المحتوى الرئيسى

ناهد صلاح تكتب: مسافة السكة

02/13 10:08

“أنا كدة، حظي كدة، ربنا خلقني كدة”، صوت نجيب الريحاني المشروخ بالسخرية ينطق بوجع يفضح المستور، سخرية كما يُعرفها الطبيب النفسي “ألفرد أدلر”، أحد تلاميذ فرويد، “خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز”. أنزل درجات مكسورة لمرسى على النيل وأتجه إلى مركب شراعي صغير، أجلس وأتسمر مكاني كأنني صرت جزءاً من خشب المركب، لا أرى أمامي سوى النيل، صوت الريحاني يطوف بي أكثر: “عينى بترف وراسي بتلف، وعقلي فاضل له دقيقة ويخف” وليلى مراد ترد: “يا لطيف.. يا لطيف”، لم تزل عيناي معلقتان بالنيل وقلبي ينتفض وصوت محبوس بداخلي “يا مصر إعطني الأمان”.

انشق المكان عنه واتجه نحو طاولتي وسألني: مصرية؟ ولما أجبته: نعم، قال: أنا من ميت غمر. كان ذلك الشاب النحيل الذي اتبع صوتي ولهجتي المصرية جارسوناً بمطعم كبير في بيروت، أخبرني عن أحواله ودخوله لبنان هرباً عبر الحدود السورية قبل الثورة، وظروف عمله وراتبه الضئيل الذي لا يساوي ما دفعه لسماسرة التهريب، وحكى عن رفاق مثله هربوا بنفس الطريقة ويعملون في مطاعم أخرى أو في محطات بنزين، ويجتمع كل عشرة منهم في شقة صغيرة يتقاسمون إيجارها وينامون فيها حسب نوبات عملهم، وقبل أن يخطفني السؤال: لماذا بيروت، وهي ليست المدينة البترولية أو المانحة لفرص عمل عظيمة لجني الثروات؟ فاجئني الشاب بقوله:”احنا قلنا نيجي نجرب حظنا وبعدين نرجع وهو كلها مسافة السكة”، هل هناك وضع أكثر بؤساً من ذلك؟ نعم هو الوضع المذهل لشباب يلجأون للهجرة غير الشرعية؛ هذا إن وصلوا ونجحوا مثل هذا الشاب في عبور الحدود ولم يموتوا أو يغرقوا في بحار أو يذهبون إلى ليبيا فيما ينتظرهم الخطف والموت.

ويسألونك: لماذا يسافرون ليبيا؟ والإجابة ببساطة، للحصول على لقمة العيش؛ فهؤلاء لم يغادروا البلاد بروح السندباد “سياحة ولف ودوران وبحث عن كنز مفقود”، أو أملاً في أموال طائلة وأحلام في الاستثمارات والمشاريع الكبرى، ولم ينتظرهم النجاح بعد كفاح على طريقة “محمد” في “فيلم النمر الأسود”، هم خرجوا من الريف في الصعيد أو الدلتا، ريف يفرغ من شبابه لأنه فَرِغَ من أسباب المعيشة الأدمية في دولة لا تنتبه إلى أهل الريف على أنهم بشر، فلا مدارس جيدة ولا وحدات صحية ولا تنمية زراعية ولا خير أو حياة كريمة تضمن البقاء. يسافرون إلى ليبيا ومدن الموت لأنهم يبحثون عن الحياة، يطفشون من الكساد والبطالة من أجل الفتات الذين لم يجدوه في قراهم، يتعرضون لـ”البهدلة” لأنهم ذاقوا الإهمال قبلها، شباب ورجال في أعمار تتراوح من (25: 45) ما يعني قوة عمل رئيسية يهجرون أرضهم، شرعياً أو غير، لأسباب اقتصادية حسب التقرير الأحدث لجهاز التعبئة والإحصاء الذي ورد فيه أيضاً أن 77% دفعوا أموالاً لتسهيل هجرتهم، و21% منهم ذهب إلى ليبيا؛ وعمل أكثر من نصفهم في أعمال البناء والتشييد (شغل الفاعل) وليزداد المشهد بؤساً فإنهم يحصلون على الكفاف، ما يعينهم فقط على احتياجاتهم اليومية، فقط هو الكفاف الذين لم يجدوه هنا أساساً.

يسأل الطفل الصغير رفيقه: لماذا لا يتم تدويرنا ويعاد تصنيعنا؟

فيرد الثاني بمنتهى “الفذلكة”: لأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، قالوا لنا كدة في حصة العلوم.

كان‏ ‏نجيب‏ ‏الريحاني‏ ‏يسير‏ ‏ذات‏ ‏مرة‏ ‏في‏ ‏شارع‏ ‏عماد‏ ‏الدين‏ ‏مستعجلاً‏ ، ‏فاستوقفه‏ ‏أحدهم‏ ‏ليسأله‏ :‏

‏- ‏الشارع‏ ‏ده‏ ‏بيروح‏ ‏على‏ ‏فين‏‏؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل