المحتوى الرئيسى

"البلاك ميتال" والخيبة السوداء!

02/23 10:13

موضوعان مترابطان شغلا بعض دوائر الرأى العام خلال الأيام الماضية، ومن الأهمية التوقف عندهما وطرحهما للنقاش بجدية تامة بعيدًا عن السخرية. رغم ما يحملانه من مادة خصبة لكتابة كوميدية سوداء تملأ مجلدات.

الموضوع الأول هو الحملة البوليسية التى قادها "النقيب" هانى شاكر، المسلح بالضبطية القضائية، لتأديب من سماهم بعبدة الشيطان، فى مداخلته التليفزيونية على الهواء التى ينكرها الآن، وهم فى حقيقة الأمر مجموعات من الشباب يجمعهم حب الاستماع إلى نوع من الموسيقى غير المألوفة لدينا، تشتهر عالميًّا باسم "بلاك ميتال" بمعنى الموسيقى المعدنية السوداء، وفقًا لترجمتها الحرفية، وهى تمثل تطورًا لنوع من الموسيقى أقدم منها كانت تسمى "هيفى ميتال" وترجمتها الحرفية الموسيقى المعدنية الثقيلة، وكلاهما، "الهيفى ميتال" و"البلاك ميتال" نتاج طبيعى لتطور موسيقى "الروك آند رول" التى تعتمد على أصوات الجيتار الحادة العالية والإيقاعات الصاخبة بعد تزاوجها مع "البلوز"، وهى أغنيات الشجن الأمريكية ذات الأصول الإفريقية.

الفارق أن "البلاك ميتال" أشد صخبًا وتستوحى كلمات أغانيها من تراث أساطير عصور ما قبل الأديان الإبراهيمية، وتعتمد على ارتداء المستمعين الشباب ملابس سوداء تحمل رموزًا أسطورية قديمة لاستكمال تلك الأجواء الغامضة. ليس بغرض إحياء طقوس دينية بائدة أو شيطانية كما يتم اتهامهم بسذاجة وجهل، ولكن كطقوس مسرحية تتم بغرض استكمال تفاعلهم الفنى مع كلمات الأغنيات. هى إذن تقليعة شبابية يمكنك أن تحبها أو تكرهها أو تقول عنها ما تشاء، ولكن من العبث والتزيد أن يكون المرء تافهًا يقتلع الأشياء من سياقها، ويربطها بكلمات ضخمة فارغة كعبادة الشيطان، لمجرد أنه محافظ وتقليدى فى اختياره لما ينتجه ولما يستمع إليه ويكره التجديد بكل صوره وأشكاله، كراهية التحريم. على الأرجح لأن الجديد يفضح اعتماده على التكرار والاستنساخ الذى يأنف منه المبدعون الحقيقيون. الأهم والأخطر بالطبع أنه يشحن البسطاء عامدًا ويوغر صدورهم تجاه كل جديد بطريقة رخيصة، عندما يربطه بمنتهى السطحية بأمور تجرح مشاعرهم الدينية.

الموضوع الآخر هو قضايا حبس الكتاب بشكل عام، قبل أن يكون عن الفصل المنشور من رواية أحمد ناجى الذى صدر الحكم بحبسه بسبب "كلماته" التى خدشت حياء رافع الدعوى، فى مجتمع لم يسعَ محاموه الأشاوس إلى التصدى بدعاوى مماثلة ضد من يحتمون بمناصبهم التنفيذية والبرلمانية، ويذبحون حياء المجتمع بأسره "بأفعالهم" الإجرامية التى يعاقب عليها صريح القانون، وليس تأويله ببراعة بهلوانية. خطورة القضية تكمن فى أن خيطها يمكن مده على استقامته ليصل إلى حبس كاتب يتناول الصراع الطبقى مثلاً، أو يتحدث عن ثورة جياع قادمة فى مقال منشور بدعوى أنه أثار خوف مقدم البلاغ بتحريضه على الاحتراب الأهلى!

كل شىء يمكن توقعه عندما يتفرغ من يرفعون لواء الفضيلة والحرص على الأخلاق لتجريم الموسيقى والكلمات، بدلاً من أن تدفعهم أخلاقهم للتصدى لمن يسفكون الدماء ويستبيحون الأعراض فى الطرقات.

هناك أدباء كثيرون فى أمريكا اللاتينية استخدموا الجنس فى كتاباتهم قبل الكاتب الكولومبى العظيم جابرييل جارثيا ماركيز، ولو تم منعهم لما وصلت إلينا رائعته "مائة عام من العزلة" التى استخدم فيها الجنس بصورة فنية بالغة الجمال، لا بديل عنها للوصول إلى فكرته الفلسفية الراقية التى تعصف روعتها بعقلك وكيانك بعد قراءة الرواية. فى مدينة ماكوندو التى تشبه جزيرة منعزلة عاشت عائلة خوزية أركاديو بوينديا بأجيالها المتعاقبة، التى يمارس أفرادها زواج المحارم الذى ينتج عنه إنجابهم مواليد مشوهة. فى تلك الرواية اختار ماركيز الاعتماد على فكرة جنسية يأنف منها الأسوياء، لكى يلخص لنا رأيه فى انعزال الحضارات، الذى يجعلها تبدو كأنها تتزوج نفسها عندما تتقوقع وتنغلق على ذواتها، فتقع أسيرة لمعتقداتها الخاصة التى تنمو أمام أعينها كأجنة مشوهة يضربها العوار. تمامًا كما يحدث فى عملية انعزال العوامل الوراثية التى تنتج عن زواج الأقارب، وتجعل مواليدهم أكثر عرضة لمخاطر الإصابة بالأمراض العضوية والتشوهات العقلية والسلوكية. تلك الفكرة دفعت ماركيز ذا الموهبة الفريدة إلى الاسترسال فى وصف المشاهد الجنسية بين المحارم كضرورة فنية، تتيح له أن يضع تفنن المحارم فى صناعة متعتهم الحسية فى مواجهة كل ما ينتج بعدها من بشاعة وتشوهات. لقد وصل الأمر إلى درجة أن الفتى أوريليانو وعمته كانا يدهنان بعضهما البعض بالمربى ويلعق كل منهما جسد الآخر قبل ممارسة زنا المحارم! قام ماركيز بذلك الأمر ببراعة وحرفنة صاحب السبع صنائع "الصايع"، وقدمه لنا فى مزيج مدهش جمع بين الكوميديا والشبق، وأضفى على العالم الذى صنعه فى تلك الرواية البديعة خصوصية مذهلة، ومنحها مذاقًا أدبيًّا فريدًا جعلها واحدة من أهم روافد الواقعية السحرية وعلامة فارقة فى تاريخ الأدب.

لو قرأ من يحملون محاكم التفتيش فى عقولهم بضع صفحات مُنتزَعة من رواية "مائة عام من العزلة" لأحرقوها بلا تردد، ولكن ربما لو أكمل أحدهم قراءتها بعقل مفتوح لتغير موقفه منها إنْ فهمها وأدرك أبعادها. الوصاية تفترض أن المجتمع ما زال قاصرًا، والأسوأ منها أن الوصى عادة ما يكون قاصر الفكر! محاربة السيئ قد تمنحه قبلة الحياة، ومحاربة الجيد لن تمنعه من الانتشار مهما تصدى له من يحملون المشاعل لإحراق الساحرات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل