المحتوى الرئيسى

محاكمة في أديس أبابا 5/5

02/03 17:24

توقفنا في المقال السابق عند تلك الثورة الشعبية -التي تبعتها ثورة مصرية رسمية- ضد التحرشات الإيطالية بإثيوبيا منذ العام 1931 والتي كانت تمهد لاحتلال تلك الدولة الشقيقة.

وقد تعمدت في ردي على تلك الافتراءات الروتينية التي لطالما رددتها إثيوبيا ضد مصر من كونها دولة تتعامل بمنطق استعمارى، ومن أنها دائما ما وقفت حجر عثرة أمام تحقيق التنمية لديها- خلال ذلك اللقاء الذي جمعني مع عدد من الصحفيين والمثقفين الإثيوبيين في العام 2004- أن أسرد التاريخ الحقيقيي المشرف لمصر تجاه إثيوبيا. وقد وصلنا في المقال السابق إلى تلك النقطة التي كنت أروي فيها بالوثائق موقف مصر الشعبية والرسمية بداية من المظاهرات الشعبية الحاشدة التي امتدت من الإسكندرية إلى أسوان لمطالبة الحكومة بمنع الطائرات الإيطالية من عبور المجال الجوي المصري وبسحب المصريين العاملين في القواعد الإيطالية في الصومال وتوفير عمل لهم في الحكومة المصرية.

وهما المطلبان اللذان استجابت لهما الدولة المصرية، بالإضافة إلى منح مركز استطلاع استخباري للحكومة الإثيوبية على رأس قناة السويس في بورسعيد لمراقبة حركة القطع الحربية الإيطالية العابرة لقناة السويس، بالإضافة إلى الوفد الكنسي/ الأزهري الذي توجه للقاء بابا الفاتيكان، وذلك قبل أن تقوم جمعية الشبان المسلمين بتأسيس اللجنة الشعبية لمناصرة قضية الحبشة.

وقد طالبت الجمعية في أول بيان لها بإغلاق قناة السويس في وجه القطع البحرية الإيطالية، إلا أن بريطانيا المحتلة لمصر تحججت باتفاقية القسطنطينية التي تنظم حركة الملاحة في قناة السويس دوليا، والتي لا تسمح لمصر بإغلاق القناة في وجه دولة ليست في حالة حرب معها.

وقد كان رد اللجنة أن شكلت وفدا آخر -بخلاف وفد الكنيسة - توجه لمقابلة بابا الفاتيكان في ذلك الوقت لمعاتبته على إصداره بيانًا يبرر فيه عدوان إيطاليا على إثيوبيا. وبالرغم من رفض البابا -للمرة الثانية- استقبال المصريين، إلا أن الوفد اجتمع مع الكاردينال الذي يتولي وزارة الخارجية في دولة الفاتيكان وسلمه الاحتجاج. ويلاحظ في هذا الشأن أن الجمعية التي تأسست، والوفد الذي بعثت به للفاتيكان كان من المسلمين وليس من أقباط مصر، وذلك في بادرة لها دلالاتها، ألا وهي أن حب مصر والمصريين لإثيوبيا وشعبها، تجاوز حدود الدين، لكي يمتد إلى مناطق حضارية وتاريخية أرحب، لها علاقة برابطة الدم.

في الوقت ذاته، فإن تشكيل هذه اللجنة عكس مدى الحب الذي تحظى به إثيوبيا في مصر، ويكفي أن نعلم أنه من بين الأعضاء شخصيات بمستوى وثقل السيدة هدى شعراوي، كما أنه ومع بداية العدوان على إثيوبيا ترأس اللجنة الأمير إسماعيل داوود ابن خالة الملك فؤاد عائل مصر في ذلك الوقت، في حين لعب دور الأب الروحي للجمعية الأمير عمر طوسون حفيد إبراهيم باشا، نجل محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، وهو ما يدل على أن موقف مصر بالتأييد المطلق لإثيوبيا كان شعبيا ورسميا على مستوى العائلة المالكة والحكومة المنتخبة.

وبمجرد بدء العدوان ضد إثيوبيا في أكتوبر من العام 1935 افتتح الأمير عمر طوسون حملة التبرعات الشعبية بـ 500 جنيه زادها إلى ألفي جنيه في غضون أيام -وهذا المبلغ يوازي في قيمته حاليا ما يقرب من 100 ألف دولار- ثم توالت التبرعات من الشعب المصرى، حتى أنها فاقت التبرعات التي كانت تجمعها لجنة مناصرة القضية الفلسطينية في ذلك الوقت التي كان يرأسها السياسي البارز عبد الرحمن باشا عزام، والذي تولى فيما بعد منصب أول أمين عام لجامعة الدول العربية!

ومع تطور العدوان الإيطالي، فتح باب التطوع حيث تم تشكيل طواقم طبية من كافة التخصصات ومستشفيات ميدان مجهزة بشكل كامل، وأطقم من المهندسين، وفرقا من المقاتلين. وقد قُدرت أعداد فرق المقاتلين وفرق الإسناد والدعم في كافة المجالات من المصريين بما يقرب من 20 ألفا في زمن كان تعداد مصر من السكان يقترب من 18 مليون نسمة فقط.

ومن جانبها، قامت الحكومة بمنح إجازات مدفوعة بالكامل لكافة المتطوعين سواء من العاملين في الحكومة أو الشركات، كما شاركت الحكومة مواطنيها في إرسال كميات هائلة من مواد الإغاثة الطبية والغذائية والملابس لإغاثة الشعب الإثيوبي المنكوب.

وبعد أشهر قليلة من بدء العدوان قرر الأمير إسماعيل داود أن يتوجه إلى إثيوبيا على رأس مزيد من طواقم مصرية مقاتلة في إشارة واضحة إلى تلاحم مواقف الشعب مع الحكومة، والاثنين بموقف العائلة الحاكمة في مصر.

ومع اشتداد العدوان، تبدت بطولات المصريين جنبا إلى جنب مع إخوانهم الإثيوبيين سواء في أعمال القتال، أو الإسناد الطبي والهندسي، لدرجة أن اتصال رئيس البعثة المصرية الأمير إسماعيل داود -طوال فترة بقائه الطويلة في إثيوبيا- كان مباشرا مع الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي كرم البعثة المصرية عدة مرات، كما أنه شارك في تشييع جنازات العديد من آلاف الشهداء المصريين ممن سقطوا قتلى خلال الحرب دفاعا عن إثيوبيا ودفنوا في أرضها، وذلك فيما عدا شهيدين اثنين رجع جثمانهما مع طاقم مصري كان عائدا للقاهرة لكي يحل محله طاقم آخر. وقد كانت جنازة الشهيدين شعبية ورسمية مهيبة اخترقت شوارع القاهرة لعدة ساعات.

الشاهد، أن هذا التاريخ الرائع الموثق يتطلب أسفارا لكي يروى. وإن كان من أسف أن إثيوبيا الرسمية قد غيبت هذا التاريخ متعمدة عن شعبها، فإن تغييب مصر الرسمية والشعبية لهذا التاريخ المشرف ناصع البياض يعد خطيئة في حق الذات لا يمكن ولا يجب غفرانها، بل يجب محاسبة من ارتكبها في حق مصر والمصريين. إن التاريخ لن يرحم مصر ولا المصريين على ما ارتكبوه في حق أنفسهم، ولن يرحمنا طالما لم نرحم أنفسنا وأنصفناها.

وإنصاف الذات يبدأ بإدراك التاريخ، وهو الذي يؤكد بشكل موثق إنه بالرغم من أن حياة مصر والمصريين تكمن في مياه النيل -التي لا نملك مصدرا آخر للماء سواها- فإن هذه المياه لم تكن تحرك مصر لنصرة أثيوبيا في العديد من أزماتها الطاحنة.

ففي زمن العدوان الإيطالي على سبيل المثال لم تكن تجرؤ إيطاليا المستعمرة لإثيوبيا أن تبني سدا تمنع به تدفق المياه الطبيعي والإلهي عن مصر، وذلك لأسباب عديدة من بينها أن إيطاليا كانت مدينة لمصر ماليا، بالإضافة إلى وجود جالية إيطالية ضخمة في مصر، ناهيك عن أن روما كانت تدرك تماما أنه بالرغم من كون مصر واقعة تحت الحماية البريطانية، فإنها لم تكن لتتردد لحظة -بالمخالفة لموقف دولة الاحتلال- في الدفاع عن حقها في الحياة باستخدام القوة العسكرية ضد أي دولة تتلاعب بحياتها بتخفيض حصتها من مياة النيل.

أقول هذا للتدليل على أن مواقف مصر النبيلة الداعمة لإثيوبيا في محنها الكبري لم تكن تحركة مياه النيل، بقدر ما كانت تحركها قيمها الإنسانية التي للأسف غابت عن كثير من الدول التي تدعم النظام الإثيوبي الحالي في عدوانه على حق مصر في الحياة.

ولعل كلمات الوزير والسياسي الراحل عثمان محرم باشا وهو يتفاوض مع الإنجليز في لندن في العام 1933 لدفعهم للضغط على إيطاليا لوقف عدوانها، تعبر بوضوح عن نبل مصر، حيث قال مخاطبا محتليه البريطانيين: ".. لقد ذقنا مرارة وألم الاحتلال على أيديكم، فلا نريد لإخواننا الإثيوبيين أن يجرعوا مرارة نفس كأس الاحتلال على أيدي الإيطاليين..".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل