المحتوى الرئيسى

المفكر اللبناني «خالد زيادة»..صورة من قريب للدبلوماسية الثقافية

02/21 22:10

الخطاب الشفاهي أو المكتوب عن الأصدقاء يعتمد أساسًا على العواطف وقيمة المحبة وخبرات العيش والتفاعل فى إطار الصداقة هذه القيمة التى بدونها تبدو الحياة قاسية وصعبة، مثلها مثل الحب قيمتان تعطيان الحياة بعض من معانيها الحقيقة والعميقة فهما قيمتان وجوديتان تضفيان على الشرط الإنسانى معنى اللطف والبهجة، وطيف من السعادة والقدرة على مغالبة طوارئ الأحداث، والألم الذى يكتف مسارات الحياة والوجود.

الصداقة بين الأقران وزمر الرفاق شئ، وبين المثقفين شئ آخر تماماً، لأن المثقف والمفكر فاعل وتصادمى، ومتوتر مهما بدى على سمته الهدوء والرصانة التى تحملُ فيما وراءها هشاشة ما، وغياب للرضا والامتثال، وإنما المثقف قرين النقد والرفض والتمرد والانخلاع مع مألوف الأبنية والقواعد والمعتقدات الشائعة بين الناس. هو شخصية مشاكسة وغاضبة وناقمة، هو أحد أبرز معارك هدم اليقينيات والأمثولات والخبرات المتراكمة لأنه يراها تحول دون السعى إلى معرفة الحقائق النسبية، ويسعى إلى تفكيلها، وتقويضها، ويأمل فى بناء الأبنية، والمنظورات والمقاربات الجديدة على أنقاض هدمه لما هو سائد، أو تدميره حتى لمألوف كتاباته وقناعاته. هو هادم القناعات الذاتية، والجماعية، ويمتلك جسارة خيانة قناعاته فى سبيل القناعات الجديدة وغير المألوفة.

من هنا الصداقة والمحبة بين المثقف وصديقه الحامل لهذا النعت الجليل، تبدو صعبة بين كليهما، لأنها ناقدان لذاتهما وللآخرين. وتبدو الصعوبة استثنائية لأنهما "لا يعجبهما العجب ذاته" إذا شئنا استعارة بعض من التعبير الشائع مصرياً.

هذا الاستهلال يجد شرعيته ومسوغاته فى الخطاب حول صديق عزيز وغالٍ تعرفت عليه منذ أكثر من عقدين داخل لبنان وبعض أروقة المؤتمرات فى أوروبا، والعالم العربى، وتزداد الصداقة والمودة والمحبة عمقاً على عمق، وتبدو إصالته وعمقه الإنسانى أكثر رحابة، وثقافته رفيعة، ورؤاه أكثر حساسية وبصيرة.

خالد زيادة نموذج للمثقف الرفيع التكوين، أصيل الفكر، وعميق المعالجات والمقاربات المنهجية فى دراساته وكتبه، وفى ممارساته كديبلوماسى جاء من دائرة المثقف والأكاديمى، ونجح لأنه قادر على إيصال خطابه مهماً كان حدة نقده –على عكس بعض صور المثقف الشائعة بيننا-، وذلك فى لغة ديبلوماسية هادئه لكنها قوية وتحمل معها الرأى والفكرة دونما تجريح أو خدش، لغة تواصلية ممدودة نحو الحوار والاختلاف فى مودة وصداقة. فى الحياة الأكاديمية والثقافية اللبنانية والمصرية والعربية لم يتغير خطابه وظل مفتوحاً على المغايرة والتناقضات والخلاف، وعلى بناء الجسور مع المختلف فى ظل خطابه الرصين الهادئ.

خالد الديبلوماسى، هو خالد الأكاديمى والمثقف، استطاع أن يجمع فى فراده ربما لم يسبق إليه إلا قلة -صلاح سيتيه السفير اللبنانى والشاعر بالفرنسية، وغسان توينى المثقف والوزير والديبلوماسى، وطارق مترى صديقنا المشترك والسفير عادل ضاهر- وهو ما يمثل ديبلوماسية المثقف الذى يعرف كيف ينتقى اللغة فى أناقة وقوة فى التعبير عما يريده، والذى يتفهم فى عمق الشخصيات السياسية والديبلوماسية، ونظائره وأشباهه من المثقفين، وقدرته على الفرز والتقييم النقدى السليم فى معرفة الوجوه والأقنعة والإمكانات والإنجازات.

أحد السفراء القلائل الذين تداخلوا فى الحياة الثقافية المصرية حضوراً وكتابة ونشراً لأعماله، وبنى جسوراً من الحوار والمودة والصداقة مع أطراف من أجيال متعددة فى الثقافة المصرية، ولم يقتصر فقط على الأسماء اللامعة.

خالد زيادة وعائلته هو من بيوتات العلم والثقافة فى طرابلس، مع أخوته معن زيادة رحمه الله، وأخوه من كبار قضاة وفقهاء لبنان .. أسرة عروبية بامتياز قناعة وولاءاً وانتماءاً للوطن العربى الكبير.

لبنان المتعدد والواحد المتفق والمختلف، وجد تعبيره الإنسانى الأمثل فى شخصيات قليلة وخالد زيادة أحد أبرزهم، لم يترك لانتماءاته الأولية الدينية أو المذهبية أن تؤثر على تقييماته التاريخية أو السياسية، ومن ثم يشكل نموذجاً للتوافق الوطنى والطائفى، وللوحدة فى التعدد، ولهذا لم يترك عقله ووجدانه نهباً للتحيزات، والولاءات الضيقة، وإنما كان تعبيراً عن شخصية لبنان التاريخية التى تضم عديد المكونات والتعديات، من ثم لعب خالد زيادة دوراً بارزاً فى الحوار الدينى بين الأديان والمذاهب، وبين الإسلام والمسيحية، وبين السنة والشيعة داخل لبنان، ومع صديقنا المشترك الراحل المقيم السيد هانى فحص. من ثم سعى إلى البحث عن المشتركات والموحدات حول القيم الدينية والإنسانية المشتركة، فى ظل صيغة العيش المشترك، والمواطنية فى لبنان وخارجه فى البلدان العربية.

تتسم مقاربات المفكر البارز خالد زيادة بالحس التاريخى اليقظ والبصيرة السياسية التى يولدها، والتى من لديه من تخصصه الأكاديمى، ومن دراساته المتميزة فى تاريخ المنطقة وتقلباتها وتحولاتها بدءاً من العصر المملوكى إلى الدولة العثمانية وصولا لدولة محمد على وتطوراتها حتى مصر الليبرالية والناصرية وإلى الأن.

أحد مزايا المقاربات التى استخدمها د. خالد أنها تجاوزت المنهجيات السردية للوقائع، أو النزعة لإدلجة الوقائع التاريخية التى سادت تحت تأثير هيمنة الإيديولوجيات الماركسية، والقومية العربية التى سادت المدارس التاريخية السائدة طيلة عقود والتى قدمت قراءات غالبها مفارق للواقعات والأحداث ومسارات التاريخ فى المنطقة، لاسيما المشرق العربى ومصر. اتسمت مقاربة خالد زيادة بالحد الأدنى من الموضوعية والصرامة، والتحليل السوسيو-تاريخى، والسوسيو ثقافى، وفى الربط بين تأريخه والتحليل للموضوعات المركزية/ أو القضايا الرئيسة التى شغلت الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع العربى، وهو ما تجلى فى عديد كتبه اللافتة للنظر، ومنها تطور "النظرة الإسلامية إلى أوروبا"، و"كاتب السلطان حرفة الفقهاء والمثقفين والمسلمون" و"الحداثة الأوروبية"، حتى كتابه الأخير" لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" (2013 ..دار نشر شرق الكتاب) وقبلها "دراسات فى الوثائق الشرعية" و"الصورة التقليدية للمجتمع الدينى"، و"المصطلح الوثائقى"، و"الخسيس والنفيس الرقابة والفساد فى المدينة الإسلامية"، و"العلماء والفرنسيين فى تاريخ الجبرتى".

أن نظرة على كتاب لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب على سبيل المثال، تناول موضوعه من خلال التيمات الأساسية 1-الجوار 2- التحديث 3- النهضة 4- الإصلاحية الإسلامية 5- الثورة 6- الإيديولوجية 7- الدولة 8- الأصولية.

كتابة تتسم بعمق المعالجة –مهما كان اختلافك مع الكاتب منهجاً أو تدليلاً- إلا أنك لا تملك سوى الإعجاب بالمنهجية والممارسة البحثية.

ثمة سمت آخر لكتابة خالد زيادة تتمثل فى لغته وأسلوبه الذى يتسم بالسلاسة والوضوح والبلاغة الرصينة دون إفراط أو تفريط، وإنما فى دقة وانضباط وجمال لغوى مقتصد يأخذ من اللغة العلمية والاصطلاح الأكاديمى الدقة والموضوعية والوضوح الدلالى، وذلك على الرغم من كونه مارس السرد الروائى فى روايته حكاية فيصل (دار النهار 1999- 2008 دار الشروق، القاهرة 2012). وثمة سردية فاتنة فى ثلاثيته حول مدينته الأثيرة طرابلس فى شمال لبنان (يوم الجمعة، يوم الأحد) دار النهار بيروت 1994، 1995، 2008، وصدرت له ترجمات، بالفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية عن المؤسسة الأوروبية للثقافة 1996، وصدرت له ترجمة إنجليزية فى استراليا 2005.

ثم "حارات الأهل، جادات اللهو"، دار النهار 1995-1996، وترجم إلى الإنجليزية فى دار Palgrave Macmillan نيويورك 2011، ثم بوابات المدينة والسور الوهمى، دار النهار 1997-2008، وصدرت هذه الثلاثية الفاتنة مجدداً بالقاهرة دار الشروق 2010.

باحث قدير ومفكر متميز فى طليعة المثقفين اللبنانيين والعرب شارك ولا يزال فى الفعاليات الثقافية العربية الكبرى، من منطلق إيمانه بضرورة تجديد الفكرة العربية فى عالم عربى يعانى من الانقسامات والتشرذم والتفكك والانهيارات، وفى ظل عالم متغير ومتحول ومفعم بطاقات هائلة للتغير والتطوير والهدم، فى سعيه ومخاضاته المابعدية للخروج منها إلى عالم لم تتضح معالمه بعده.

خالد زيادة فى عمله البحثى والفكرى وسردياته، وعمله الديبلوماسى يحملُ هدوءاً ورصانة لا تخطئها العين والمعايشة، ونزوع نقدى يساءل المسلمات واليقينيات ويفككها ويهدمها لكن فى أهاب قد يبدو هادءاً، لكن إمعان النظر ستكتشف أنها لعبة خالد زيادة الباحث والمثقف، حيث تبدو هذه النعومة الهادئة أو الهدوء الناعم الرصين هى أقرب إلى الخدعة السردية، وسرعان ما تبين للعين الفاحصة أنه يهدم فى سلاسة قناعات ومرويات، ويعيد بناء حقائق نسبية دون خشونة أو صلافة لغوية أو مجازية. ويبدو جلياً أن خالد الصديق يخفى وراء سمته الهادئ الوقور، شخصية ساخرة.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل