المحتوى الرئيسى

بساتين عصام محفوظ

02/02 02:33

عشر سنوات مرّت. كأنها البارحة. عشر سنوات على رحيل عصام محفوظ الذي ترك كلّ شيء وراءه وغادرنا. ربما غادر على عجل تماماً كهذه العشرية التي مضت سريعاً. لكن الشيء الوحيد، المتيقن منه، أنه كان واحداً ممّن صنعوا هذه الذاكرة الثقافية اللبنانية الحديثة، وأنه لم يعد يكتب كل سبت، وأن فراغاً ما، أصبح له حصة في هذا الحيّز المكاني الذي نسمّيه مدينة.

عصام محفوظ، الشاعر والمسرحي والناقد والصحافي والمحاور، لكن الأهم، كان ذاك الشخص المنفتح على الآخر، غير المنغلق على نفسه، إذ كانت الثقافة عنده، «نوعاً» من ديموقراطية يجب أن تقود إلى حوار لا إلى تعصب. بالتأكيد هي صفات نفتقدها اليوم، في ظلّ هذا الحفل المميت الذي يلف المدينة، المدينة التي أتى إليها من قريته الحدودية الجنوبية، ليقيم فيها. لم تكن إقامته عابرة، بل حفر ظله فيها عبر كتب ومسرحيات ونقاشات ومقالات، وكأن أصبح للمدينة، عبره وعبر رفاقه، حضور آخر. ربما هذه هي بيروت التي سمعنا عنها، التي يرغب كثيرون في أن تعود. هل الأمر صعب إلى هذه الدرجة؟ تغيّر البشر كثيراً، وها هم يعودون لإيقاظ شياطينهم القديمة، لذلك لا أعرف إن كان يصح القول بأن رحيله جعله ينجو من حفلة جنون أخرى تلوح في الأفق، ولا أحد يعرف إلى أين كانت ستقوده.

نكسة العام 1967 جعلته يغادر الشعر ليكتب المسرح. ربما أحسّ بأن الزمن تحوّل وأن القصيدة لم تعد قادرة على استيعاب هذه الصدمة. الصدمة الثانية، كانت مع بداية الحرب الأهلية في العام 1975 إذ جعلته يغادر المسرح، لينصرف إلى النشاط المهني الصحافي. ربما لو كان لا يزال صحافياً، لتوقف حتى عن الكتابة بعد كل هذا «الجنون» الذي يعود دوماً إلى الشوارع.

هل هو جنوننا الخاص الذي يتجلى اليوم؟ هذا ما أشعر به فعلاً، حين أفتقد مقالاته ودراساته في ظلّ ما يكتبه البعض حالياً من «هبل» طاغٍ وادعاءات هشة تزداد يوماً عن يوم، كأنها تريد أن تصبح السمة العامة لهذا الفضاء الجغرافي الذي علينا أن نتحرّك داخله. هل نحن بحاجة إلى دفاتر جديدة من «دفاتر الثقافة اللبنانية» والعربية المعاصرة؟ حين كتب في هذين الموضوعين كانت محاولته، محاولة حقيقية لقراءة النتاج الأدبي المعاصر له، حاول أن يدل عليه بقوة، وأن يزيل عنه ركاماً كبيراً تناثر حوله.

كم نحتاج اليوم إلى مثل هذه القراءات في ظلّ الركام الذي يغطينا من كل جانب. حتى هذا الأمر لم يعد يعنينا. أدمنا الوقوف في ثنايا هذه العتمة التي نتمتع بها. حقيقة لا أعرف ماذا يمكن القول. كل ما أفعله هو استعادة ذكرى، من الصعب أن نتركها تمضي. لنعتبر أنها تحية لمن بقي لعلّهم يعيدون قراءاته ويلملمون شيئاً من هذه الروح النقدية التي تركها، لأننا بحاجة إليها فعلاً، بحاجة لأن نعود وننتظر كل أسبوع شخصاً يقطف لنا فصولاً عابرة من بساتين هذا العالم.

أعترف بأنني واحد من الذين «تربّوا» على هذه البساتين الأسبوعية التي كان يقطفها لنا، وهي التي فتحت أمامي، وأمام غيري بالتأكيد، الكثير من الفضاءات الثقافية في بداية عهدنا بالقراءة والكتابة. إذ كانت أشبه لنا برحلة في فضاءات العالم الروائية والشعرية والفلسفية، باختصار كانت رحلات في الفضاء الثقافي الذي كنا نبدأ بالسفر فيه.

كثيرة هي الكتب التي أصدرها عصام محفوظ. وعديدة هي الترجمات أيضاً. مَن منكم لا يتذكّر ترجمته لمقطع من خطاب لتشي غيفارا تحوّل أغنية رددها اليساريون في الستينيات والسبعينيات وكانت أغنية في مسرحية: «ما هم أن نموت في دوي صرخة الحرب/ ما همّ إذا وجدنا بعدنا، مَن يحمل السلاح، يواصل الكفاح...». لكني سأذكر ترجمة أخرى، صدرت في سنوات حياته الأخيرة: «رامبو بالأحمر». ربما المرة الوحيدة التي قرأنا فيها بالعربية، أثر الثورة الفرنسية على شعر رامبو، كانت مع عصام محفوظ، إذ إنه يعود إلى قراءة الشاعر الفرنسي، ليس من زاوية حياته البوهيمية وانقطاعه النهائي عن كتابة الشعر وهي الفكرة التي استهوت الكثير من الشعراء بل قرأه من حيث الفضاء الاجتماعي والسياسي، مبيناً من خلال ترجمته لبعض قصائده، كم أن ذلك كان حاضراً في فكر «هذا العابر الهائل». هذا الاختلاف في عملية القراءة، نجده أيضاً في كتابه عن ابن عربي، الذي يتخيّل معه حواراً (يستل أجوبته من كتاباته) كما في كتابه «حوار مع رواد النهضة العربية وغيرها الكثير.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل