كان الرجل الذي يحاذيني في المصعد يحمل رزمة من العلب الكرتونية الواردة من مطعم لبناني. لدى بلوغ الطابق الثامن، كان المصعد كله ينفث رائحة طعام عربي. كنا كلانا متوجهين إلى «اليوم السابع».

كان جوزف يجلس في مكتب ليس له، خلف طاولة عارية إلا من هاتف. قبل 10 سنوات، كان لا يزال يلعب «التنس». كان ممشوق القوام، خفيفاً وصلباً في ملامسته الكرة. لقد ثقلت همّته ولم أعد أستطيع تخيّله في ملعب لكرة المضرب.

في بيروت، كان يتأنق في لباسه على الدوام: سترات وقمصان «ايف سان لوران» يرتديها بخفة ورشاقة. غير انه بدا امامي هنا ببذلته الرمادية المنقطة وصدريته الصوفية كمن يذكرني بالأحرى بمستخدم في مسلسل مصري. كان جوزف في الأربعين من عمره ويكاد يكبرني بقليل، لكني كنت اعتبره دوما أكبر سنا مني إذ كان يضع بيني وبينه مسافة أبوية رقيقة.

«إنها وجبتنا الأخيرة في مكتب التحرير»، قال لي، ففي الأسبوع المقبل يقفل هذا المركز. استأذن وتبع الرجل الذي جلب له الطعام ورأيته يسحب من جيب سرواله كدسة من الأوراق النقدية، غير ان الرجل رفض قبولها.

حين عاد جوزف، كانت ترتسم على وجهه ابتسامة ما وقال: «نحن العرب، نعيش في مجتمع ما قبل الرأسمالية»، كنت اعرف انه يحب هذا الشعور لديه بأن لبنان يبقى مع ذلك حاضراً حتى ولو كان في باريس.

كانت رائحة الطعام العربي التي باغتتني في المصعد قد انتشرت في كل مكان، ومع عبق الكثير من المأكولات المعروضة كانت ذكريات لبنان تستعيد حضورها، فوجدتني مجدداً في احد مطاعم أعالي «شملان» حيث كان حراس جنبلاط، زعيم الدروز، قد أخذوا في الغناء بعدما تعتعهم السكر عند هبوط الليل. كما رأيت نفسي في مطعم، على شاطئ البحر، اخذني إليه جوزف: في ذلك الحين كان لا يزال يعتقد انه لن يغادر لبنان مطلقاً.

انتهت الوليمة بالسرعة التي بدأت بها. نهض بلال (الحسن) رئيس التحرير الفلسطيني لـ «اليوم السابع» لجلب بعض قناني الكوكا كولا من البراد، فيما غاب جوزف لتحضير القهوة. ثم تمشينا في الشارع، كان الهواء ربيعياً، لكنه كان مزعجا ولطيفاً في آن معاً.

ـ «سأكون متسكعاً»، قال جوزف. «لقد عاينت بعض الأمكنة لقضاء الليل».

فكرت بزوجته السابقة وبولدَيه، الذين كان مسؤولاً عن اعالتهم، وقد أتوا إلى باريس لقضاء فرصة قصيرة. ومذاك، مكث ولداه مع والدتهما في احدى ضواحي باريس.

ـ علينا جمع المال لك، قلت.

سبق له ان اتصل بصديقه حازم (صاغية) الذي يعمل في لندن، في «الحياة».

ـ «قل لي، يا حازم، كم تكسب هناك عند هؤلاء السعوديين؟»

ـ «ألا تجد أن ذلك كثير؟ يمكنك التخلي عن عشرين بالمئة منه.

أخرج جوزف مغتبطا من جيب سرواله كدسة الأوراق الإنكليزية التي أرسلها إليه حازم ولوّح بها في الهواء. كان يحتفظ دوما بالمال على هذا النحو، مباشرة في الجيب، على غرار معظم الرجال العرب الذين عرفتهم.

«لقد انقضت أيام البذخ والترف»، قلت، فيما كنا ننتظر دورنا في صف طويل امام مكتب الصيرفة في حي «الهال».

ـ أية أيام باذخة تعنين؟

ـ أيام الهيلتون على النيل.

كان ذلك في العام 1982، كنت حينها أقيم في نزل مظلم في القاهرة، فيما كان جوزف، المراسل لإحدى الصحف اللبنانية، يقيم في فندق رمسيس هيلتون، وهو عبارة عن برج رملي اللون ذي مصاعد لا تهدأ ومقابض أبواب ذهبية. كانت زيارته الأولى لمصر، وكان المشهد من أعالي شرفته يغرقه في نشوة عارمة. كانت عروبة مصر وصوت أم كلثوم يعنيان له الكثير في شبابه، على غرار ما كان يعنيه لي الانتماء إلى بوب ديلان ووود ستوك. هنا، فجأة، كانت مدينة أبطاله تمتد امام قدميه، ويعبرها نهر عريض يخط مجراه في تاريخ العالم.

ذات مساء، ذهبنا لحفلة غنائية يحييها الشيخ إمام في منزله، وهو مغنٍّ ضرير رفضي. كان دخان الحشيشة يحوم ثقيلاً في أجواء القاعات المتواضعة، والناس يغنون ويضحكون ويثملون. كان جوزف يدندن معهم، جالساً على الأرض في عفوية زاهدة، فيما قنينة الويسكي في متناول يده. كان يعرف كل الأغاني غيباً. ذلك المساء، كان يصعب سبر أغواره كما لو كان مفتوناً بسحر حنين لم أدركه إلا مؤخراً.

ـ «لكنكِ عرفتني في ظروف أقل يسراً»، قال لي جوزف بنبرة لا تخلو من اللوم.

ـ في بيروت، ألا تذكرين؟».

كان ذلك في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كان جميع الأصدقاء الذين هربوا تركوا له مفاتيح منازلهم، وكان جوزف يتنقل من عنوان إلى آخر، في سيارة راعدة الصوت من طراز «أم جي» أعاره إياها صديق. تعرضت احدى الشقق لتفتيش الجنود اثناء غيابه. لقد سرقوا لي «المسجلة» التي افتقدتها طويلاً. فجأة بدت لي فوضى تلك الحرب تدنو مني، كما لو ان الجنود دفعوني إلى جانبهم. حين حدثت جوزف بالأمر، أشاح بوجهه عني. لم يكن يعير أية أهمية للأمور المادية. لقد سبرت غوره، خلال تلك الأسابيع التي قضيتها في بيروت: لم يكن هناك أي قاسم مشترك بين ما يهم كل واحد منّا.

بعد تلك الغزوة للجنود، بدّل منزله وانتقل إلى شقة صديقه مارون، وهو مخرج سينمائي غادر إلى اميركا مع فيلمه الأخير.

كانت جثث القتلى في مخيمَي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين قد دفنت في مكان آمن، غير ان مقهى الإكسبرس ما زال مفتوحا، وفي المساء، كان هناك على الدوام مطعم، في بيروت المظلمة حيث يمكن تناول العشاء على ضوء الشموع. هكذا كانت الحال في كل ما عرفته مع جوزف: لم يكن الرعب بعيداً عنا مطلقاً، إنما كانت الحياة مستمرة على تخومه.

مع انقضاء السنين في باريس والقاهرة وبيروت، تآلفت مع حكاية جوزف. كانت من التعقيد لدرجة انني كنت اخجل أحياناً من بساطة حياتي الشخصية. اثناء حرب الخليج، لم يكن بوسعي مطلقاً الانحياز إلى المنتصر لأنني كنت اعلم كم من الخيارات التي يواجهها كانت مستحيلة. قال لي يوما على الهاتف: «لو لم يكن لديّ سوى رصاصة واحدة في مسدسي، وكان عليّ ان اختار بين صدام حسين والأمير جابر (الصباح)، فإني اعتقد انني افرغها في جابر، ذاك الكويتي المتغطرس الذي كان أميراً منذ الطفولة. كيف يمكنني ان اتعاطف معه أنا الشيوعي السابق؟». بعد حين، كان يطرح مسألة الخيار بين الديكتاتورية والأمير ويراها تثير الشفقة، بحيث كان يؤثر الانتحار بإطلاق الرصاصة على رأسه.

التقيت بجوزف، لأول مرة، في العام 1982، في تلك الحقبة المضطربة بعد الثورة في إيران. كان بني صدر قد نفى ذاته للتو وانسحب للإقامة في منزل يملكه تحت حراسة مشددة، في ضواحي باريس. كانت مجموعة من الصحافيين العرب يجلسون على مرجة خضراء، تحت الشمس الساطعة، ينتظرون إجراء مقابلة مع الرئيس الإيراني السابق. لفت انتباهي جوزف من بينهم على الفور. سبق ان سنحت له فرصة التحدث إلى بنى صدر وكان يقطع الحديث المستهلك بملاحظات من نوع: «بني صدر هذا شخصية محببة، قد ازوّجه شقيقتي، لكن ما كان عليه تعاطي السياسة مطلقاً». ثم يردف ساخراً: كان هذا المثقف القادم من الصالونات الأدبية يحلم ان بوسعه قيادة ثورة، فسقط ما إن شرع الشعب في النزول إلى شوارع طهران.

في تلك الأيام، كانت الثورة تشتعل في شوارع باريس. وكانت صلاة الجمعة في حرم الجامعة قد شهدت بلبلة جراء تظاهرة للطلاب الإيرانيين. وسط هذا الصخب، تعلمت ان اعرف جوزف بشكل أفضل. كانت تقلقه الأصولية الإسلامية الصاعدة في العالم العربي، «لن ينجح العرب على هذا النحو في اللحاق بركب العالم الحديث».

كان يدهشني، إذ ما إن قال ذلك حتى سارع في العودة إلى بيروت التي كان يفترض ان تشكل جحيماً حقيقياً لرجل على هذا القدر من النزاهة والتجرد. كانت جملة متغيرات تحدث فيها بحيث كان يخشى ألا يفهم ما يجري لو تأخر في العودة إلى بلاده.

بعد سنة، حين عدت لرؤية جوزف في بيروت، بدا لي ابعد من ان ادرك مآله مما كنت أتصور. كان الحيّز الذي يتحرك داخله في بيروت الغربية مرعبا لشدة ضيقه، ووجد نفسه متورطا في معركة حزبية معقدة للغاية. اعتقدت، في لحظة ما، ان جوزف غاص في الخصومات العربية لدرجة انني خشيت من فقدانه. غير انه عاد شيئاً فشيئاً ليظهر من بين الضباب. مرد ذلك إلى القصص التي كان يرويها عن ماضيه: كنت اشاهده فتى صغيراً يمشي في شوارع بيروت غير حافل بالخطر.

كان والده مهندساً معمارياً مشهوراً، ووالدته فتاة بسيطة من القرية تجهل كل شيء عن حياة المدينة. تلاقيا في قريته حيث كان يبني بيتا لرجل اعمال ثري. كانت في الخامسة عشرة وتصغره بعشرين سنة. شعرت عائلتها بالفخر لإقدام هذا المعماري من بيروت على طلب يدها. لم تُسأل عن رأيها.

نشأ جوزف في حي مسيحي في المدينة، في منزل فخم ذي أرضية من المرمر والأثاث القديم. كان في الخامسة عندما توفي والده جراء ذبحة قلبية في كركوك. عملت عائلة والده التي لم ترض عن ذاك الزواج، ما في وسعها، بعد وفاته، على طرد ارملته وولديه خارج المنزل العائلي.

عاشوا في الفقر وسط جيرانهم الأثرياء. عندما كانت تمطر، كانت تنتشر الأوعية في كل مكان لالتقاط الماء. ولم تكن ألواح الزجاج المحطمة تستبدل، وباتت بعض الغرف مقفلة. أصيبت والدته بالقرحة في المعدة، وبقيت طريحة الفراش متأوهة لأيام عدة. ظنت انها شارفت على الموت، وأخذت وعدا منه بالاهتمام بشقيقه. كان الصغير يبكي، لكن جوزف ازداد عزماً وشجاعة.

في التاسعة من عمره، اكتسب لأول مرة وعياً سياسياً. كان ذلك في العام 1958، حين انفجرت الحرب الأهلية بين الكتائب والناصريين. بالنسبة لجيرانه الذين كانوا يتكلمون الفرنسية، كان عبد الناصر يمثل كل ما كانوا يكرهون. كان مناهضاً للمسيحيين واشتراكياً وعروبياً. غير ان أمه كانت تضمر حباً عميقاً للرئيس المصري الذي اضحى لديها سلاحاً ضد عائلة المرحوم زوجها، فغطت بصورته شقوق البيت كلها، ورمت بماء الغسيل القذر الكتائبيين الذين اقاموا المتاريس تحت نافذتها.

قرابة الثانية عشرة من عمره، وضع جوزف لائحة سرية بالأشخاص الذين ينوي اغتيالهم: والدة رفيق له وجهت إليه الإهانة عندما سال حبر قلمه على اريكتها، الأساتذة الذين يجبرونه على التكلم بالفرنسية، الخال الثري الذي ارسلته والدته إليه ولم يستقبله، الجيران الذين يسيئون معاملة والدته.

في الثانية عشرة، بات جوزف يشعر بنفسه رجلاً صغيراً وراعياً لوالدته وشقيقه الصغير. أدرك في ما بعد ان مشاريعه الدموية غير قابلة للتحقيق، وان من الأفضل الانخراط في السياسة إذا كان ينوي تغيير أمر ما.

انتمى جوزف إلى طائفة الروم الكاثوليك، لكنه في المدرسة كان يعاشر المسلمين لأن هؤلاء كانوا يجيدون العربية ويشعرون بأنهم منبوذون مثله. كان صديقه المفضل صبياً مسلماً مصاباً بشلل في احدى يديه، وغالبا ما كان يتعرض لسخرية رفاقه، ولأجله كان يشتبك معهم. كان يستدعي، أحيانا في تلك المعارك، شقيقه الذي يعمل في نقل البضائع إلى السوق. كان ينبغي رؤيته امام بوابة المدرسة، محاطا بأعوانه، مع حبالهم وثيابهم الممزقة: كانوا، بالمقارنة مع أبناء البورجوازية في مدرسة «القلب الأقدس» اشبه بالآتين من كوكب آخر.

في ذلك الحين، تغير كل شيء. في العام 1967، خسر عبد الناصر الحرب ضد اسرائيل واعلن عن نيته الاستقالة. مشى أنصاره ومؤيدوه في شوارع بيروت وحطموا اللافتات المكتوبة بالفرنسية، وناشدوا عبد الناصر البقاء في الحكم، وفي بيت صديقه الثري حيث سال حبر قلمه، على الاريكة، أخذت تجتمع في الخفاء خلية ماوية. أمسى بيته ملتقى لطلاب يتقدون حماسة ولأشخاص من قرية والدته إلى جانب بعض المنبوذين الذين كان يأتي بهم شقيقه من الشارع. كان الجميع يدخلون ويخرجون، إذ لم يعد باب المدخل مقفلاً بالمفتاح. بعض اصدقائه عرفوا السكر في هذا البيت لأول مرة في حياتهم. كانت والدته تنشرح لوجودهم وتحضِّر أفضل المازة للسكارى، وحين كان أحدهم يقوم بشيء ما لا يروقها، لم تكن تنعته بالقذر بل بالبورجوازي. إذا جاءها بعض القرويين ليبيعوها البيض الطازج، فلم تكن تدعهم يعودون أدراجهم دون تقديم الطعام لهم. كانت تخفق البيض الذي ابتاعته في طنجرة وتقدمه إليهم.

في المدرسة، كان يكره اللغة الفرنسية، اما الآن فقد اكتشف الأدباءَ الوجوديين الفرنسيين وانتقل مع أصدقائه، دون صدام، من الناصرية إلى الشيوعية: شكّل ذلك لهم جسراً نحو الخارج حيث تعلموا التضامن مع بقية العالم.

بعد دراسة الفلسفة، اتجه جوزف للكتابة. دافع عن أصدقاء شقيقه وفقراء قرية والدته الذين رفعوه كبطل إلى القمة. عندما نظمت المقاومة الفلسطينية ذاتها، في لبنان، اعلن في الحال تضامنه معها واعتبر ابناءها ضحايا الظلم والاضطهاد في العالم العربي حيث ينبغي لكل عربي يحترم ذاته ان يقدّم التضحيات لهم.

كنت اتخيّل بأي تفاؤل وحيوية قد ارتمى في الحرب الاهلية اللبنانية. كان يرغب في الانتقام من الذل الذي لحق به في مرحلة فتوته: خاله الثري الذي غدا قائدا للجيش اللبناني، الكتائب الذين احتجزوه في قبو طيلة يومين، في اعقاب رمي والدته ماء الغسيل على رؤوسهم: كتب في «السفير» معدداً عشرة أسباب لعزل الكتائب. وفي اليوم نفسه، جرى تحذير والدته ونسف بيته.

لم يبق من التفاؤل الذي طبعه الشيء الكثير، عندما زرته في بيروت، عام 1982. كانت والدته قد عادت إلى قريتها، وكان الجيش الإسرائيلي قد اجتاح بيروت بغية تحطيم المقاومة الفلسطينية. فكان يقول: «نحن جيل المهزومين. خسرنا حرب 1948 ثم حرب 1967، والآن نحن مغلوبون مجدداً».

بعد حين، اضطر القادة الفلسطينيون والمقاتلون لمغادرة المدينة في زوارق انقاذ. «كان الأمر كما لو ان الشباب قد هجرنا»، علّق جوزف. كان الاجتياح الإسرائيلي ورحيل الفلسطينيين يعنيان سقوط اليسار في لبنان. كانت شاحنات مصفحة تعبر الشوارع. عند كل صباح، كان جوزف يحاول الاستعلام عمن خطف وأي حي تعرض للمداهمة، في ذلك اليوم، باحثا عن منطق ما في عمليات الخطف.

في غضون ذلك، كان قد اختلف مع قدامى أصدقائه الشيوعيين. كذلك وجه السوريون تهديداتهم إليه. سرعان ما اكتشف ان المفاتيح المختلفة التي كانت في جيبه لم تكن ترفا: كان يعيش كالطريد الفار. عندما نصحه اصدقاؤه بمغادرة بيروت، اتخذ وجه جوزف تعبيراً عدوانياً: «أنا؟ أبداً!».

«أتعلمين ماذا أود ان افعل؟ ان اكتب رواية»، خاطبني جوزف ونحن في طريق عودتنا، بالمترو، إلى منزله.

ـ عمّ تود ان تكتب؟

ـ «عن النساء اللواتي عرفتهن في حياتي، وأولهن أمي».

كنت اعلم جيداً انه يجيد الكتابة. كنت قرأت له نصاً عن أم كلثوم في كتاب صدر بالفرنسية في مدينة القاهرة، نصاً عاطفياً مشبوباً، شعرياً.

«ولكنني أخشى ألا أتمكن من ذلك»، أردف قائلاً.

ـ «لأنني لم استخدم من قبل صيغة المتكلم (أنا) في كتابتي».

حتى في النص المخصص لأم كلثوم، لم يستخدم سوى عبارة «نحن». هكذا كان جوزف يرى ذاته زعيماً لجميع المقهورين الذين كانوا يتجمعون في ما مضى في بيت والدته.

مسكنُه الباريسي كان اشبه بنزل للمهاجرين. صفائح معدنية كثيرة على الأبواب تحمل أسماء عربية. صحن درج معتم وعند أعلى السلم المتآكل باب ألصق عليه اسمه. ثلاث غرف ضيّقة معتمة مؤثثة كيفما اتفق، غير انها عابقة بعطر ماء الكولونيا خاصته.

على طاولة خفيضة، في المطبخ، عدد كبير من قناني الشراب، على هيئة سامبريرو مكسيكي أو حذاء اسباني أو على هيئة راقصة. «هل تهوى جمعها؟» أجاب: «نعم»، ولكن من دون حماسة.

على رفوف مكتبته سِيَر لرؤساء دول عرب وروس واميركيين، وكثير من الكتب لمؤلفين إسرائيليين: عاموس عوز، يوري افنيري، أمنون كابليوك. كان معجباً بمعرفة هؤلاء بالعرب؛ وكان يقول لي دائماً إنه لو عُنيَ العرب بمعرفة الإسرائيليين كما فعل هؤلاء الكتّاب، لكانوا اليوم أكثر تقدماً.

تناولت بيدي الكتاب المتروك على الكنبة. ترجم لي جوزف عنوانه: «حرب الخليج: وثائق وحقائق». وهو عبارة عن مجموعة خطب لصدام حسين. «أكثر ما يوجع في هذا العنوان هو كلمة «حقائق»، قال لي بحسرة.

على الحائط، كانت معلقة صورة لعبد الناصر في إطار متشقق. أحياناً كان جوزيف وحازم يفرطان في الشرب حتى الثمالة عندما يكونان معاً لدرجة وجوب تدخل الشرطة. هل استهدف أحدهما صورة عبد الناصر في إحدى تلك الليالي؟ كان جوزف يلاحق نظرتي وضحك ساخراً «ليس الأمر كما تظنين». لم تكن نبرته شديدة الإقناع. كان زجاج إحدى النوافذ قد استبدل بالورق المقوّى.

بدا جوزف متردداً، «لا أملك متاعاً كثيراً هنا، لقد تركت كل شيء في بيروت».

عندما اتصل بي من باريس، عام 1984، شعرتُ بالارتياح لأنه بقي على قيد الحياة، ولكنني دُهشت أيضاً لاتخاذه القرار بمغادرة بيروت. «لِمَ قررت المغادرة مجدداً؟».

بدا متردداً: «لم أعد قادراً على تحمل التوتر السائد هناك». لقد واصل الكتابة ضد «السوريين»، يومياً. لم يستطع أن يمتنع عن ذلك. وتزايدت التهديدات الموجهة له، وكان يشعر بأنه مُطارد.

وهكذا عاد إلى باريس. التقى في باريس بلال (الحسن)، وهو صحافي فلسطيني كان عرفه في بيروت. قال له بلال إن الفلسطينيين يريدون إصدار مجلة جديدة من باريس. فهل يقبل جوزف أن يساعدهم؟ قبل جوزف على الفور وقبل أن يفكر في الأمر ملياً.

في بيروت، كان يعيش مع إحدى النساء، فاتصل بها هاتفياً ليطلب إليها إرسال بعض الأمتعة له. سألته: «وأنا، ماذا عني؟»

«لم أدرِ بم أجيبها، قال لي جوزف. لم تخطر ببالي للحظة واحدة».

ـ «أنت قاس»، قلت له.

فتح جوزف النافذة وأشعل سيكارة، وراح يجيل نظراته في ارجاء الفناء الداخلي للمبنى.

«لا أدري في الحقيقة ما الأمر. ولكن أعتقد أنني لم أكن يوماً مغرماً حقاً. لم أرتبط يوماً بامرأة. إثر كل انفصال أشعر بارتياح». وضحكَ ضحكة حادة. «ومع ذلك أشعر بوحدة قاتلة، أشعر أحياناً أني بحاجة إلى رفقة في البيت، ولو رفقة هر. ثم استدار نحوي وقال: «ربما نحتاج إلى محلل نفسي لكي نفهم مصدر هذا الشعور»!

رنّ جرس الهاتف، وسمعته يجيب بالعربية: نبرات حادة تتخللها بين الفينة والفينة ضحكات. ولكنه حين وضع السماعة أشار عليّ بالجلوس قبالته، وأعد قهوة النسكافه وأشعل سيكارة موقّعاً بأطراف أصابعه على الطاولة لحناً ما يتردد في رأسه، على جري عادته في لحظات انشغاله بأمور تقلقه. المجلات العربية في باريس تتعثر واحدة تلو الأخرى. كان يقول. فالصحافي الذي خابره للتو هو آخر الصحافيين الذين لا يُحصى عددهم والذين باتوا بلا عمل. وهذه نتائج حرب يقيم مهزوموها في باريس ومنتصروها في لندن. فالعرب المقيمون في باريس وافدون بمعظمهم من بلاد المغرب الفقيرة.

كانوا أكثر ميلاً لليسار من عرب الخليج الأثرياء المقيمين في لندن. كانت تلك الحرب تبدو كأنها حرب أهلية بين الأثرياء والفقراء. لقد ربح اليمين مجدداً، تماماً كما حصل في بيروت، عام 1982. لقد طارده هذا الصراع حتى باريس ودفعه من جديد إلى آخر معاقله.

ـ «يجب أن تعبروا المانش جميعكم معاً»، قلت له.

ـ «رافعين راية الاستسلام؟ لن أفعل ذلك ما حييت».

«أفضل العودة إلى لبنان»، كان جوزف يردد باستمرار. ولكن المشكلة أن أمثاله لم يعد لهم مكان في لبنان.

«ما هي شروطك للعودة إلى هناك؟

ـ أعود غداً إلى لبنان إذا كنت أستطيع أن أكتب 70 في المئة فقط مما كتبته في «اليوم السابع».

أشعل جوزف سيكارة ومجّ منها نفساً عميقاً: «ولكن هذا الاحتمال غير وارد».

الحرب الأهلية في لبنان علّمتني حقيقة أن المعارضة أسوأ من الحكّام الذين تنتفض ضدهم، قال. جميع زعماء الأحزاب السياسية الجديدة جنوا الثروات جراء هذه الحرب، فيما ازداد الشعب فقراً.

«لو تعلمين ما الذي يجري هناك! كنت في يوم ما رئيس تحرير مجلة الحركة الوطنية. وكان من بين أسماء المحررين المسجلين على قيد الرواتب، ثلاثة عشر اسماً وهمياً.

ذات يوم، سرق لي معاشي أحد المحررين. كلا، كلا، نظام الحكم السابق كان أفضل، بالتأكيد. على الأقل كان يقدم شيئاً للشعب. كان يضطهد الناس، لكنه في المقابل كان يُسدي لهم بعض الخدمات. وبعده لم يبق إلا الاضطهاد».

«عندنا، الدولة أكثر عقلانية من البورجوازية لأن هذه الأخيرة تمثل النظام الوحيد الباقي من عهد الاستعمار. لقد تصرف المواطنون اللبنانيون كالحيوانات الضارية! لذا آمل عدم انفجار أية حرب أهلية في العراق، وإني أرتعش لما سيحصل بعد صدام حسين.

«المشكلة تكمن في أننا لم نتعلم شيئاً من هزائمنا، أضاف بابتسامة خفيفة. على العكس، يدفعنا التهور فنتهيأ لما يليها. وفي كل هزيمة، لا نرجع بضع سنوات إلى الوراء بل قرناً كاملاً. نحن متخلفون ونعاني من تأخر لا يقل عن ثلاثة قرون عن الغرب. يلزمنا قرن من «الأنوار»، لأنه لا ديموقراطية ممكنة بدون ثورة ثقافية داخل الإسلام. غير أن المشكلة تكمن في أن الجميع يرغب في العودة إلى العهود الأولى للإسلام. أين هم أمثال فولتير في العالم العربي؟ أنا لا أراهم».

في الأيام التالية، عدت لرؤية جوزف بصورة منتظمة وتعرفت إلى المدينة حيث كان يعيش منذ سبع سنوات. كانت مدينة عربية كامنة في قلب باريس ذاتها، مع مقاه ومطاعم حيث كان يلتقي الأصدقاء، كما في السابق في بيروت. كان يستمتع في العيش في تلك المساحة الضيقة، بعد بضعة أيام، أقر بأنه مسرور لمجيئي، إذ أخذت لغته الفرنسية بالتحسن. في الحقيقة، كان يقول بأنه لا يختلط كثيراً بالفرنسيين وليس سوى عابر سبيل ولا ينوي البقاء طويلاً في تلك البلاد. عندما لفتُّ نظره إلى أن باريس تعج بالمهاجرين الذين يؤكدون جميعاً الشيء نفسه، راح يدلّني على الأثاث المؤقت في شقته، في إشارة حاسمة: «هل هذه تشبه شقة رجل قرر الاستقرار فيها؟».

كان يشتري، كل صباح، صحفه من الكشك القريب: «ليبراسيون»، «هيرالد تريبيون» وكذلك «الحياة» لأنها الأقل سوءا بين الصحف رغم أنها سعودية، فضلاً عن أن حازم يكتب فيها تعليقاته «المقيتة».

من مميزات جوزف تلك العلاقة المتناقضة التي جمعته بحازم. لو لم يكن حازم موجوداً، لكان اخترعه بالتأكيد. لم ينغلق يوماً على الآراء المعاكسة لآرائه. عندما اجتاح الإسرائيليون بيروت، التقى في الشارع أمنون كابليوك الذي كان يرافق الجيش الإسرائيلي بصفة مراسل. فقاده إلى «السفير». إسرائيلي في مكتب التحرير! تحلّق حوله زملاؤه كأنه هدية العيد.

تعود صداقته مع حازم إلى سنيّ دراستهما المحمومة في بيروت. في تلك الحقبة، كان حازم ما يزال عضواً في زمرة يسارية أشد تطرفاً من الشيوعيين. كم من تقلبات قام بها منذ ذاك الحين! أثناء الثورة الإيرانية، غدا مؤيداً للخميني. في إنكلترا، ارتقى إلى مصاف النصير المتزمت لتاتشر. فيما بعد، انعطف إلى اليمين لدرجة نعته تاتشر بالمناصرة الخفية للشيوعية.

«أنا، أيضاً، تغيرت، يقول جوزف. لكن الأمر مع حازم، كما مع بولس الرسول، على طريق دمشق، حيث رأى النور بغتة، وفي كل مرة، كان يؤمن بعقيدته الجديدة بذات الزخم من التزمت، بلا تردد ومن دون أدنى تشكيك مطلقاً. أسأله أحياناً: كيف تفعل يا حازم لتنتقل من حال إلى حال بلا تمهيد؟ تنام ماركسياً وتستيقظ أصولياً؟

ذات يوم، أخذني لتناول الفطور في مطعم إيراني بالقرب من بيته. لأول مرة، منذ ان تعارفنا، لم يمانع في أن أدفع الحساب. كان قد استدان الكثير في السنوات الأخيرة. كان أطلق مع صديق له مجلة جديدة هي «زوايا».

صدرت أربعة أعداد من «زوايا».

رفع جوزف يديه دلالة العجز. «لا شيء! انتهى كل شيء!

كان يأمل أن يعمد رجال الأعمال المستقلون إلى الاستثمار في المجلة، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق. أضاف محبطاً: «يقوم دور الصحافة على جعل الحقيقة جلية، غير أن لا شيء أشد عتمة من تمويل الصحف العربية».

«لكن، ألا توجد مجلة واحدة مستقلة؟». لم تكن الشائعات التي تروج حول الصحف العربية والتلميحات عن ممولين مجهولين على قدر فجاجة الصورة التي رسمها لتوّه عنها. كم كان وضعه آخذاً في الارتباك وكم ضاق مجال نشاطه أيضا!

ضحك جوزف بخشونة: «قد تتكبد جميع المجلات العربية خسائر فادحة لو لم يكن لديها ممول سياسي. وحدها دول الخليج تستطيع دفع بدل الإعلانات، غير أنها لن تضع إعلانات في صحيفة تحمل أفكاري. عندما التحق حازم بأسرة «الحياة»، قيل له ألا يتطرق إلى الأسر المالكة ولا إلى الدين والجنس.

ـ «و «السفير»، من كان يُمولها؟»

كنت أعرف الشائعات، لكني كنت أرغب في سماعها منه.

مجّ جوزف سيجارته بقوة. في العام 1980، وفي أعقاب الحرب بين إيران والعراق، كتب في «السفير»: «أخطاء إيران لا تبرر خطايا العراق». في اليوم التالي، تعرضت مطابع «السفير» للتفجير. فقال له رئيس التحرير: «إنه التعليق الأغلى ثمناً مما كتبته يوماً».

ـ من موّل «اليوم السابع؟»

ـ منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. لم يكن الأمر مثالياً. لكن عندهم، على الأقل، لم يكن عليّ التنكر لأفكاري».

كنت أجلس قبالته ملتزمة الصمت وأفكر في أولئك الرجال المجتمعين حول آخر عشاء لهيئة التحرير. منظمة التحرير الفلسطينية تتولى تمويلهم! كنت أحاول أن أتخيل وقع هذا الخبر على أصدقائي. كان كل ذلك بعيداً عنا للغاية، ولم يكن ذلك النوع من الخيارات التي تواجهنا. مع ذلك، وبعد كل ما قاله لي جوزف، كنت أعي أن ذلك كان بالنسبة له بين الخيارات الأجدر بالاحترام.

أشعل سيجارة جديدة ونظر مباشرة أمامه. هل كان يهمه ما كان يجول في فكر الآخرين عنه؟ لا أظن. لقد أجاب عن أسئلتي برحابة صدر. أما الآن وقد توقفت عن طرح الأسئلة، فقد لزم الصمت.

لدى وصولي إلى الفناء الداخلي، في تلك العشية، تناهى إليّ صداح موسيقى عربية. في المطبخ، كان جوزف يقطع الهندباء. «لديّ زوار»، قال لي جوزف مقدماً لي صحناً من الهليون المعلّب. كانت تتسلل من الصالون ضحكات متفرقة. كان أصدقاؤه يتحلّقون حول طاولة أفرغ عليها جوزف كل محتوى براده: زيتون، خبز قديم، قطعة جبنة... ولحسن الحظ أن أحدهم جلب معه النبيذ.

على جهاز التلفزيون، كان يجثم تمثال خزفي صغير يمثل امرأة نصف عارية وتشد بجموح نهديها الناتئين. كنت لاحظت وجوده سابقاً.

«أين عثرت عليه، يا جوزف؟»

أخذ التمثال من يدي وراح يداعبه:

في زيارة له إلى موسكو، في السنة الفائتة، رآه في إحدى الواجهات وافتتن به على الفور. لم يكن مخصصاً للبيع، فجال في المدينة كلها بحثاً عن تمثال مماثل. لقد استسلم لتلك المرأة التي لم يسبق له أن رأى ما يوازيها جمالاً.

كان الآخرون يضحكون. لم أكن أعرفهم. أوضح لي جوزف أنهم زملاء يعانون وضعاً مماثلاً له. كانوا أصغر سناً منه، أو هكذا بدا لي. كانت لجوزف من الهيمنة الطبيعية في المجموعة بحيث يبدو دوماً الأكبر سناً.

كانوا يتحدثون بالعربية. كنت أفهم، بين الفينة والأخرى، ما كان يقال، أو يترجم لي جوزف بعض العبارات. كم مرة اجتمعنا في بيروت على هذا النحو! في ذلك الحين، كان هناك ناجي العلي الفلسطيني، رسام «السفير» الذي لم يعد له مكان في الصحيفة بعد إجلاء الفلسطينيين. فيما بعد، التقيت به في الكويت. راح يقودني بين غرف بيته الجديد متضايقاً. تلك الليالي التي أمضاها مع أصدقائه في بيروت، لن يستطيع أحد أن يعوضه حلاوتها. فيما بعد، لقي ناجي مصرعه في أحد شوارع لندن. كان واحداً من أولئك الضحايا الذين سيبقى قاتلهم المجهول دون عقاب.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل