المحتوى الرئيسى

هجمات باريس ووحدة المصائر في حوض المتوسط

02/07 17:34

في كتابه "البحر المتوسط وعالَم البحر المتوسط على عهد فيليب الثاني" يدلل المؤرخ الفرنسي العظيم فرناند بروديل (1902-1985) على أن المجتمعات المقيمة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق والجنوب تنتمي إلى حضارة واحدة في عمقها، رغم تباين العوالم الدينية والعرقية والسياسية التي تنتمي إليها تلك المجتمعات.

ويمكن توسيع نظرية بروديل بالقول إن عالَم المتوسط -بمنطق الجغرافيا السياسية- مجال سياسي وإستراتيجي واحد أيضا.

وولد الربيع العربي منذ البدء ظاهرة متوسطية، فأربع من دول هذا الربيع -تونس وليبيا ومصر وسوريا- تقع على ضفة المتوسط، كما أن المغرب التي وصلتها بشائر الربيع في بداياته، ثم احتوت خطر الثورة بخطوات استباقية من الإصلاح الوقائي دولة متوسطية، ولم تخرج عن هذه الظاهرة المتوسطية من دول الربيع العربي سوى اليمن المعروف -من بين دول الجزيرة العربية- بتفاعل أهله مع ما يجري من تحولات سياسية في مصر.

بيد أن النخبة السياسية الأوروبية لم تتصرف طبقا لهذه المعادلة الجيوسياسية خلال الأعوام الماضية، فلم تتعامل مع الربيع العربي بمنطق إنساني متفهم يساند حقوق الشعوب في الحرية والكرامة، ولا بمنطق سياسي وإستراتيجي حكيم يدرك وحدة عالم المتوسط، ويسعى لتوقِّي النيران التي شبت في بيوت الجيران.

لقد تعاملت النخبة الأوروبية مع الربيع العربي -تقليدا للأميركيين والروس والإيرانيين- بمنطق استعماري بغيض، يحرص على إبقاء الشعوب العربية في نير العبودية بأي ثمن، وتحكمت في الأوروبيين عقلية الاستعمار السياسي بعد رحيل الاستعمار العسكري عن المنطقة، إذ وجد المستعمرون السابقون أن التحكم في الشعوب العربية من خلال حكام مستبدين قاهرين لشعوبهم، مقهورين أمام الخارج، هو السبيل إلى صيانة المواريث الاستعمارية.

وقد جاءت هجمات باريس الدامية تذكيرا للجيران على الضفة الشمالية بأمرين على قدر كبير من الأهمية: أولهما أن عصر الفصل بين ضفتي المتوسط قد انتهى، فإما أن يعيش أهل الضفتين معا بحرية وكرامة، وإما أن يغرقوا معا في بحر من الدماء. وثانيهما: أن عصر الاستعمار السياسي قد ولَّى، وأن سياسات الغرب القائمة على حماية المستبدين ووأد ثورات الشعوب سياسة خرقاء. ومن قبل هجمات باريس كانت موجات اللاجئين تكفي لتذكير الأوربيين بهاتين الحقيقتين، لكن الأوربيين استأسروا -فيما يبدو- للمنطق الأميركي الإسرائيلي، ولم يصوغوا رؤيتهم الخاصة للأحداث التاريخية الجارية على الضفة الجنوبية.

ويتأسس المنطق الأميركي الإسرائيلي على أن المنطقة العربية فيها فائض من البشر، وفائض من التدين، وفائض من المال، وأنه يجب استنزافها داخليا، قبل أن يتحول فائضها البشري والديني والمالي إلى طاقة بنَّاءة تُخرجها من الوصاية والتبعية، وتنقلها إلى الاستقلال السياسي والإقلاع الحضاري، وأحسن طريقة للاستنزاف -بهذا المنظور- هي تحويل ثورات الشعوب العربية إلى مصهرة دموية، ومذبحة مفتوحة لا غالب فيها ولا مغلوب.

لكن الأوربيين نسوا أنهم ينتمون إلى عالم المتوسط الذي تحدث عنه بروديل، وأن قدَرهم الجغرافي يفرض عليهم اتباع سياسات أكثر حصافة، ونظرا إلى العواقب مما يفعله الأميركيون الذين يعيشون بعيدا عن المنطقة، بين محيطين، لكن المتابع للسلوك السياسي الأوروبي عموما -والفرنسي منه خصوصا- بعد هجمات باريس الدامية لا يمكن أن يتفاءل كثيرا.

فخطاب هولاند بعد هجمات باريس يكاد يكون ترجمة فرنسية لخطاب جورج بوش بعد هجمات 11 سبتمبر 2001؛ فقد تحدث هولاند عن استهداف تنظيم الدولة لفرنسا لأنها "دولة حرة"، وقال "إنهم لم يهاجمونا بسبب ما نفعله، بل بسبب مَن نحن". وهذه ترجمة حرفية لمقولة سطحية قالها جورج بوش بُعيْد هجمات 11 سبتمبر، كما ظهر من العنتريات في خطابات هولاند الأخيرة واستعراض القوة الجوية والبرية الفرنسية ما يذكِّر بقول رامسفيلد بعد هجمات 11 سبتمبر: "لا بد من تأديب العالم على هذه الهجمات"!! وهكذا تبين أن القادة الأوروبيين ليسوا أفضل من القادة الأميركيين من حيث الخيال الإستراتيجي والحكمة السياسية.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل