المحتوى الرئيسى

مسرحية القواد الطيب والأرنب المغرور

02/08 23:32

دخل رجل على الضحاك قال له: «وجاءكم النذير» فلم يفهم الرجل، فمد الضحاك يده إلى شعر الرجل ممسكًا بواحدة بيضاء وابتسم قائلا: النذير هو الشيب.

أنا شخصيا أتذكر اللحظة التى صادفت فيها أول شعرة بيضاء ، من حسن حظى أنها ظهرت فى ذقنى، من سوء حظى لا مساحات أخرى للشعر فى وجهى، كنت أغسل يدى فى حمام أحد المطاعم، واكتشفتها، يومها شعرت بسعادة ما، سعادة من كان قادما من سفر ووصل إلى مكان ما، لا يعرف أين، لكنه فى النهاية وصل إلى محطة جديدة وهذا أمر مبهج بالنسبة لواحد مثلى على سفر منذ عرف العالم.

يومها خرجت من المطعم ففاجئتنى لسعة البرد، في انتظار تاكسى لمحت شاب الدليفرى يجلس فوق (الفسبا) واضعا سماعات فى أذنيه يدخن سيجارة في انتظار أوردر جديد، كان حضوره فاتنا على الأقل بالنسبة لمراهق كان يرى في جلسة عمرو دياب في البرد فوق موتوسيكله في آيس كريم في جليم بابا لحياة صاخبة قدر ما فيها من بساطة و هدوء، ابتسم لي، يعرفني لكن لا يعرف لماذا هو يعرفني؟، اقتربت منه وداعبته طالبا منه أن (أنا عايز أعرف إنت بتسمع إيه ؟)، منحني السماعات، تحدثنا قليلا كصديقين قديمين ثم انصرفت، قررت أن أقطع المشوار مشيًا بينما أردد الأغنية التي أوقظت شيئا ما في القلب.

أحب (الطيارين) ، يطرق بابى الكثيرون منهم، أميز المكتئب صاحب الذقن النابتة، من المتودد بصدق، من الذى يخشى على كرامته أن تقيم مجهوده بجنيه معدنى، من المبالغ في الاحتفاء بالوجبة السعيدة التي وصلت إليك، من الكلاسيكى الذى يعيد عليك ما طلبته قبل أن يسلمه لك، فيخبر كل جيرانك بما ستتناوله كطعام للعشاء، من الذى يود أن يعتذر لك عن أنه أفرط في رن الجرس، من الذى اختبر كل ما هو سىء في هذه المهنة و يبدو عليه أنه لم يعد مهتما بأن تكافئه أو تلعنه.

في إحدى المرات تأخر الأوردر فقال لى الموظف (الطيار اتقلب بالموتوسيكل بس هو في الطريق خلاص)، سألته إن كان الطيار اللى اتقلب هو نفسه اللى في الطريق قال: نعم ، فتحت الباب له و صممت أن أعرف مدى إصابته، كانت الخدوش تملىء ذراعه اليمين بالطول، خلع كم الجاكيت دون أن يخلع ابتسامته، قال ساخرا : جايبين لنا موتوسيكلات صيني، بسيطة .. قالها لكنه كان يختزل متاعب كثيرة، دعك من فكرة البرد أو غلاسة أمناء الشرطة أو قلة العائد المادى، يتحمل الطيار وزر (أنه مش معاه فكة)، وأن الطعام بارد، أو أن فيه (بطاطس ناقصة)، أو تأخر الأوردر، يتلقى الواحد بالذات في رمضان العقاب الأمثل على وصول الطعام بعد الآذان، يكسر صاحب البيت صيامه على الطيار قبل أن يفكر لثانية مثلا أن الطيار نفسه صائم وربما من اللائق أن تكسر صيامه ولو ببعض الماء، سألنى إن كان الأوردر مضبوط قلت له (وافرض مش مضبوط ؟).

الإنسان أصله طيار، وكل واحد فينا يعمل دليفرى و يتقاضى أجرا مقابل ذلك، مجرد ناقل للنعمة من مصدرها إلى مستحقها، الطبيب دليفرى ينقل الشفاء من صاحب قرار الشفاء إلى المريض، الكاتب دليفرى يوصل الأفكار لمن يطلبها حتى لو كانت أفكار في سياق مسرحية عبثية عنواناه القواد الطيب و الأرنب المغرور، ضابط الشرطة دليفرى يحمل الأمن لمن بحاجة إليه ، كلنا نوصل إلى بعضنا البعض أشياء لا نمتلكها ، قد يراها الواحد متفاوتة القيمة من بعيد ، لكن بنظرة قريبة يكتشف أنها كلها مهمة، فما أرسلت في طلبه الآن هو الأهم في حياتك في هذه اللحظة لأن حياتك لن تستقيم بغيره حتى لو كان مجرد ملح للطعام.

كان الواحد يعتقد أنه يقدم (البقشيش) للطيار ، لكن إذا ما اعتبرنا كل إنسان طيارا ستفهم أن ما يتقاضاه عامل الدليفرى أجر مستحق لانه يقوم بشىء لا تستطيع أنت أن تقوم به.

أثناء السير في البرد مر بى كثيرون منهم ،كان الوقت متأخرا ، وكنت أتمنى لهم يصلوا فيجدوا في انتظارهم شخص يعرف قيمة ما يفعلونه ، بينما الأغنية التي أسمعنى إياها الطيار تدور في رأسى و على لسانى و لا شيء غيرها ( يادى يادى يادى المشاعر .. يادى المشاعر) .

من المشاعر التى فكر الواحد كثيرا فى أهمية أن يحسمها بداخله ، مشاعره تجاه الملحدين ، اكتشفت فيما بعد أن الأمر تم حسمه منذ زمن بعيد ، حيث لم يكن لدي يومًا ما مشكلة مع الملحدين، كان هذا واحدًا من آثار النبي الذي أبلغنا الرسالة الربانية، {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، لكنني في الوقت نفسه أؤمن أنه {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، فالقضاء أننا مهما تفرقنا في هذه النقطة فنحن جميعًا في النهاية لا نعبد إلا إياه، قد ترى "إياه" بحكم ثقافتك أنه الطبيعة أو القوى المنظمة أو العقل الأكبر أو المجهول الغامض، في النهاية هو هناك، هذا يقيني كما أوقن تمامًا أن الشك مفتاح الإيمان، قد يكون سببًا يقودك إلى هذا المربع؛ لأن الوصول لهذا المربع في النهاية لا يتعلق بمهارات فكرية أو معادلات حسابية في نهايتها (يوجد الله)، هذا المربع هدية، {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}، ربنا هو الفاعل في (هديتنا) وفي (تزغ قلوبنا)، قد تشعر أن حياتك تمضي وقدم في المربع وقدم خارجه، لكن في النهاية كان الأمر صريحًا {اعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، هناك من فسر اليقين على أنه الموت، وهناك من يراه هو اليقين المقصود، فكانت العبادة هي الطريق الواضح إليه.

أنت حر في معتقدك،لكن ربما تحتاج كل فترة إلى مراجعة قد تقود إلى التغيير.

قال أحد الخواجات: راقب نفسك في كل مرة تفكر فيها، فربما يكون كل ما تفعله هو إعادة ترتيب لأحكامك المسبقة المستقرة في عقلك، والواحد يتمسك بكل ما استقر في عقله بطريقة مقدسة، ويخشى إن راجعه بصدق أن يفاجأ بأنه أهدر عمره أو أهدر فرصًا ما نتيجة ما كان يعتقد أنه جواب نهائي صحيح.

مراجعة الأفكار تنطوي على قدر ما من المشقة، على الأقل مشقة الاعتراف بالخطأ أو مشقة جهاد النفس المغرورة بما استقر في يقينها، لذلك تبدو مراجعة الأفكار المستقرة من شيم المغامرين العظماء، الذين لا يضيرهم أن يكتشفوا عمق المسافة التي قطعوها في طريق لا يفضي إلى شيء، ولا تعرف اللوعة طريقها إلى قلوبهم إذا ما تأكدوا أن عليهم أن (يلفوا ويرجعوا تاني)، تلك اللوعة والحسرة التي تصيب العاديين يترجمها المغامرون إلى أمل ما على الأقل في شكل جديد للحياة سيصل بهم هذه المرة إلى حيث يحلمون.

أو كما قال برنارد شو: "أولئك الذين لا يغيرون عقولهم لا يغيرون شيئًا"، ستظل تدور في المتاهة نفسها حتى تصل إلى النقطة التي تصل إليها كل مرة محملًا بمقولة صلاح جاهين: "وأخرج وحيرتي أشد مما دخلت"، أرقى الأفكار تحتاج إلى المراجعة، إخلاصك التام لفكرة الحرية يحتاج لمراجعة، لأنك في لحظة ستتحول إلى عبد لفكرة، فماذا أضافت لك فكرة الحرية وهي تسحبك مكبل بالسلاسل والجنازير، هل راجعت إيمانك المطلق بالحرية قبل أن يكون إيمانك بها هو إيمان بالفوضى أو على أقل تقدير تجسيد للعبودية؟

أراجع دومًا أفكاري المستقرة في كل شيء بداية بالطعام الذي أحبه نهاية بالأشخاص الذين لا أحبهم، ما بين اكتشاف لطعام ضيعت عمري دون أن أستمتع به نتيجة عقدة من الطفولة وبين التخلص من كراهية ما تؤرقني ولا تؤرق طرفها الثاني تتجدد الحياة، بداية من مطربي المفضل نهاية بالأفكار السياسية ، ما بين عوالم أخرى من الفن كنت أجبن من أن أكتشف حلاوة ما فيها وبين ربط عشوائي بين الأفكار والمروجين لها يحرم الواحد من نظرية ما سليمة تمامًا، ولكن كل ذنبها في من قام بتطبيقها، بداية من الإخلاص لحلم ما والسخرية من طريقة حياة الآخرين، ما بين اكتشاف أن حتفك في أن يتحقق هذا الحلم لأنك لا تقوى على توابعه وبين التعرف على الأماكن التي يخبئ فيها هؤلاء الآخرون الذين لا يعجبونك سعادتهم التي لم تجربها من قبل.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل