المحتوى الرئيسى

النزهة الأخيرة للهدهد الدمشقي

02/24 01:36

لم يقدّم نذير نبعة (1938- 2016) مشهداً تأملياً واقعياً في لوحاته بالمعنى المتعارف عليه؛ ولم يلجأ إلى التجريد بمفهومه المتداول في الفن الغربي، بل استبدله بمفهوم (التنزيه) لكونه الأقرب إلى روح الثقافة المشرقية؛ والتي استطاع من خلالها هذا الفنان أن يجترح رموزه الخاصة به؛ في محاولة لتدوين ألوانه وخطوطه بعيداً عن سطوة المحترف الغربي الذي كان قد لامسه عن قرب من خلال دراسته في «البوزار» بباريس في سبعينيات القرن الفائت.

فالقواقع والتفاح والرمان والوردة الجورية والمرأة الموشاة بالخرز والقلائد والأساور والخرز، جميعها كان لها عميق الأثر في إنضاج أدواته التي كانت تتطوّر باطراد بعيداً عن الفهم التقليدي لشكل اللوحة المسندية التي بزغت في الشرق مطلع القرن العشرين؛ والتي أراد نبعة أن ينقلها من حالتها الفطرية العفوية إلى «تجلّياتها» الأبقى، اللوحة في المخيلة ستبقى عملاً مستحيلاً؛ لا يمكن لها أن تتبدّى إلا في إطار البحث المضني في طبقات البيئة التي لطالما عمل عليها الفنان الراحل منكبّاً على طلاسمها ورموزها ونقوشها الكثيفة، مشتغلاً على علم «تكنولوجيا اللون»؛ وعلى اكتناه النور والظل الداخليين في الأشياء والطبيعة.

لهذا لم يكن غريباً أن يبدو نذير نبعة منبعاً ونذيراً استقى حداثته من ذلك المخمل الشعبي وطبقات الأقمشة الدمشقية، مستوحياً براعة البروكار والدامسكو السوري في أعماله، لاسيما في «الدمشقيات» سلسلته التي أرادها تجذيراً لأصالة الرمز وقوته وسقوطه في الدلالة الشعبية والإيحاء بدلاً من التصريح اللوني المباشر، وبالعمل على تظهير أنوثة فائقة منشّاة من نبرة الاستشراق، فلا خيانة للبيئة التي رسمها، بل مواظبة على اكتشاف تلك البيئة وفهم طبقاتها الدفينة.

ألوان الجسد الدسمة وعبقرية التوشيح على سطح اللوحة وتأسيسها على ثنائية «الغائر والنافر» العيون الحوراء الساحرة التي شكلت تربة شخصيات لوحاته وتوقه إلى نقل تأملاته المديدة في أزهار الجلنار وسطوعات نور الشمس على الكائنات والأشياء، ونبشه الدائم في سطوح الصخر وبطون الحضارات السورية القديمة؛ كل ذلك جعل من أعماله سواء تلك التي استلهمها من بادية الفرات وأشجار الغَرَب وعجاج الصحراء، أو تلك التي طوّرها عن صوفية محي الدين ابن عربي (التجليات)؛ موضوعاً جديداً في محترف بلاده؛ ومنعكساً لنظرة حداثية لم تكن مألوفة في الستينيات من القرن الفائت، فجاءت صادمة وقوية في تفتيت المدارس التي ركنت نهائياً لنزعتها الانطباعية الجامدة.

لم يكِل (نبعة) مقترحه الفني لأسلوب واحد، بل كانت لوحته على قلقٍ دائم؛ سواء في أعماله التي وثّقت للنضال الفلسطيني ما بعد هزيمة 1967 أو تلك التي أودعها كمخيلة لأجيال وأجيال في اشتغاله على رسوم الأطفال وأغلفة الكتب وتطويره لمفهوم الرسوم الصحافية التي نقلها من مستواها التوضيحي الممل لتصير نصاً بصرياً موازياً؛ كما هو حال أعماله المنشورة في «الموقف الأدبي» و «الناقد» و «أسامة».

«المدن المحروقة» كانت استشرافاً لما ستؤول إليه حال بعض المدن العربية اليوم والتي كان الفنان استلهمها من قصف الطائرات الأميركية لبغداد مطلع التسعينيات، والمجازر الإسرائيلية المتكررة من قانا إلى غزة وجنوب لبنان؛ وصولاً إلى محارق الربيع، وعصر محاكم التفتيش العربية؛ فليس غريباً أن ينصرف الفنان في آخر أيامه للرسم بالحبر الصيني لبورتريهات عن «داعش» وأخواته؛ فما أفرزه حريق بلاده المضطرم منذ آذار 2011 كان له شديد الأثر في نفس ابن قرية «المزة» الدمشقية؛ فجعل من فنه أدوات للسخرية والتهكم من ثقافة الموت والظلام والقتل العبثي وحزّ الرؤوس، ما يعكس انفعالاً دائماً وإصراراً على أهمية موقف الفنان مما يحدث، كما هو كل أعمال هذا الفنان الذي كان منخرطاً في كل هموم وهواجس جمهوره منذ بزوغه على مساحة المحترف الوطني؛ فمن ينسى «جماعة العشرة» التي أسسها مع رفاق دربه في الثمانينيات، احتجاجاً على تكلّس المؤسسة الثقافية وعدم قدرتها على وضع برامج واضحة للنهوض بواقع الحركة التشكيلية.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل