المحتوى الرئيسى

الطريق إلى "زمش".. "لما الشيوعية ماتت م الضحك"

02/11 13:26

"الأمر لن يستغرق سوى دقائق" كان ذلك وعدا مكذوبًا، أطلقه ضابط المباحث بالجيزة، راجيًا الأستاذ محمود السعدني أن يحضر معه لتحقيق بسيط ويعاود أدراجه، فيما ظل السعدني 5 سنوات كاملة يجوب المعتقلات، ويفترش الزنازين دون تهمة، إلا مجرد التخمين أنه شيوعيًا، بينما الرجل لا ينتمي لأي تنظيم سياسي، إلا الجماهير الغفيرة من البسطاء والبياعين والشيالين، لكنه تمرس العمل السياسي داخل السجن وأسس تنظيم "زمش"، ليواجه به تنظيمات النخبة المتعالية والمتغابية ويحاربها بـ"الضحك".   

كان ذلك في بدايات العام 1958، مجرد صحفي يغطي الملف السوري من دمشق وقت إبرام الوحدة، مستمتع بالانفتاح المطروح في الصحف هناك، يجلس بين جميع الأطياف.. ولأن نظرية المؤامرة تحكم ظنه بعض شيوعيي العراق مندوبًا مخابراتيًا حاد الذكاء "تصوروا أنني رجل حويط، أخفي عن نفسي صفتي ومقامي السامي ومنصبي الرفيع"، أوصوه بإيصال رسالة للرئيس عبد الناصر "الهدف أن يسمع صوتنا"، أخبرهم بأنه سيوصلها للسفير، ردوا "بالفعل نحن على صلة به"، غير أنهم يثقوا في "السعدني" أكثر، حملها واستكمل سهرته ورحل، في مصر تكتمل بناء المؤامرة، حين شك الأمن بأن الصحفي الشاب شيوعي بارع، وممثل لرفاق العراق في دولة ناصر، وسط حرب ضروس بين الرئيس المصري ونظيره عبد الكريم قاسم العراقي.

لو قادتك الظروف للشروع في قراءة أعمال محمود السعدني في المواصلات العامة، لا تستغرب إن ربت أحدهم على كتفك، أو لاحظت نظرة شفقة من إحداهن وهي ترثي لحالك، فربما تصعد المترو متجهم الوجه، ثم تنفجر ضحكا رغما عنك، تمصمص شفاهك بصوت عالي، ويعلو محياك اندهاش، يُجبرك السعدني دوما على الخروج عن المألوف، كما يستغرق هو أيضا في ذلك الخروج عبر مؤلفات طازجة غير نمطية، تضح بالحياة والضحك.. والمأساة في آن واحد.

يصافح الصحفي عبد الستار الطويلة محمود السعدني في حرارة، وهو يعرف نفسه "عبد الستار الطويلة.. شيوعي"، فيرد محرر الديسك المستجد بروزا اليوسف بعد رفته من الجمهورية "محمود السعدني..

مخابرات أمريكية"، يندهش الطويلة ويعلق بجدية شديدة "اللي نعرفه إنك مخابرات إنجليزية"، فيختم السعدني الحوار بسخريته اللاذعة "لا ما هو الإنجليزية افتقروا.. عشان كدة غيرت".

يبدو أنهم لم يتركوا أحدا في الخارج.. وجاء الدور على السعدني، ظن أنها مجرد إجراءات ويعرفوا حقيقة أمره، لكنها رحلة بدأت بسيارة ترحيلات بالقلعة وانتهت في الواحات الخارجة بعد 60 شهرا.

 "نزلنا من السيارات وطلبوا منا أن نجلس القرفصاء على الأرض، وقلت لرشدي صالح: الآن أدركت سر تمثال الكاتب الجالس القرفصاء عند القدماء المصريين، ويبدو أنه كان هو الآخر من نزلاء سجن القلعة".

البداية كانت في سجن القلعة.. الزنزانة ذات نافذة أضيق من صدر الكافر وجدرانها تعبق بعبارات كثيرة هي في الحقيقة تاريخ الزنزانة بأقلام الذين دخلوها، لقد دخلها الجميع منذ 1946، إخوان وشيوعيون وديمقراطيون وطلبة وعمال ومتآمرون ومشاغبون، ناس ضد الملكية، وناس ضد الثورة، ناس مع الله، وناس مع ماركس، وكلهم جمعتهم الزنزانة غالبًا في عصور متعاقبة وأحيانًا في عصر واحد.. حتى ذلك الموظف بمديرية التحرير، المدعى أحمد شوقي الذي استضاف في بيته مجموعة من الزملاء لشرب الحشيش، غير أنهم كانوا شيوعيون يتحدثون عن حزبهم وضرورة النضال ضد الفاشية، وهو لا له في الطور ولا الطحين، طالما الجوزة تطقطق والنار لا تنطفئ.. وحين طب البوليس ألقى بقطعة الحشيش بعيدا، لكن البوليس تحفظ عليه وبقي في السجن بضع سنين.. لأسباب لا يعلم هو كنهها.

يشرح السعدني ويشرّح نفسية السجين، طموحاته البسيطة، وأحلامه البدائية، كيف يحوله السجن والحيطان الضيقة إلى طفل صغير، يروي عن ذلك اليوم الذي وضع فيه اسمه على قوائم المحقق معهم "بقدر الحزن الذي انتابني لأنني سأقف أمام النيابة يقدر الفرح الذي شعرت به، لأني سأخرج من بوابة السجن وسأشاهد الشارع وأتفرج على الناس والترامويات والأتوبيسات، وأستمع إلى نداءات الباعة و.. يللي الهوى هزك يا مشمش، ولا تين ولا عنب زيك يا خيار يا لوبيا.. وجلست في سيارة السجن وعيناي تلتهمان –من خلال الفتحة الضيقة- كل منظر، حتى أسفلت الشارع صار له معنى جديد. حتى برك المياه التي تغرق الشارع كانت أجمل في نظري ألف مرة من بحيرات جنيف، وغبطت كل المارين في الشارع حتى المتسول العجوز الذي كان يقف أمام المتحف الصحي بعابدين، تمنيت من الله أن أحل محله".

ولأن السعدني لم يكن شيوعيا جاءت كل إجاباته بالإنكار خلال التحقيق الأول، ثم وضع وكيل النيابة القلم على مكتبه وسأله وهو يبتسم: أمال همة جايبينك هنا ليه؟، ورد: والله ما أنا عارف.. ظن السعدني أنه خارج لا محالة لولا تدخل شخص غامض همس في أذن وكيل النيابة، الذي قال بدوره "لو كان الأمر بيدي لأمرت بالإفراج عنك.. أنت معتقل بأمر جمهوري".. تساءل المعتقل "وتفتكر السجن لحد أمتى؟" فأجاب:

علم ذلك عند ربي. فهتف السعدني دون وعي: يا خبر أسود، وتبسم رئيس النيابة: ميهمكش السجن للجدعان.

الأيام خلف الأسوار متشابهة ومكررة، وبدأت سلسلة من الخناقات الصغيرة بين المعتقلين على أشياء تافهة، ثم بدأ التناحر بين التنظيمات الشيوعية على تجنيد المعتقلين الذي ليس لهم في الطور ولا في الطحين.. وكانت عملية مضحكة للغاية، لأن بعض الأعضاء الجدد كانوا يدخلون الحزب الشيوعي في المساء لينفصلوا عنه في الصباح، ولينضموا بعد الظهر لتنظيم "حدتو" أو تنظيم "ط/ش"، أو تنظيم "و/ش"، وللأسف الشديد كانت حركة الانتقالات تتم أحيانًا طبقًا لكمية السجاير التي يصرفها كل تنظيم لأعضائه المنتمين.

لا يترك السعدني لقطة إلا ويرصدها، يُحلل المجتمع من ساسه لراسه، يحكي عن جهل السلطة التي سجنت المفكرين وعينت الجُهال أوصياء عليهم "جلسنا في العنبر تحيط بنا الكراهية من كل جانب، والمأمور شبه أمي لا يعرف الألف من عمود النور، سأل مرة الفنان زهدي: بتشتعل أيه، وعندما قال زهدي إنه رسام كاريكاتير، عقب السيد المأمور قائلا: شاعر يعني".

لم يفت الكاتب الكبير أن يعرج على حياة المعتقلات أيام الملك، وهو يعرض شهادة شنودة، صديق السجن: كان بين المعتقلين أثرياء يهود، وكانوا يتولون الإنفاق على جميع المعتقلين، وكانت السلطة تعاملهم باحترام، كان الإفطار يصل إلى المعتقل من جروبي، والغداء يأتي من الدهان، وكانت السجاير كنت وكرافن.. ويحكي شنودة كيف بكى بحرقة كما لم يبك من قبل، وهو يستقل القطار المتجه إلى الإسكندرية.. لقد خرج من جنة المعتقل إلى زحام الناس ومتاعب المهنة ومشاكل الأسرة.

كان تنظيم "زمش" هو الحل لمواجهة حالة عدم الانتماء التي أوقعتهم في ورطة داخل سجن الواحات، صحيح أنهم شيوعيون أمام الدولة، لكنهم في واقع الأمر لا علاقة لهم بالتنظيمات وسنينها.. يقول السعدني: كان اسم تنظيمنا الذي اهتديت إليه هو على وجه التحديد (زاي ما أنت شايف)، على غرار الأسماء المقتطعة من حروف لتنظيمات شيوعية كما "ط/ش"، و"و/ش" و"حدتو".. ويصف الكاتب الكبير التجربة: "زمش أشهر وأغرب تنظيم عرفته الحركة الشيوعية في تاريخها الحافل المثير".

مر السعدني على تشريفات عدة وفي سجون متتابعة؛ من القلعة حيث الاعتقال مماثل للعودة لحقبة تاريخية مضت، مرورا بالفيوم وما يشبه زنازين النازية، وصولا إلى سجن الواحات ذو الطبيعة الغريبة والصحراء الشاسعة، غير أن موقفًا لا يُنسى، حين أُفرغ المعتقل عن بكرة أبيه ومر الشاويش على جموع الساجدين في خشوع ومؤخراتهم في مواجهة الباشا المأمور، وراح يوزع ضرباته بالشومة على رؤوس ومؤخرات المعتقلين بوحشية وضراوة، بينما كان الباشا يقهقه عاليا، وفيما المشهد يُدمي القلوب، انتابت السعدني نوبة ضحك لم يستطع مقاومتها، لكنه فسرها؛ فقد كان المعذبون خيرة عقول مصر، كان بينهم المحامي والصحفي والطبيب والمهندس والكاتب والأديب والمثقف والمفكر والعامل النقابي..

 يذكر السعدني بأسى ذلك اليوم الذي طلب فيه أحد الحراس العواجيز معتقل "متعلم ونبيه"، فرد المثقف الكبير لويس عوض بالإيجاب، وحين أمره الحارس بالسير خلفه، تراص السجناء يتلصصون ما هي المهمة الموكلة من الحارس للأستاذ لويس، فكانت الاستعانة به لتسليك البكابورت الطافح، ويتخيل السعدني "هل تصور لويس أنهم يبحثون عن واحد متعلم ونبيه لتسليك البكابورت أم لمحلة مشكلة عويصة في الجامعة العربية.. إنها إهانة لا تغتفر لمثقف مصري عظيم بحجم لويس عوض".

أصبحت الأيام ثقيلة على قلب الضاحك دومًا، تمنى ذات ليلة أن يهيم في ملكوت الله، لو كان فلاحًا في بلده، يسرح في الغيطان على كيفه، يخوض في مياه الترع على مزاجه، ينام في الوقت الذي يريده، يجالس من اختاره، يعيش حياته مع الوحوش الكاسرة والطيور المهاجرة، لكنه يختتم طموحاته البعيدة بعبارة غارقة في الواقعية، تعبر عن مأساته وهو يقول: "ملعون أبو المدينة وملعون أبو السياسة، وملعون أي نظام ياخد الناس بالشبهات ويسجنهم بدون حكم من القاضي".

وكانت فترة المعتقل التي طالت كافية لدراسة أحوال الشيوعيين عن قرب، وبعين الصحفي استقصى السعدني عن ماهية التنظيمات ودورها، وأبدى دهشة كبيرة عندما اكتشف أن الحزب الشيوعي المصري الذي يزعم أنه ممثل الجماهير العريضة لم ينفتح في أي يوم من الأيام على شعب مصر، ولم يعقد صلة حقيقية بينه وبين الناس، وأن كل ما يدعيه من تمثيله للجماهير ومعرفته بمشاكلها لم تكن إلا مزاعم لا تقوم على أساس.. وإذا كان لينين قال يوما: إن الشيوعي الجيد ينبغي أن يكون حيث توجد الجماهير، فإن الحزب الشيوعي المصري كان ضد الجماهير أو في مواجهتها أو بعيد عنها.

يقول السعدني: أغرب شيء أن التيار الذي يدعو إلى عالم بلا طبقات، لم يستطع أن يخلق هذا العالم خلف الأسوار، لقد انقسمنا في معتقل الفيوم إلى يساريين بهوات ويساريين أجرّاء. كان معنا نقود ولم يكن معهم شيء، فاشتغلوا في خدمتنا كي يضمنوا الشاي والسجاير.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل