المحتوى الرئيسى

رحيل ريكمان وسكولا وريفيت في أسبوعين.. السينما تجريب

02/01 02:29

بين 14 و29 كانون الثاني 2016، يرحل 3 سينمائيين غربيين: مخرجان (الإيطالي إيتوري سكولا والفرنسي جاك ريفيت) وممثل واحد (البريطاني آلن ريكمان). لكلّ منهم خصوصية مستمدّة من المسرح أو فن الـ «غرافيك» أو الصحافة النقدية. عيشُ المخرجَين مراحل تبدّل خطرة في مسار تاريخيّ لأوروبا جزءٌ أساسيّ من تكوينٍ ثقافي وإنساني وفكريّ. قبل انتقال الممثل من بلده في القارة العجوز إلى بلاد السينما الواسعة في أميركا، يُشكّل المسرح منطلقاً لاختبار معنى الأداء وآلياته المختلفة.

3 سينمائيين مولودين في 3 بلدان أوروبية ذات تاريخ حافل في شؤون الثقافة والفنون والحياة والانقلابات المدوّية. 3 سينمائيين يرحلون في 15 يوماً: صدفة، أم مجرّد غياب؟

لم يكن النصف الثاني من كانون الثاني 2016 مريحاً للفن السابع. خلاله، يغادر 3 سينمائيين الحياة، مصطحبين معهم صُوراً جميلة عن مراحل زمنية مختلفة. يغادرون تباعاً، كأن الموت ـ بعد السينما ـ يوحّد اندماجهم في الصمت، ويضعهم أمام عتبة أخرى من عيش مختلف. أو كأن السينما ـ مع الموت ـ تتحوّل إلى فصل ختاميّ لمحطة تأمّل تأخذهم إلى عوالم وتفاصيل، وتجعل كلّ واحد منهم يتماهى مع عنوانٍ أو لحظةٍ أو انبعاثٍ يتجدّد بالموت في إعادة ابتكار نمط آخر من الحياة، يتمثّل باستعادة تاريخ شخصيّ، أو مسار مهني، أو حكايات مرمية على دروب يومياتهم.

الأصغر سنّاً بينهم يرحل أولاً. البريطانيّ آلن ريكمان (21 شباط 1946 ـ 14 كانون الثاني 2016) يمتهن التمثيل المسرحيّ في بلده، قبل انصرافه إلى المشهد السينمائيّ الدوليّ عبر «الموت قاسياً» (1988) لجون ماكتيرنان بدايةً، ثم الملحمة السينمائية «هاري بوتر» (2001 ـ 2011) بتأديته دور البروفسور روغ. أكبرهم سنّاً فرنسيٌّ يُدعى جاك ريفيت (1 آذار 1928 ـ 29 كانون الثاني 2016)، يرحل أخيراً بعد مساهمةٍ فعلية في بلورة المعنى الثقافي ـ الفكريّ ـ الجماليّ للنقد السينمائيّ، قبل انخراطه في الإخراج، على غرار أصدقاء مهنتين (النقد والإخراج)، الذين لم يبقَ منهم حيّاً إلاّ جان ـ لوك غودار (1930). بين الرحيلين هذين، يغادر الإيطالي إيتوري سكولا (10 أيار 1931 ـ 19 كانون الثاني 2016) العالم، كمن يُحاول أن يصنع توازناً بين تمثيلٍ مسرحيّ شكسبيريّ لريكمان، وتوغّل مهنيّ احترافيّ في صناعة «الموجة الجديدة» الفرنسية لريفيت.

لن يكون هناك تشابه كبير في أساليب العمل الإخراجي بين إيتوري سكولا وجاك ريفيت. التشابه الوحيد ربما بينهما كامنٌ في اختراق المألوف، والتعمّق في تفكيك بُنى سائدة، وتحويل الصورة السينمائية إلى مرايا تعكس مرارة الذات، والسخرية من الواقع، والتفنّن في مقاربة المآل التي تبلغها الحياة والدنيا، والتي تُصبح قدراً لأناسٍ مشوَّهين برذائل الموروث والمتحجّر. «أسلوبه معروفٌ بفضل جرأته وفرادته»، يُقال عن سكولا. «أفلامه مبنية على فكرة أن السينما اختبار، بل قُل إنها تجريب»، يُكتَب عن ريفيت. لعلّ «جرأة» أسلوب سكولا وفرادته مرتكزتان على براعة جمالية لديه في مزجِ حِدّة التحليل النفسيّ بالتصوير الكاريكاتوري العنيف للمجتمعات الحديثة، مضيفاً إليهما سخريةً ومهزلةً تساعدان على التخلّص من أوهام عديدة مرتبطة بنسق العيش والأفكار المتداولة، وأيضاً السعي إلى التحرّر من وطأة الحزن، والبحث الدائم عن اختبارات سردية وشكلية غير مسبوقة. أما ريفيت، فيُفجِّر ـ من دون ندم، وبشكل دائم، وبشغف واضح ـ «التقاليد المعتادة»، متجاهلاً، بقسوةٍ وعن قصدٍ مؤكَّدٍ، القوانين والأعراف المؤسِّسة لأنماط حياة لا يريد تبديلها أو تغيير نواتها وأشكالها، بل تحطيمها.

فهل هذا كلّه، وغيره كثيرٌ أيضاً، يعكس اختلافاً في اشتغالاتهما، أو أنه تثبيتٌ لمشتركٍ حاضرٍ في حيّز إنساني ـ ثقافي ـ تأمّليّ ما لديهما؟

آلن ريكمان مثيرٌ لحالات أخرى. تحدّره من المسرح عاملٌ مُساعدٌ على إيجاد منافذ أدائية تستعين بالتواصل المباشر مع المشاهدين، وبالفضاء المفتوح للخشبة، وبالارتباط الوثيق بين الجسد والنُطق والحركة، لتفعيل الترجمة التمثيلية للشخصية السينمائية. صحيحٌ أن إطلالته الدولية تمرّ بفيلم تشويق عادي، لديه نجاح تجاريّ مقبول (140 مليوناً و767 ألفاً و956 دولار أميركي كإيرادات دولية، في مقابل 28 مليون دولار أميركي فقط كميزانية إنتاجية)؛ إلاّ أن أدواراً عديدة أخرى تتيح له إمكانية بوحٍ أدائيّ يكشف جوانب من ثقافته الفنية المصقولة بدراسة الـ «غرافيك» والفنون الدرامية، وصولاً إلى اشتغالٍ عمليّ في مجال الرسوم التقنية. لكن الصحيح أيضاً مرتبطٌ بدوره في «الموت قاسياً»، وبآلية تأديته. فشخصية هانس غروبر (ريكمان) تحتلّ المرتبة الـ46 في لائحة «أكثر 100 شخصية شريرة في التاريخ» (بحسب «معهد الفيلم الأميركي»)، بالإضافة إلى أن الممثل البريطاني نفسه يُحقِّق اللقطة الأخيرة (سقوط غروبر من أعلى البرج)، التي يُظهر فيها رعباً حقيقياً من الموت المحتم، لأن المخرج يتحايل على الممثل ليستنفر فيه مشاعر الخوف كلّها، فإذا بالممثل ينساق لغريزة الإنسان، مانحاً اللقطة والشخصية والدور مكانةً طبيعيةً في الفيلم.

التحاق ريكمان بـ «فرقة شكسبير الملكية» في العام 1978 دافعٌ إلى ممارسةٍ مهنية احترافية، قبل أن ينتقدها في نهاية تسعينيات القرن الـ 20، آخذاً عليها لا مبالاتها الواضحة إزاء مواهب شابّة «حقيقية». مع هذا، يظهر حبّه للمسرح في تحديده مكانة الممثل على الخشبة، إذ يقول: «في المسرح، يُمكنكَ أن تظهر كما أنتَ فعلياً، أو أن تختفي. يُمكنكَ أن تكشف أموراً، أو أن تجعلها تخرس. وفقاً لذلك، يحصل أن كلّ مُشاهِدٍ يكتشف حقيقة ما عن ذاته، أو ألاّ يفهمها. أرى أن دور الممثل كامنٌ في ضرورة اجتهاده كي لا يُغادر المُشاهد قاعة المسرح وهو يُردِّد: كان الأمر جيّداً... أين هي السيارة الآن؟».

أعمال إيتوري سكولا (40 فيلماً في 40 عاماً) تطرح سؤال مكان الفرد والشعب في التاريخ، باستكشافه خفايا الذاكرة الحميمة والاجتماعية، التي تواجه اختبار الزمن. طول مدّة كلّ فيلم من أفلام جاك ريفيت، أو بالأحرى إيقاعاتها «البطيئة» أو «الهادئة في حركتها»، قابلةٌ لخلق حالة نفور واشمئزاز لدى المُشاهد. لكن، يُمكن ـ بل «يُفضَّل» كما يُردِّد البعض ـ أن تُتَّخذ أفلامه برمّتها كاختبار أو تجربة يختلط فيها سحر الصورة بقسوة الوقائع، وجمال الكادرات والتفاصيل التقنية والفنية ببهاء المسارات الإنسانية التي تفكِّك كلّ شيء إما لمتعة التفكيك، وإما لتشييد عمارة بصرية مغايرة. مريدون عديدون لأفلام ريفيت يقولون إن طول مدّة كل فيلم من أفلامه يُمكن أن تتحوّل إلى عامل إيجابيّ، إذْ تتيح للمُشاهد أن «يتحرّك» في الفيلم كما يحلو له، مشاركاً بهذا في «عملية الخلق الفيلميّ» في كلّ مشاهدة جديدة.

«سوزان سيمونان، راهبة ديديرو» (1966) فيلمٌ روائيّ ثانٍ لريفيت، يُشكّل صدمة، ويثير فضيحة. إنه تأسيس لمشروع سينمائي يتمخّض عن صدامات وسجالات عديدة في الأعوام اللاحقة. ثقل التزمّت الديني والتسلّط الاستبداديّ للمؤسّسة الدينية المسيحية يدفعان بسوزان سيمونان، الشخصية الرئيسة، إلى مقارعة قدرٍ يُراد لها أن تعيشه. خلطُ موروثٍ ظلاميّ لقوّة الشيطان برغبة في إحكام قبضة حديدية على بيئة واجتماع، منبعٌ للغة متمرّدة تجعلها سوزان أداتها الوحيدة للمواجهة. التوقّف عند الفيلم هذا (يُصرّ جاك ريفيت على اعتماد العنوان الكامل له، وليس «الراهبة» كما يعتمدها كثيرون لاحقاً) تأكيدٌ على النواة الجوهرية لسينما غير مسالمة، إنْ لم تكن استفزازية، بالمعنى الجماليّ للاستفزاز.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل