المحتوى الرئيسى

سميرة فخر الدين تكتب: لغز الكتب الرصاصية المُكتَشفة بعد سقوط الأندلس | ساسة بوست

02/20 11:35

منذ 1 دقيقة، 20 فبراير,2016

بعض الكتب الرصاصية المعروضة حاليا بمتحف إيل ساكرامونتي إلى جانب مادة توثيقية

تحتفل غرناطة في مطلع فبراير لكل سنة وبالضبط في أول يوم أحد من كل شهر فبراير (الموافق هذه السنة ل 6 فبراير 2016) بإحدى الحلقات التاريخية الأكثر جدلية في تاريخها. يتوجه آلاف الأشخاص لدير إيل ساكرامونتي, حيث يتم استعراض بقايا يُعتَقَدُ أنها تعود “للقديس سيسيليو”. ظهرت هذه البقايا في إسبانيا في القرن السادس عشر, إلى جانب كتب رصاصية يُعتقد أنها من صنع المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية بعد سقوط الأندلس. وإن أعلن البابا إينوسينسيو الحادي عشر عن زيف هذه الآثار في وقت لاحق، إلا أن السلطات الكاثوليكية الغرناطية أبت إلا أن تخفي قصة زيف الألواح والبقايا عن المجتمع الغرناطي لقرون.

ويَعتَبِرُ المؤرخون الكتب الرصاصية أحد أشهر أعمال التزييف التاريخية التي عرفتها إسبانيا القرن السادس عشر, يتعلق الأمر ب 223 لوحا رصاصيا دائريا من 10 سنتمترات، (تُكوِّنُ في مجموعها حوالي 21 كتابا), نُقِشَت عليها رسومات عسيرة على التحليل والفهم, ونصوصا باللاتينية وأخرى بأبجدية عربية غريبة. تم الاعتقاد في بادئ الأمر بأن الكتب المكتشفة عبارة عن إنجيل خامس كشفت عنه “السيدة مريم العذراء” ليعمم في إسبانيا! (1)

أكد المستعرب، الباحث، الكاتب والمترجم مغيل آخرتي الخبير في كل ما يتعلق بهذه الكتب المُكتَشَفَة في إسبانيا القرن السادس عشر، أن الكتب مزيفة(2), زُوِّرَت ونُسِبَت ل”قديس يُسمَّى سيسيليو” وآخر يُدعى “القديس إيستيفون”، واللذان في واقع الأمر، لم يُعرَف عنهما أي شيء في السابق. وفوق هذا وذاك تم الادعاء بأنهما من أصل عربي.

الأمر الذي يرى فيه الكاتب “مغيل آخرتي” محاولة من مُبتَكِر هذه الكتب أو الألواح الرصاصية جلب تعاطف مع المورسكيين, أي المسلمين الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس سنة 1492م , وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك إسبانيا(3) بمعنى أن الكتب الرصاصية ليست على الأرجح، سوى بصمة خَطَّتها أنامل أندلسية مورسكية بشبه الجزيرة الإيبيرية. اخترعها المورسكيون كثورة صامتة يائسة ضد التطرف, في محاولة لنصرة دينهم، والحفاظ على حياتهم، ولغتهم، وهويتهم، وأملاكهم، وعاداتهم وتقاليدهم. والعيش دون ملاحقة دينية, وتفادي الطرد عبر تأليف ألواح رصاصية يربط مضمونها الإسلام بالمسيحية.

ويُعتقَدُ أن أصل هذه الكتب يعود إلى الوضع الذي عاشه المورسكيون الغرناطيون بإسبانيا بعد سقوط الأندلس, حيث كابد المسلمون غما وكربا بسبب التطرف الديني الممارس عليهم من طرف محاكم التفتيش، حاولوا على إثره البحث عن آخر محاولة للتعايش, بابتكار ألواح تحاول التوفيق بين الديانتين، الإسلام والمسيحية.

في الثامن عشر من مارس لسنة (1588) وخلال عملية هدم برج توربيانا أو البرج العتيق، الذي شكَّلَ منارة مسجد غرناطة القديم، لتشييد كاتدرائية المدينة، تم العثور ضمن الأنقاض على صندوق معدني. وما إن فُتِحَ حتى عثر بداخله على قطعة قماش تتضمن دموعا ممزوجة بالدم تعود، حسب ما تدعيه مُكوِّنات الصندوق، “للسيدة العذراء خلال آلام السيد المسيح”، عظم إصبع (إبهام القديس إسطفانوس، أول “شهيد” في المسيحية)، ولوح خشبي يتضمن صورة للعذراء تحتضن الطفل بين ذراعيها وترتدي زيا مصريا، ومهارق كُتِبَ عليها بثلاث لغات: اللاتينية،القشتالية, والعربية، توضح على رقعة شطرنجية تتضمن حروفا في كل تربيعة، “نبوءة القديس خوان”، وتفسر كيف “قام القس باتريك تلميذ سيسيليو” أسقف إليبريس بإخفاء الصندوق في مكان آمن، وكيف توصل بهذه البقايا.

ولتقريب القارئ من دلالة ما عُثِرَ عليه في الصندوق بالنسبة للمجتمع القشتالي آنذاك, سنتطرق لهذه الاكتشافات وفقا لمفهومها في الديانة المسيحية. وتجدر الإشارة مسبقا إلى أن هذه الاكتشافات ليست سوى اختراع آدمي, لذلك فالمصطلحات الجدلية التي تحمل مفهوما مغايرا في الإسلام محفوظة، ونضعها بين “علامات” ونستعملها فقط لتوضيح ما تعنيه هذه الرموز للكنيسة، وللفكر الإسباني المسيحي, وللمجتمع القشتالي الكاثوليكي.

انعقدت على إثر الاكتشاف جلسة للعلماء، وفي مطلع أبريل, تم التصريح بأن ما تم العثور عليه حقيقي فعلا. هكذا تم تأكيد صحة ومصداقية محتويات الصندوق. ولكن سرعان ما ظهر لهذا المعتقد عدة مناهضين.

بعد وفاة المطران خوان منديث سالباتيرا حل محله بيدرو دي كاسترو -الذي سيصبح واحدا من أشد المدافعين عن الاكتشاف- إذ اشتُهرَ بإقصائه الدائم لروما وللملك, بغية تمتع غرناطة بكل الاستحقاقات.

أراد البعض تفحص الاكتشاف, وبالتالي إشباع الفضول في مسألة ظهور شخصيات دينية هامة من أصل عربي. أما الملك فيليب الثاني، تلك الشخصية الروحانية أسيرة الخرافات، فلقد أراد نقل الاكتشاف للإيسكوريال. وأمام هذا الموقف السلبي لغرناطة، أصدرت روما قرارا بمنع القيام بأي بحث بهذا الخصوص، ولكن واصل رئيس الأساقفة مهمته وفوض للعديد من المفسرين مهمة الترجمة من العربية نذكر من بينهم: لويس فخاردو، مغيل دي لونا، فرانسيسكو لوبيث طماريث, وكاستيو دي ليون. ولكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث تم العثور بين سنتي 1595 و1599 بضاحية جبل بالبراييسو على 22 قرصا رصاصيا منقوشا على الوجهين بعربية مموهة وقديمة، مسماة سليمانية. وأخرى تحمل نجمة داوود أو ختم سليمان، الشيء الذي أضفى مزيدا من المصداقية في صفوف المدافعين عن صحة الصندوق المكتشف(4).

ألواح رصاصية باللغة العربية ونلاحظ على اليمين خاتم سليمان

تحمست غرناطة للحدث، حيث وصفت الألواح عدة أشياء, اعتبرها المجتمع الإسباني الكاثوليكي آنذاك, على قدر من الأهمية, فتحدثت عن “استشهاد” أتباع مزعومون للقديس يعقوب بن زبدي (المعروف ب: سانتياغو): سيسيل، إيسثيو، ميسيطون، تسيفون. “استشهدوا” جميعا في زمن نيرون حسب مفهوم الشهادة في المعتقد المسيحي, وحسب ما تدعيه الألواح الرصاصية عثر على رماد وبقايا عظام تعود لهؤلاء “الشهداء”. والأهم هو أن تم التطرق لعقيدة المسيح من وجهة نظر إسلامية، ليس كابن الله, وإنما كروح من الله. كما تطرقت الألواح لمواضيع أخرى خرافية, بعضها يمزج بين الديانتين المسيحية والإسلام, مثل: مرافقة العذراء للنبي محمد (ص) في رحلته الليلية، “معجزات” القديس يعقوب، حقيقة الإنجيل. باعتباره كتابا مبهما لا زال لم يستطع قراءته أحد، وغيرها من المواضيع.

تتحدث هذه الألواح أيضا عن “أصول مسيحية لغرناطة”، والتي تعود وفق ادعاء الكتب الرصاصية لقدوم الحواري يعقوب بن زبدي إلى غرناطة, مرفقا بتلاميذ من أصل عربي: سيسيليو، إيسثيو، وتسيفون، تتطرق الكتب أيضا إلى كيفية لجوئهم لهذه الكهوف طوال 40 يوما, حيث قاموا بتحرير بعض هذه الألواح وحفظها بعين المكان، وهكذا ومع هذه الاكتشافات الكاذبة، تحولت غرناطة بالنسبة للمجتمع الكاثوليكي, إلى شيء أكبر بكثير من “مجرد غرناطة مورسكية وأرض فتحها العرب المسلمون”.

الآن، ومع كل ما تم اكتشافه أصبحت “المدينة الخائنة” بالنسبة للمجتمع الإسباني الكاثوليكي أكثر إخلاصا للمسيحية من شَنْتَ يَاقُوب (سنتياغو دي كومبوستيلا).

وفي كتاب يحمل عنوان “حقيقة الإنجيل” يتم سرد كيف أن العرب بالنسبة لمريم العذراء أمة فاضلة، وأن لغتهم اختيرت أيضا لنشر شريعة موسى والإنجيل. ومن جهة أخرى ودائما في إطار ابتكار نصوص توفيقية بين الإسلام والمسيحية، يتم الحديث عن السيدة العذراء وفق مفهوم الحبل بلادنس.

تأسيس دير إيل ساكرامونتي تخليدا للاكتشافات المزيفة!

نشأ دير إيل ساكرامونتي على إثر إحدى أهم حلقات التزوير الديني التي عرفها التاريخ، مستغلة الحماسة الشعبية التي أثيرت حول قضية اكتشاف الكتب الرصاصية، والعثور على بعض البقايا المزعومة لقديسين وهميين, تحدثت عنهم الألواح الرصاصية المكتشفة. وإن أعلن البابا إينوسينسيو الحادي عشر عن زيفها في وقت لاحق، إلا أن السلطات الكاثوليكية الغرناطية أبت إلا أن تخفي قصة زيف الألواح عن المجتمع الغرناطي طوال أربعة قرون. حتى أنها على إثر الاكتشاف, نصبت القديس سيسيليو كحام حراسة غرناطة. ولا زالت بقاياه المزيفة تكرم بمذبح كنيسة دير إيل ساكرامونتي. أمر مشابه لما حصل مع القديس سوداريو دي تورين الذي لا زالت بقاياه تكرم إلى يومنا هذا وإن أعلن العلماء أنها مزيفة.

ويُحتفظ حاليا ببقايا القديس والشهداء المزعومين بالمذبح الأكبر لكنيسة دير إيل ساكرامونتي بغرناطة, في أوعية مخصصة لحفظ رفات الموتى مباشرة تحت التماثيل. وفي الفاتح من فبراير لكل سنة, يتم الاحتفال بيوم القديس سيسيليو، والذي مع ظهور الكتب الرصاصية، تم تعيينه كقديس حام لمدينة غرناطة, ليحل محل سان غريغوريو دي إليبيريس، ويسمى أيضا سان غريغوريو إيل بيتيكو والذي نصبه المجتمع الكاثوليكي كقديس حام لغرناطة مباشرة بعد سقوط الأندلس سنة 1492.

إن عرض هذه البقايا المزعومة بخزانات الدير, وكذلك عرضها على العامة في المهرجانات الشعبية الدينية التي تتزامن مع الاحتفاليات السنوية, التي تقيمها مدينة غرناطة “على شرف القديس سيسيليو”، يجلب أموالا وتبرعات هامة للسلطات الدينية.

مع اكتشاف بقايا القديسين المزعومة، ترأس المطران بيدرو دي كاسترو مشروع إنشاء دير إيلسكرامونتي, والذي سيحمل حينها اسم بالبراييسو، كما تم تجهيز الكهوف التي عثر بداخلها على جزء من هذه الآثار الدينية المزيفة باعتبارها “كهوفا مقدسة”، أُطلِقَ عليها اسم دياميس (في إحالة على سراديب الأموات التي اتخذها المسيحيون مخبأ لهم أثناء اضطهادات الوثنيين). يرتبط المكان حاليا بخرافة جلب الحظ, حيث تقوم الزائرات من النساء بالتردد على حجر كبير يوجد بعين المكان, يُعتَقَدُ أنه يمنح المرأة التي تقوم بتقبيله حظ الزواج في نفس السنة.

بقايا مزيفة يمنحها رئيس الأساقفة سنة 2011 لقاضي غرناطة ليقوم بتقبيلها

الكشف عن زيف الكتب الرصاصية

وفي نهاية سنة 1631، رُحِّلَت الألواح الرصاصية إلى مدريد، ثم من هناك إلى روما حيث تم دراستها. ومن بين الأمور التي كشفت عنها هذه الوثائق، عرضها الواضح لفكرة أن عقائد الغزوات والطرد, ليست سوى مضامين دخيلة ومندسة تم حشوها ضمن التعاليم الدينية استجابة لطموحات شخصية.

اهتم البلاط الملكي الحاكم كثيرا بالكتب الرصاصية، وتمكن أخيرا الملك فيليب الثالث من نقلها لمدريد بإصدار أمر إجباري بذلك, بالرغم من معارضة السلطات الدينية الغرناطية.

وبعد عدة سنوات هدد البابا أوربانو الثامن الملك فيليب الرابع بالحرمان الكنسي, في حال امتناعه عن إرسال الألواح الرصاصية للفاتيكان, وهكذا استطاع البابا جلبهم للفاتيكان سنة 1642, وتم فحص الألواح من طرف مختصين, وإنهاء ترجمتها إلى اللاتينية سنة 1665، ثُمَ الإعلان أخيرا عن زيف الآثار من طرف البابا إينوسنسيو الحادي عشر سنة 1682، وذلك لأن الألواح لا تعود زمنيا للعصر الذي ادعى أنها ترجع له، ولعدم وجود هؤلاء الشهداء، ولوشاية حرفي موريسكي بالحقيقة، مفيدا بأن تم ابتكار الألواح ودفنها ليتم العثور عليها لاحقا.

فتمت مصادرة الألواح, وطواها النسيان في غياهب الأرشيف السري للفاتيكان, إلى يونيو 2000.

أما في نطاق دير إيل ساكرامونتي فلقد واصلت الجهات المسؤولة نشر المقالات والكتب التي تدافع عن أصالة ومصداقية بقايا “الشهداء”, بالرغم من الإعلان الرسمي عن زيف الآثار المكتشفة, وأن لا وجود لهؤلاء “الشهداء” بالأساس.

لا يجب أن ننسى أن هذه الآثار الزائفة منحت غرناطة ما كانت بحاجة إليه في تلك الفترة: عددا مهما من الآثار، أصبحت محجَّا, وتَخَلَّصت من سمعتها السابقة كمدينة “موروس خائنة”. ولكن لماذا لا يزال الدير مفتوحا إلى اليوم؟ وإلى متى سيستمر تبجيل قديسي إيل ساكرامونتي؟(5)

بقايا القديسين المزيفة معروضة في مذبح كنيسة إيل ساكرامونتي تحت التماثيل

لماذا قام المورسكيون بافتعال هذه الاكتشافات؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أولا الإحاطة بحيثيات الحقبة والسياق التاريخي لحادث التزوير. بعد احتلال غرناطة، من طرف الملكان الكاثوليكيان الزوجان فرناندو الثاني من أراغون، وإيزابيلا الأولى من قشتالة.

وفي يناير لسنة 1942 م، وقع المسلمون الغرناطيون على معاهدة تضمن لهم حرية العبادة، والثقافة الخاصة بهم, والاحتفاظ بالملكيات، ولكن سرعان ما مارست السلطات الكاثوليكية ومحاكم التفتيش ضغطا على المسلمين للتخلي عن ديانتهم ولغتهم واعتناق المسيحية.

لقد شكلت العقيدة أهم شيء في ذلك العصر، لم يقتصر الأمر على الإيمان لمجرد الإيمان ذاته، وإنما ارتبط بمفهوم إلى أي الفِرَق تنتمي! فإذا انتميتَ للكاثوليكية, ستستطيع الحفاظ على حياتك وعلى ممتلكاتك، وستستطيع أيضا إنهاء آخر أيامك كما حلمت دائما، محاطا بأسرتك. لم يُسمَح للمورسكيين بارتداء الزي الإسلامي، وأُجبِرُوا على تناول لحم الخنزير كما أُجبِرُوا على التحدث بالقشتالية بدل العربية (6) . “كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة, وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية.

ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية, وكان ظنهم أول الأمر أن المسلمين سيعتنقون النصرانية بسهولة، خاصة عندما هاجر زعماؤهم وارتد الكثير من كبارهم، ولما مرت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر, أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة”(7).

وفي 27 سبتمبر عقد هرناندو بن جهور الصغير، أحد قواد الثورة الذي كان “وزيرا” في بلدية قاديار بالبشرات جمعا في حي البيازين لقادة الثورة في بيت رجل شماع اسمه “عدلت”، حضره 26 ممثلا عن المناطق الأندلسية المختلفة. فشرح لهم ضرورة بيعة سلطان الأندلس قبل إعلان الثورة ليجتمع الناس حوله، ورشح لهم ابن أخيه فرناندو دي بالور وقرطبة، وكان هرناندو وفرناندو ينحدران من الأمويين ،خلفاء قرطبة. كان فراندو في الثانية والعشرين من عمره، ذو شجاعة ورجاحة عقل، ولد في بلدة بالور بجبال البشرات وأصله من قرطبة، وكان يعمل ممثلا في بلدية غرناطة. وكان متزوجا من مسلمة اسمها برياندة بريز، وكانت هي ونساء المسلمين يشاركن من أول وهلة في تهيئة الثورة بكل كتمان وتشجيع، فبايعه الحاضرون، وحول اسمه إلى “محمد بن أمية”.( 8)

أحدث الموريسكيون ثورة ما بين سنتي 1568و 1571، وبدأ “العصيان” المسلح على شكل حرب عصابات بدعم عسكري ومالي من الجزائر, ولكن اغتيل ابن أمية سنة 1569 وخلفه محمد ابن عبو, ثم أرسل فيليب الثاني قوات عسكرية كبيرة قوامها جنود إسبان وإيطاليون لقمع الثورة, على رأسها أخوه غير الشقيق جون النمساوي، فاغتِيل قائد المورسكيين ابن عبو بيد بعض أتباعه في مؤامرة دبرها الإسبان في أحد كهوف البشرات في 13 مارس 1571، ثم خمدت الثورة سنة 1571.

وبعد “الهزيمة” جاء “العقاب”، حيث أمر فيليب بإبعاد المسلمين عن غرناطة، فأبعد المورسكيون أولا في يونيو 1569 عن رباض البيازين، ثم أبعد كل المورسكيين من غرناطة إلى قشتالة، وهكذا اجتمع على المورسكيين الغرناطيين “حرب قذرة”, تلاها مباشرة تشريد وإبعاد عن بيوتهم ومدنهم وقراهم, ففي وسط الأمطار الغزيرة وثلوج الشتاء الأولى، اقتيد المورسكيون إلى نقاط تجميعهم في غرناطة فيما وصفه دون خوان بأنه “أبشع منظر في العالم، ذلك لأنه في لحظة المغادرة هطلت أمطار وثلوج غزيرة وعصفت الرياح، فالتصق هؤلاء القوم المساكين ببعضهم وهم ينوحون”.

وقد أبعد الرجال أولا، تلاهم النساء في مرحلة تالية، وقد وصف خينيس بيريث دي هيتا النساء المورسكيات وهن “تبكين وتنظرن إلى بيوتهن وتعانقن جدرانها وتقبلنها مرات ومرات، وهن تتذكرن ماضيهن المجيد وإبعادهن الحالي والمستقبل المشؤوم الذي ينتظرهن” في إبعاد جماعي شبّهه بسقوط طروادة. وكثير من العائلات لم يلتئم شملها ثانية، وتعرض كثير من المورسكيين للاختطاف في أثناء الترحيل من جانب اللصوص ومرافقيهم أنفسهم لبيعهم عبيدا في أسواق النخاسة الأسبانية التي راجت تجارتها كثيرا على حساب الثورة والثوار.”( 10)

بعد الثورة أصبح قرار طرد المورسكيين وشيكا، وهكذا وفي هذا السياق التاريخي تم تزوير الكتب الرصاصية؛ حيث اعتقد المورسكيون أنه إذا ما وُجِدَ أمرٌ يربط بين الديانتين، فالكل سيصبح عنصرا واحدا ولن يكون هناك تفرقة بين المواطنين، كما سينتهي التعذيب الذي لطالما مارسه المسيحيون بحقهم باسم الدين.

كانت هذه غاية الكتب الرصاصية، ولكن هل استطاع المورسكيون ممارسة شعائرهم الدينية والاحتفاظ بأملاكهم والتحدث بلغتهم, بعد اكتشاف المجتمع الكاثوليكي لهذه الكتب؟ لا, بل تم طردهم من إسبانيا، رُحِّلوا بأمر من الملك فيليب الثالث في مرسوم صدر في 9 أبريل 1609 .

وفي سنة 2000, وخلال إعادة ترتيب الأرشيف السري للفاتيكان, ظهرت هذه الكتب الرصاصية من جديد, حيث قرر البابا بندكت السادس عشر إعادتها لأسقفية غرناطة. وفي سنة 2010 ومع افتتاح متحف إيل ساكرامونتي بعد تجديده، تم عرض أربع نماذج للألواح الرصاصية إلى جانب توثيق يوضح ظروف إعادتها لغرناطة, تم تمويل مشروع متحف إيل ساكرامونتي من طرف كل من مجلس أندلوسيا وبلدية غرناطة, أي بأموال جبايات الضرائب المفروضة على الأندلسيين عامة والغرناطيين خاصة، أغلبهم لا يعرفون شيئا بخصوص هذه الاكتشافات الزائفة أو لا يؤمنون بها, حاليا يستطيع زائر المتحف الاطلاع على بضعة نماذج معروضة في خزانات زجاجية تحت مسمى “جدلية الكتب الرصاصية”. (11)

ترى الأبحاث والتحريات بأن صانع هذه الألواح الرصاصية هو على الأرجح، المورسكي ألونسو دي كاستيو (غرناطة، منتصف القرن السادس عشر -1610 م). عمل طبيبا ومترجما لدى الملك فيليب الثاني، كُلف سنة1564 من طرف مجلس غرناطة بنسخ النقوش العربية لقصور الحمراء وترجمتها، كما قام بترجمة وثائق رسمية عربية خاصة بالبلاط, وأخرى مرتبطة ببعض مهام محاكم التفتيش الإسبانية. تحوم أيضا شكوك حول مغيل دي لونا (غرناطة 1550 – 1619)، طبيب، كاتب، مؤرخ ومترجم مورسكي.

ولكن تبقى مهنته الرئيسية هي الترجمة, حيث ترجم في بادئ الأمر وثائق لصالح سلطات غرناطة, ثم شغل منصب مترجم للملك بعد ذلك كمؤرخ ألف مغيل دي لونا كتاب “القصة الحقيقية للملك الدون رودريغو”, الذي يعكس أفكارا تتناسب مع مضامين بعض الكتب الرصاصية, مما يرجح فرضية مساهمته في تأليفها, وبالرغم من أصله المورسكي, نال في تلك الحقبة لقب هيدالغو, وهو أحد ألقاب طبقة النبلاء, استعمل في كل من إسبانيا والبرتغال. وكان المطران بيدرو دي كاسترو دائم الدفاع عنه حتى بعد مماته أمام الأشخاص الذين يتهمونه بعدم الانضباط وسوء النية, وتبقى وصيته بدفنه في “الأرض البكر” تماما كما تتم عملية الدفن في المجتمع الإسلامي مثيرة للانتباه.( 12)

ومع ظهور الكتب الرصاصية, كثر من كلفوا بترجمتها, وكان من بينهم ألونسو ديل كاستيو ومغيل دي لونا، وإن تم التشكيك لاحقا بتورطهما في عملية التزييف، وهناك شكوك تحوم أيضا حول المطران بيدرو دي كاسترو لإصراره على تقديم هذه الاكتشافات, كآثار حقيقية، وبالتأكيد هناك كثر آخرون ولكن ليست هناك أسماء معينة، ومن بينهم، على الأرجح، حرفيون وبناؤون وغيرهم, أي موريسكيون مناصرون للقضية(13).

ولكن كل ما استطاعوا الحصول عليه كان: الطرد! قَبَّحَ الله اليأس! لعل عظمة الإنسان تكمن في مدى إدراكه لحجم خسارته، ولكن أظن أن قمة العظمة تتجلى في مدى خوضه الغمار، وإن كان يعلم أنه خاسر لا محالة، في محاولة أخيرة فقط؛ نُصْرَةً لِذلك الشيء الذي يراه قيما, وفي ذلك الزمان، حارب هؤلاء الأشخاص من أجل هويتهم، تلك الهوية التي سُرِقَت منهم باسم التعاليم الدينية، وهكذا طرد العرب المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية. لقد تعجل المورسكي كل شيء، تعجل الحفاظ على هويته، تعجل نصرة دينه وخدمة ثقافته، تعجل الدفاع عن حياته سلما، تعجل الدفاع عن حياته حربا، تعجل كل شيء، أي شيء، ولكنه لم يتعجل أبدا الطرد والرحيل بعيدا عن ديار أجداده، الطرد لم يعن أحدا وإنما البقاء, كان يعني الكل!

Celebración de San Cecilio en Granada – Romería en el Sacromonte

Muere el arabista Miguel Hagerty , traductor de la obra Al-Mutamid.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل