المحتوى الرئيسى

هيكل الإنسان.. تجربة شخصية!!

02/21 22:28

كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة ظهراً، أسابق الزمن كى أكون إلى جواره فى لحظة الوداع الأخيرة، لقد اختار الأستاذ مسجد الحسين لينطلق منه إلى «دار العودة»، يتساءل الناس: ولماذا؟ وينسون أنه قضى طفولته هناك، حيث الناس البسطاء وعبق التاريخ.

أتأمل الوجوه، أعرف البعض منهم، لكن هؤلاء البسطاء جاءوا ليقولوا للأستاذ: «وداعاً»، أنت لا تعرفنا، لكننا نعرفك، من كلماتك، ومواقفك. ألمح من على بُعد أمتار قليلة، نجليه د. على، ود. أحمد، حسن لا يزال غائباً فى لندن، لم يستطع العودة، لكننى كنت أتواصل مع نجله «على» وأعضاء فريق مكتبه خلال الأيام الأخيرة التى سبقت الرحيل.

خرجنا من «صحن» المسجد، مضينا خلف الجثمان، أكاد لا أصدق أن «الأستاذ» قد رحل، وأننى لن أرى ابتسامته، وسؤاله التقليدى بمجرد الدخول إليه: «إيه أخبارك يا سيدى»!!

عدت بالذاكرة سنوات طوالاً، فى المرحلة الابتدائية عندما كنت صغيراً، كل جمعة أمضى من بلدتنا فى جنوب الصعيد إلى مدينة قنا، كنت أمشى على «قدمىّ» يوم الجمعة من كل أسبوع إلى مدينة «قنا» أشترى صحيفة الأهرام لأقرأ مقاله الأسبوعى «بصراحة»، كان ثمن الأهرام وقتها «قرش تعريفه»، ليس مهماً أن أفهم جوهر المقال، لكن يكفينى أننى كنت أقرأ كلماته بشغف، أشعر بحلاوة العبارة، وجمال الحروف التى تُكتب بها، وأضع فى سجل حياتى أننى قرأت للأستاذ وأنا دون سن الشباب.

كان حلمى الأبدى أن ألتقى «الأستاذ»، رسمت ملامح اللقاء فى ذاكرتى، انتظرت تحقيق الأمل، كبرت وكبر معى الحلم، كنت قد قررت منذ زمن طويل أن أكون «صحفياً».

فى سبتمبر «1981» كنت قد بدأت رسم ملامح «الحلم»، لكننى فجأة قرأت اسمى ضمن 1536 صدر لهم قرار اعتقال من الرئيس السادات، كنت واحداً منهم، منحونى رقم «167» لمحت اسم الأستاذ «هيكل» ضمن المعتقلين، قلت إذن لقاؤنا الأول سيكون فى «الزنزانة».

كان يُفترض أن يكون لقائى معه فى سجن «ملحق طرة»، وعندما همت سيارة الترحيلات بإنزالى، صممت أن أذهب مرافقاً لأخى محمود الذى كان قد جرى توزيعه على سجن «ليمان طرة»، خرج الأستاذ فى الدفعة الأولى، وتم الإفراج عنى فى الدفعة الثانية، وضاعت فرصة كنت أنتظرها.

فى شهر فبراير 1984 كنت قد كُلفت من الأستاذ مكرم محمد أحمد بإجراء تحقيق حول الأزمة التاريخية بين هيكل وأحمد أبوالفتوح، عادت الأحداث تطل برأسها من جديد، كان السؤال: كيف ألتقى الأستاذ، يومها كان الصديق الكاتب الراحل محمود عوض قد استمع إلى رغبتى، لم يتردد، تحدّث معه على الفور، قدمنى إليه، وشعرت يومها بأن اللقاء الأول لن يكون اللقاء الأخير.

انطلقت بكلماتى أمامه، كأننى أحفظ تاريخه عن ظهر قلب، قرأت كلماته، رحت أحدثه عن كتبه، وأناقشه فيها، كان «الأستاذ» بسيطاً، مباشراً، جلست معه لأكثر من ساعة، ومنذ هذا الوقت بدأت علاقتى المباشرة به.

مضت الأيام والأحداث، كان يتابعنى، وكنت ألتقيه بصفة مستمرة، ربطتنى علاقة إنسانية به، وكان القاسم المشترك بيننا هو «الوطن»، كان الأستاذ يتعرض لحملات مسمومة فى هذا الوقت من بعض الكتّاب، كان محاصراً، لكننى كنت جنباً إلى جنب مع آخرين نقف فى «خندقه» ندافع عن تاريخه وعن مواقفه التى كان يفخر بها دفاعاً عن القيم التى ظلت تسكن بداخله حتى الرمق الأخير.

فى عام 2003، وتحديداً بعد غزو العراق مباشرة، جرى تحريك إحدى قضايا النشر ضدى وضد شقيقى محمود فجأة، كنت من الرافضين للغزو، خرجت على شاشة قناة «الجزيرة» فى هذا الوقت، ودعوت الجماهير للنزول إلى ميدان التحرير لرفض مؤامرة ضرب العراق، وحملتنى الجماهير على الأكتاف فى الميدان، حدثنى يومها السيد صفوت الشريف لينقل لى غضب الرئيس مبارك، ويحذرنى من تهييج مشاعر الجماهير، مضيت فى طريق غير عابئ، وفجأة وجدت نفسى فى السجن، وكان معى أخى محمود أيضاً.

فى هذا الوقت كان الأستاذ هيكل يقضى بعض أيام هذا الصيف فى مدينة الإسكندرية، أجرى اتصالات بالدكتور أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس، وعاد إلى القاهرة، منذ اليوم الأول ظل يتابع مع أسرتى، وكان مكتبه يكاد يتصل بشكل يومى بالسيدة زوجتى ليسأل عن الأحوال، أحوال الأسرة وأحوالى داخل السجن.

بعد ثلاثة وعشرين يوماً داخل «مزرعة طرة» تم الإفراج عنى أنا وشقيقى محمود، بمجرد الخروج من بوابة السجن فوجئت بالأستاذ هيكل يحدثنى على تليفونى المحمول الذى كان برفقتى فى هذا الوقت، يدعونى أنا وأسرتى للاحتفاء فى منزله الريفى بقرية «برقاش» على بُعد نحو خمسين كيلومتراً إلى الشمال من القاهرة.

فى اليوم المحدد كان الأستاذ وحرمه السيدة «هدايت تيمور» فى انتظارنا، جلسنا معاً على مائدة الطعام، أحكى للأستاذ تفاصيل ما جرى خلف الأسوار والأسباب التى دفعت إلى ذلك.

قضينا فى هذا اليوم عدة ساعات، اختتمها الأستاذ بجولة فى المزرعة، يحدثنا عن الأحجار التى جاء بها من أسوان وسيناء والوادى الجديد، وغيرها من المناطق، وكان لكل شىء دلالته، حتى وصلنا إلى نهاية المطاف، فأشار إلى ركن جانبى، وقال: «وهنا دار العودة، مقبرتى».

انقبض قلبى فجأة، نظرت إلى الأستاذ وقلت له: «ربنا يديك الصحة والعمر الطويل»، قال: «تلك هى النهاية التى ننتظرها جميعاً».

عدنا إلى منزلنا فى وقت متأخر فى هذا اليوم، شعرنا بالحميمية والدفء فى علاقتنا بالأستاذ والسيدة حرمه، هكذا هو، يُشعرك وكأنك أنت الصديق الوحيد، محل الاهتمام والرعاية، يتواصل معك ويضعك فى مرتبة كنت تسعى إليها، أو تحلم بها.

كانت خلافات الأستاذ مع الحكام قائمة على أسس مبدئية، كان يفصل بين ما هو شخصى وما هو موضوعى، ولذلك كان مصمماً على البقاء فى مصر مهما كانت الخلافات، ومهما كانت النتائج، وهو ما عبّر عنه بقوله: كان خيارى الذى اتخذته بكامل حريتى وإرادتى أن أظل فى مصر مهما تكن المشاق، وأن أبدى رأيى من داخلها مهما كانت المخاطر، ومع أن كثيرين حاولوا تبصيرى بما يمكن أن ينتظرنى فى مصر وحاولوا إقناعى بالبقاء وحيداً ولو لبعض الوقت ووصل بعضهم، ولهم الفضل، إلى حد أنهم قدموا لى عروضاً بمهام وأعمال تشغلنى خارجها إلا إننى شكرت ثم اعتذرت لأسباب بينها أننى لم أستطع أن أرتفع إلى مستوى المفكرين الإنسانيين العظام من أمثال «فولتير» صاحب القول المأثور بأن «كل كاتب يجب أن يكون حراً فى اختيار وطنه.. وطنه حيث توجد الحرية»!!، وربما كنت حبيس نظرة قد تبدو ضيقة وهى «أن وطنى هو وطنى، هو وطنى».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل