المحتوى الرئيسى

الحقيقة والوهم في أزمة سجن الروائي أحمد ناجي

02/21 15:39

اقرأ أيضا: الإنذار الأخير لوزير الداخلية هل قررت تركيا الدخول إلى سوريا في وداع هيكل .. هذا هو قائد أخطر معارضة لنظام السيسي الرأس الكبير التي ستطير مع جوليو ريجيني

كان الخبر مفاجئا تماما أمس عندما أصدرت محكمة استئناف حكما بسجن الروائي الشاب أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء ونشره فصلا من رواية مخلة بالآداب العامة في إحدى الصحف القومية ، والمفاجأة كانت بسبب أن محكمة أول درجة كانت قد برأته كلية من التهمة ، فلما استأنفت النيابة على الحكم صدر الحكم الجديد ، والرواية المشار إليها فيها أجزاء مسفة بالفعل وشديدة الابتذال والإباحية ، ولكن من الصعب أن تقنع أحدا في مصر الآن بأن الدولة حريصة على الأخلاق العامة والفضيلة إلى هذا الحد ، فالحياء يخدش يوميا على شاشات الفضائيات وبالألفاظ العارية من رموز سياسية أو رياضية أو إعلامية مقربة من السلطة نفسها أو محسوبة عليها ، فهل "نقحت" الأخلاق على الدولة في موضوع أحمد ناجي وحده ، هذا هو السؤال الذي لن تجد إجابة عليه ، كما أن حبس أديب سنتين لأنه نشر سطورا قبيحة أو مخلة بآداب المجتمع وأخلاقه يصبح مستفزا بالفعل عندما تقارنه بتبرئة شرطي هتك عرض سيدة علنا أو تورط في اغتصاب فتاة داخل سيارة ، فهنا سيكون من الطبيعي أن يفهم الرأي العام أن تضخيم حكاية خدش الحياء في رواية هو قنبلة دخان لإخفاء معالم القبح الحقيقية في الدولة والاستباحة الحقيقية للحياء والإنسانية .

في الأزمة التي سببها أحمد ناجي من المهم التفريق بين جانبين فيها ، الجانب الأول هو التضامن مع الموقف الرافض لأحكام سلب الحرية في قضايا النشر ، وأنا شخصيا متضامن مع ذلك الموقف ، وفي حالة ناجي أنا ضد حبسه قولا واحدا ، الجانب الآخر هو التضامن مع العمل الروائي الذي نشره ، وهو موقف عاطفي وعشائري أكثر منه عقلاني أو متصل بواقع وحقيقة ، على طريقة انصر أخاك ظالما أو مظلوما بمفهومها الجاهلي القديم ، وهنا أنا أسجل عدم تضامني نهائيا مع ما نشره أحمد ناجي وزميله رئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب ، وهي صحيفة قومية ، يتم الإنفاق عليها من المال العام ، وبالتالي من اللياقة والمسئولية أن تحترم قيم المجتمع الذي ينفق عليها ، وإذا أراد الخروج عليها فعلى مسئوليته المالية والأدبية ، يمكنه نشر هذه البذاءات في أي مكان آخر ، وليس في صحيفة قومية ، وكان ناجي قد نشرها بالفعل في دار نشر خاصة ولم يسمع بها أحد ولا حققت أي حضور أدبي ولا إعلامي ، فتعمد إعادة نشر فصل بذيء بعينه منها وفي صحيفة قومية في "لعبة" سخيفة حفظناها من فرط ابتزالها من قبل صغار الكتاب والأدباء .

أيضا في ما يتعلق بالنص الذي نشره ناجي فقد تضمن نصوصا إباحية ، قولا واحدا ، وقد أخطأ الأستاذ محمد سلماوي في شهادته أمام المحكمة عندما طالبه القاضي بأن يقرأ النص المشار إليه ، فعجز سلماوي عن قراءته لأنه بشع فعلا ، وهرب من ذلك بالحديث عن أننا لا نستطيع أن نجتزئ من النص الذي يمثل "رؤية" شاملة للعمل الفني ، وضرب مثلا بتمثال محمود مختار ، وهذا كلام غير موفق وغير أمين أيضا ، لأن المشكلة هنا ليست في "الرؤية" وإنما في الأدوات ، في اللغة نفسها ، وعندما قال القرآن الكريم : "فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به" ، قدم رؤية مكثفة بصورة مذهلة ، وبأدوات لغوية راقية للغاية وأعطتك كل شيء ، فعندما يأتي أحدهم لكي يحول "تغشاها" إلى لوحة "بورنو" بالتفاصيل المملة والألفاظ السوقية البذيئة ، فلا صلة هنا "بالرؤية " وإنما باستخدام أدوات لغوية منحطة لاعتبارات تجارية .

وفي كل الأحوال ، فإن المحاكم ليست الساحة المناسبة لمحاكمة النص الأدبي ، ولكن الفراغ الذي تعيشه الحياة الأدبية ، وغياب الإحساس بالمسئولية ، وسيطرة سوق المزايدات ، والتعامل فيها بمنطق "القبائل" الفكرية التي تدافع عن "ابن القبيلة" بالحق أو بالباطل ، هو الذي جعل مواطنين يلجأون إلى المحكمة بدعوى أنه ساءهم ما نشر ، وهناك محترفون يلتقطون مثل هذا الغضب العفوي والمندفع من مواطن أو محامي لكي يحولوه إلى حدوته إعلامية وضجة تأخذ المجتمع بعيدا عن قضاياه الأخطر والأهم ، والملاحظة في المواقف المشابهة الأخيرة مثل ما حدث مع فاطمة نعوت أو إسلام بحيري أو ناجي ، أن الثلاثة ليسوا من المحسوبين على معارضي النظام أو خصومه ، بل من أبنائه وبعضهم يوغل في المزايدة على الولاء للنظام ، وبالتالي يكون من العبث محاولة البعض تصويرها على أنها تأديب السلطة للمتمردين عليها .

المحاكمة الحقيقية للنص الأدبي هي محاكمة أدبية ، والعقاب الموجع للأديب الذي يستخدم ساحة الأدب بصورة انتهازية لتحقيق شهرة رخيصة ويضع الأدب وأهله في صدام مجاني مع المجتمع هو عقاب الجماعة الأدبية ذاتها ، شريطة أن تقوم بدورها الأدبي والإنساني ومسئولياتها تجاه مجتمعها ، وأتمنى أن تكون هناك آليات أدبية تأديبية في اتحاد الكتاب ـ مثلا ـ شبيهة باللجان التأديبية في نقابة الصحفيين ، تتولى هي تمثيل قيم المجتمع ومحاسبة من ينتهكها ، هذا أفضل كثيرا وأقل كلفة من اللجوء إلى المحاكم ، ناهيك عن أن سجن روائي بسبب نص أدبي أصبح سلوكا متخلفا ينبغي أن نتجاوزه جميعا لأن ضرره أكثر من نفعه .

مشكلة الشاب أحمد ناجي ، والتضامن الاعتباطي العاطفي معه بشكل كلي ، أنها تعيد وضع النخبة المصرية أمام معضلة قديمة متجددة ، تتعلق بقدرتها على التواصل مع المجتمع أو الشعب أو الناس ، وقدرتها على تثوير هذا المجتمع أو حشده في معركة من أجل الحرية والعدالة والكرامة ، في الوقت الذي نمارس فيه سلوكا يجعلنا أكثر احتقارا لهذا الشعب وإهانة لمشاعره ، حتى لو اختلفنا مع بعض دوافعها ، كما تجعلنا نعطي للشعب والمجتمع ـ بدون قصد ـ رسالة سلبية للغاية عن معنى الحرية وقيمتها يسهل تصويرها على أنها نشر "قلة الأدب" والبذاءة، وباختصار ، يمكن أن نبيع الشعب ومسار التحرر بكامله من أجل معركة صغيرة لكاتب أو أديب ، أخطأ ، ويمكن أن نعالج أمره بصورة وسطية ومسئولة ، لا يمكنك أن تدوس على كرامة مجتمع واحتقار قيمه والتعالي على مشاعره وأخلاقه ثم تدعوه في نفس الوقت للاستماع إلى نضالك من أجل الحرية والكرامة ، فالحرية والكرامة والعدالة منظومة حضارية مركبة وعقلانية ومتوازنة ورصينة ومسئولة ، لا يمكن أن نبنيها بالمراهقة الفكرية والأدبية والمزايدات لتسجيل موقف بأننا مناضلون من أجل حرية التعبير بينما نحن نخسر المعركة فعليا على صعيد المجتمع والشعب والملايين .

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل