المحتوى الرئيسى

نزهة المشتاق في سوق الدار البيضاء

02/22 14:28

"أنت في الدار البيضاء" قلتها لنفسي لأمسك بقوة بتلك اللحظة التى نادرًا ما يصادفها أحد في رحلة سفر بعيد عن بلده.

لحظة نادرًا ما يصادفها مسافر، قد تحجبه الأضواء والمتع عن لحظة النور التى يكبر فيها القلب لدرجة أن تنمو على جانبيه شعيرات بيضاء، لأن كل ذرة في جسده تشعر بأنه يقف الآن على نقطة أخرى في الكوكب بحسابات جديدة بوجوه مختلفة بقواعد مجهولة بانفصال تام عن دائرة التشويش التقليدية التى تعيش فيها، أنت الآن في لحظة قرب من الله.. فلا أحد يعرفك في هذه النقطة غيره، تمام الغربة عن البشر الذين يشبهونك ويقيدونك بقوانينهم، هو تمام التفرد وتذوق أن تجربة الحياة مهما طالت ستصفصف عليك أنت وحدك في النهاية.

لحظة نور، محظوظٌ من يستشعرها فى سفره، لا تبحث عنها ولا تحاول أن تتدرب عليها، فقط اترك الرادار مفتوحًا وهي ستعرف طريقها وقتما تشاء، تذوقت هذه اللحظة بينما أعاني آلاما لا تطاق، والسبب أن المغرب لا يعرف اختراع "الشطاف"، وهي مأساة كل مصري مغترب، الشطاف الذي اعتاده الواحد في حياته كمساعد إخراج، تصبح الحياة بدونه فجأة مأساة، ستقول لي: بلاد بره لا تخلو من "البيديه" وهذا صحيح، لكنني كصعيدي أصلى لا أعرف كيف يجب أن أستقل البيديه، يعني هل أجلس ووجهى للحائط أم أجلس وظهرى له، أم أجلس بزاوية منفرجة على ركبة ونصف؟ مأساة بالذات عندما تكون قوة اندفاع الماء الخارج منه ضعيفة لا تشبه قوة اندفاع الماء في شطافات بلادي (قوة تجعلك تمسك بالمحبس جيدًا خوفًا من اندفاع مفاجئ بالذات إذا أدرت المحبس قليلا ولم يخرج الماء فتنتبه بشدة خوفًا من الغدر). 

غياب الشطاف يجعل العملية صعبة للغاية، والكارثة عندما تضغط على نفسك فيؤدي ذلك إلى جرح بسيط يطلق عليه الأطباء "الشرخ" هذا الشرخ هو بروفة على الجحيم، تخيل أن باطن شفتك السفلى قد أصيب بجرح ما ثم نسيت وتناولت طعامًا مشطشطًا، سترقص من الألم، أضف إلى ذلك أن تشعر بسريان الكهرباء الخفيفة في أعصاب نصفك السفلي بأكمله لدرجة ستشعر معها بالشفقة على نفسك.

مأساة تحملتها عدة أيام أثناء وجودي في مدينة "فاس" لكن في "الدار البيضاء" كنت قد انهرت تماما وقررت عدم الخروج من البانيو المليء بالماء الساخن حتى موعد طيارتي في اليوم التالي، لكنني خالفت القرار وقررت قبل نهاية اليوم أن أنزل إلى السوق لشراء بعض الهدايا للأقارب والأصدقاء، متمنيًا أن يخفف الله هذه الآلام وهو يعلم أنني سأعاني في مشواري هذا لإسعاد الآخرين.

كانت الشمس لم تغب بعد والأمطار نصف قوية، تبعد السوق عشر دقائق سيرًا على الأقدام، كانت الأطول في حياتي، أمام بوابة السوق القديمة توقفت الأمطار تمامًا ثم بزغت الشمس بقوة وكأنها مصباح يتوهج قبل أن يحترق، وهبّت رائحة هي خليط من عبق السوق القديمة ونسمات المحيط الأطلنطي والطمي المغربي الذي تشبع بماء المطر ثم جاء صوت أذان المغرب بلكنة أهل المغرب هادرًا، سمعت قلبى يقول "أنت في الدار البيضاء.. أنت في الدار البيضاء" كان للجملة أنوار تشبه أنوار التسبيح، وقفت في مكاني وأغمضت عينيَّ وقلت "الله" قلتها وكأنها تخرج مني للمرة الأولى.

فتحت عيني وأنا أشعر أنني مقبل على ساعات من السحر الصافى، مع حلول الظلام تغلق محلات السوق أبوابها، لم أكن أعرف المعلومة فشاء القدر أن أتجول بمفردي في أزقة السوق وكأننى البطل الوحيد في هذا المشهد، كنت أشعر بونس يجرحه كل قليل تأنيب العودة إلى مصر بلا هدايا، قلت لنفسي: شيكولاتة من السوق الحرة ستحل كل المشكلات.. ثم إني ماكنتش فى إعارة يعني، ظللت أتجول وأتنقل بين محطات مختلفة من الموسيقى والغناء كانت كل واحدة تطل من أحد شبابيك البيوت القديمة داخل السوق، إلى أن وصلت أمام محل وحيد مضاء وصاحبه يجلس أمامه يدخن ويشرب الشاي، نظر إلىّ الرجل نظرة "إنت إيه اللى أخّرك؟" ثم ابتسم فدلفت إلى محله المتواضع الذي يبيع الجلاليب المغربية الرجالي، حكيت له قصتي فطلب مني أن أنسى المحل وأن أحدد طلباتي وهو سيوفرها لي.

كانت لسعة البرد محببة إلى القلب، وكان الرجل بشوشًا، كان يعد لنا براد الشاي المغربي ويستمع إلى طلباتي، وضع فى السماعات فلاشة عليها أغاني مديح نبوي مغربي، وتركنى في المحل ثم اختفى.

"أنت فى الدار البيضاء" كان الصوت يختفى ثم يجىء بنوره من جديد، مددت يدي داخل فاترينة "السِّبح" وأخذت واحدة تشبه حباتها حبات الترمس.

كنت أقلبها في يدي وأنا مندمج مع المديح الذي لم أميز منه سوى "اِلْزم الباب إن عشقت الجمال.. واهْجر النوم إن أردت الوصال.. الله يا مولانا الله الله".

ثم هلّ الرجل من بعيد وخلفه شاب صغير بنضارة، يحملان بضاعة من مختلف المقاسات، عبايات حريمي وقطعًا من الصابون المصنوع يدويا بمختلف أنواع الزهور

مرت ثلاث ساعات أصف للرجل فيها مقاسات صاحب كل هدية، فلان قصير وكتفه نحيلة لكنه صاحب كرش، وفلان ضخم ومتناسق ربما أطول مني قليلا، كان الأقارب

والأحباب حاضرين في المحل الصغير، وكأن كل واحد يختبر هديته بنفسه قبل الشراء، كنت أسترجع كل واحد على حدة فكأنني أكتشفه من جديد، هناك فى حياتي من لم أعرفهم جيدًا إلا فى هذه اللحظة، وهناك من اكتشفت أنني أستطيع أن أخمن مقاس قدميه، هناك من يشبه هذا الجلباب اللامع المرح، وهناك من خلقت هذه العباءة الوقور من أجله.

نسيت الألم ولم يتوقف الشاي المغربي للحظة وكان المديح يعيد نفسه وبدأت الأمطار تهب من جديد، وجاءت لحظة الحساب فأعدنا أنا وصاحب المحل اكتشاف نفسَيْنا

وعلاقتنا ببعضنا من جديد، قال لي المطلوب ثم استشعر في عيني توترًا ما، هو يعرف أننى بلا خبرة في الأسعار وربما يراودني شعور أنني ضحية، الحقيقة أنني توترت من نظرات متبادلة بينه وبين الشاب، تبدل التوتر ابتسامًا عندما أخرج الشاب من جيبه كارنيه معهد الصحافة قائلا إنه شاهدني من قبل مع الإعلامي يسري فودة في برنامجه لكنه لم يكن متأكدًا.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل