المحتوى الرئيسى

رامي يحيى يكتب: مدارسنا وكونتراتو الحالة

02/12 10:40

بلدنا واقعة في حفرة ذهنية، أغلب -ويمكن كل- مشاكل المنطقة على المستوى الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، نابعة من مشاكل في فهمنا أو رؤيتنا أو أحاكمنا، يعني كلها مشاكل في الدماغ، في ظني لو عملنا استطلاع رأي نسأل فيه عن مفهوم “الدولة”، هنلاقي نفسنا قدام نتائج مخيفة، أقدر مثلا أراهن أن نسبة اللي عندهم معرفة نَظَريّة بمفهوم الدولة الحديثة القايمة على أساس نظرية “العقد الاجتماعي” هتبقى نسبة ضعيفة جدا، وأنا هنا باتكلم فقط عن المعرفة.. مش عن الإلمام بالتفاصيل، من ضوابط وحدود لعلاقة المواطنين بالدولة.

لأن ببساطة الموضوع ده مالهوش أي وجود في مناهج التعليم الأساسي، اللي كلها قصاد ده بتضخ دروس في تاريخ البلد من منظار درامي مستهلك، شبه كده بتاع الأفلام والمسلسلات التاريخية، فطبيعي جدا إن النشء اللي اتربى على كلام زي ده، مش هيبقى عنده دراية بشكل الحياة السياسية في المنطقة قبل موجة التحرر العسكرية في الخمسينيات وبعدها، إنما هيبقى عنده حالة من الوطنية الحالمة وخلاص، يعني مدارسنا بدل ما تخرج إنسان عنده دراية.. بتخرج لنا إنسان عنده حالة.. مواطن مش فاهم إيه حقوقه وواجباته، فطبعا مستحيل يبقى عنده أي تصور لإيه ممكن يطور من شكل الحياة ويخليه أفضل، لكن بسهولة جسمه هيقشعر من موسيقى تتر “رأفت الهجان”، ويمكن عينيه تدمع لما يسمع “عدّى النهار”، ولا “يا حبيبتي يا مصر”، مش بعيد كمان ينزل في الشوارع يهيّص بفرح حقيقي لفوز بطل مصر ببطولة العالم في “الشيش”، وهو ما يعرفش الجون فيها بيتحسب إزاي.

مفيش مواطن مصري هيسمع حاجة عن أسس وقواعد العلاقة بين المواطن والدولة إلا إذا كانت دراسته الجامعية في القانون أو السياسة، والمفروض الفلسفة والاجتماع بس مش متأكد، وطبعا طلاب الكليات دي يقدروا يحكوا عن تدني مستوى التعليم وعدم تحصيل النسبة الأكبر منهم للمناهج، وعشان كده نلاقي كلام بيتقال عادي جدا على كل المستويات الاجتماعية والتعليمية زي “شارع الحكومة”.. “أتوبيسات الحكومة”.. إلخ.

باختصار.. مستحيل المواطن المصري يعرف يعني إيه مصطلح “دولة” أو “العقد الاجتماعي” أو “حقوق المواطنة”، إلا لو قرر إنه يقرا ويدور بنفسه، ويمكن عشان السبب ده تحديدا نلاقي إن عدد المكتبات العامة في البلد مستحيل يوصل لواحد على عشرة من مقرات الشرطة، ولا يمكن نفكر نقارنه بعدد الجوامع.

يا سادة لازم ماننساش للحظة إن الناس اللي ماسكين مناصب دول زينا، اتعلموا نفس تعليمنا واتفرجوا على نفس البرامج والمسلسلات والأفلام اللي اتفرجنا إحنا عليها، صحيح سيادته “أ” وسيادتها “د” وجنابه “أ. د” ومعاليه “أ. ح”، بس في الأول وفي الآخر الطينة واحدة، يعني ما قابلوش الحاجات دي في مناهجهم، مادامت مش تخصصهم، أما اللي دي تخصصاتهم وقابلتهم، فاهينطبق عليهم المصطلح الشعبي “عرفوها على كَبَر”، يعني بعد نهاية فترة التكوين، وبالتالي بتبقى دخيلة عليهم، ويظل الأصل -ولو كان دفينا- هو الوجه الدرامي المستهلك، عشان كده ينفع شخصيات كانت من رموز النضال تتحول بسهولة إلى “دولجية”، مجرد دغدغة مشاعرهم الوطنية تخليها تشتغل، “الحالة” فاكرينها؟ عن طريق كام معلومة مفترض فيها السرية والخطورة والصحة، مجرد ما ده يحصل يغلب الطبع التطبع، فيرجع على قديمه.. ويسمع في “اللفاري” موسيقى “جمعة الشوان” ولا ملحمة “الله أكبر بسم الله”، وينسى اللي اتعلمه “على كَبَر”.

لو شخص وقف في الشارع وقال “.. أم مصر” أو لو مثلا تم الإعلان إنه جاسوس تم شحن الناس اللي ماشية في الشارع ضده بوصفه “خاين للوطن”.. غالبا ليلته مش فايتة، وهيموت ضرب من ناس عندهم “حالة” وطنية، بس ماعندهمش دراية بمفهوم المواطنة، فبينضربوا على قفاهم من المخبر عادي جدا وبيستخدموا مرافق غير آدمية ويحمدوا ربهم. ماعندهمش دراية بدورهم السياسي، فمابيهتموش بالانتخابات، واللي بيهتم أغلبه بيبيع صوته بطريقة أو بأخرى.. ماعندهمش دراية، ولإنها محض “حالة”، فبينفع تروح، فعادي جدا تلاقي نفس الوطني هو اللي بيرمي زبالة في الشارع، أو بيقطع كرسي الأتوبيس.

يا سادة “البرادعي” لو مشي على رجليه في أي منطقة شعبية، غالبا هيموت ضرب عشان “خاين وعميل لأمريكا”.. ده غير طبعا إنه “سلم العراق”! واللي هيهجموا عليه دول كلهم بيطرطروا في الشارع! ومفيش حد فيهم حس إنه قذر أو إنه منتهك الآدمية، أو إن له الحق يلاقي حمام نضيف يفضي فيه مثانته، والأهم إن كل الشخصيات دي، وملايين زيهم، عدّى عليهم كلام من نوعية إن الجيش المصري “سلّف الدولة المصرية مليار دولار”.. على فكرة.. الخبر ده تم التطبيل له إعلاميا جامد جدا، من أعلى أسماء في معسكر الدولجية، وأنا عن نفسي ماقابلتش أي رد محترم من معسكر الثوار، يعني النايبة صايبة الجميع، النخبة الحاكمة والنخبة السياسية والمثقفة والشعب، وأظن -ويارب أكون غلطان- أن أغلب النخبة الحاكمة بيتعامل على أن الكلام ده عادي، وإنهم بديهي يعملوا أي حاجة عايزين يعملوها، همّا بالكتير ينتبهوا إن التوليفة يلزمها أسطى في القانون يركبوه في منصب مناسب، فيقدر يسَتِّف لهم الورق، زي أخويا في الإسلام أ. د. فتحي سرور.

المواطن المصري بيدرس حاجات في التاريخ شبه اللي بتيجي في الأفلام الدرامية عادي جدا، فعادي جدا إن 90% من غير المتخصصين في التاريخ الإسلامي عندهم صورة مغلوطة تماما عن “صلاح الدين”، وده يوضح جدا في استحضار الشخصية دي تحديدا في كتير قوي من قصايد وأغاني وأعمال درامية وأدبية مختلفة، ما يدل على أن الصورة المغلوطة دي واصلة لمستويات مفترض فيها إنها مثقفة.

فالمناهج دي بتكوّن شخصية هشة جدا معرفيًا.. في الوقت اللي هي متصورة إنها واقفة على ثوابت كأوتاد الجبال، هي في الحقيقة قايمة على مجموعة من الأكاذيب والكلام الفارغ.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل