المحتوى الرئيسى

جدل بيزنطى

01/31 22:21

أطلق د. جلال أمين، منذ سنوات، تعبيره الشهير إننا نعيش «عصر الجماهير»، وهذا يبدو واضحاً -الآن- فى مصر، بفعل ثورة الاتصالات واتساع دور الإعلام فى حياتنا، مع غياب الأحزاب الفاعلة والنشطة، بحيث يمكنها توجيه جماهيرها بقدر ما، وخطورة هذه الحالة أنه يمكن شد الجماهير إلى قضايا قد لا تكون لها الأولوية الأولى بالنسبة للمواطنين وللبلد عموماً، ومن ذلك الجدل والخصومة الدائرة حول ثورة 25 يناير وما إذا كانت ثورة أم مؤامرة أم أنها لا هذه ولا تلك بل نكسة ومصيبة.. إلخ.

الاختلاف حول ثورة 25 يناير ليس جديداً بالنسبة للثورات فى مصر. إلى اليوم هناك خلاف تاريخى حول ثورة 1919، تحديداً على زعامة سعد زغلول، ونعرف جميعاً رأى شيخ المؤرخين د. عبدالخالق لاشين فى هذا الموضوع، وعموماً يوجد تصور بين بعض الدارسين والسياسيين بأن الزعيم سعد زغلول انحرف بثورة 1919 عن مسارها حين قبل التفاوض مع الإنجليز، ولذا فان الثورة -من وجهة النظر تلك- انتهت إلى استقلال منقوص أو إلى احتلال ناعم، فيما عبّر عنه باحث شاب هو تميم البرغوثى بمصطلح «الوطنية الأليفة».

ثورة 1952 تعرضت، وما زالت، للجدل نفسه، هناك رأى أنها انقلاب على الملك فاروق وليست ثورة، فى مقابل الرأى القائل إنها ثورة. أصحاب الرأى الأول دارسون ومتخصصون، هم وطنيون أيضاً، ولم يكونوا من أنصار الملك فاروق ولا كانوا راضين عن الوضع الاجتماعى فى مصر، بين دعاة هذا الرأى ماركسيون وليبراليون وغيرهم، ومن المهم القول إن الضباط الأحرار لم يشغلوا أنفسهم بهذه التسميات، ولا توقفوا عندها، حتى إن أنور السادات كتب مقالين فى مجلة المصور نهاية عام 1952 بعنوان «كيف قمنا بالانقلاب؟».

لكن أمام هذا الرأى هناك د. طه حسين الذى اعتبر ما جرى يوم 23 يوليو 1952 من اللحظة الأولى ثورة وعبّر عن ذلك فى مقال نُشر له بالأهرام يوم 26 يوليو 1952، وكان قد بعث به من مصيفه فى أوروبا، وكتبه فور علمه بما جرى صباح 23 يوليو.

الأمر أبعد من ذلك فى التاريخ، أعظم ثورة فى العصر الحديث قام بها المصريون كانت فى مايو 1805، وهى التى انتهت بإزاحة الوالى العثمانى وطرده من مصر وتعيين محمد على باشا والياً برغبة كاملة من المصريين وعلى غير إرادة السلطان العثمانى الذى كان يريد إزاحته من مصر نهائياً وتعيينه والياً على «جدة».

كان تعيين محمد على إيذاناً بانتهاء دور المماليك فى الحياة المصرية، وقد حاول هؤلاء البقاء، وصلت محاولاتهم إلى حد استدعاء الإنجليز سنة 1807 للمساعدة فى خلع محمد على، فيما عُرف باسم «حملة فريزر» التى تصدى لها الشعب المصرى، ومع ذلك هناك من يتباكى بين المؤرخين على المماليك إلى اليوم، ويتهم محمد على بأنه قضى على النخبة والصفوة التى ظلت متسيّدة فى مصر لقرون عديدة.

ثورة 25 يناير ليست بدعاً فى ذلك، هناك من داخلها من يرى أنها، بالمعايير العلمية، انتفاضة وليست ثورة، وهناك من يقطع بأنها مؤامرة كاملة الأركان، وهناك من لا يشغل نفسه بذلك، وانتهى إلى أنها نكبة أو نكسة، لاحظ -من فضلك- التعبير والتوصيف «نكبة» فى الوعى العام رمزاً لحرب 1948 وما جرى فيها من هزيمة الجيوش العربية وضياع ثلث فلسطين، أما «نكسة» فهو المصطلح المتعلق بهزيمة يونيو 1967 التى فقدنا فيها سيناء كاملة والجولان واحتلال كامل فلسطين.

هناك مواطنون وقطاعات أضيرت من ثورة يناير، دعك الآن من رجال النظام القديم الذين فقدوا مواقعهم وحظوتهم، هؤلاء ليسوا المشكلة الكبرى، عادة تطيح الثورة بالنظام الذى قامت ضده، وفى المقدمة يكون رموز ذلك النظام؛ لكن لدينا قطاع السياحة أضير بالكامل ويعمل به أكثر من 6 ملايين مواطن، هؤلاء قد لا يكونون مشغولين بالسياسة وليسوا من الفلول، لكن فقدوا «لقمة العيش»، وسوف تسمع منهم أشد الكلمات ضد ثورة يناير، وهذا ليس ذنب الثورة، لكن ذنب من ترك الأوضاع تتفاقم، حتى لم يكن هناك بديل عن التغيير بغير هذه الطريقة.

غير المضارين من الثورة، هناك القلقون لأسباب وطنية خالصة ودوافع نبيلة، لا يمكن تجاهلها. ولنقرأ هذه الكلمات للمفكر التونسى المهم «المازرى حداد»، وجاءت فى كتابه الذى حمل عنوان «الوجه الخفى للثورة التونسية»، يقول حداد: «وراء هذا الانتشاء بالحرية والفرح بالديمقراطية تقبع ثلاثة مخاطر قاتلة: الأصولية المتشددة والفوضى الشاملة وفقدان السيادة الوطنية لمصلحة الأجانب. ينبغى أن يعلم العرب أن هناك ما هو أخطر من الديكتاتورية، الفوضى الشاملة بعد انهيار الدولة، وما هو أخطر من الفوضى الشاملة، الحرب الأهلية، وما هو أخطر من الحرب الأهلية عودة الاستعمار».

فى مصر أناس قلقوا من الثورة وتوجسوا منها، رغم أنهم لم يكونوا من مؤيدى نظام مبارك، بل كانوا من الكارهين له، وهؤلاء لم يجدوا من يستمع إليهم، ولم يُسمح لهم حتى بالتعبير عن آرائهم أمام هيجان من أطلق عليهم د. عمار على حسن بصدق «المراهقين الثوريين» الذين أساءوا إلى الثورة ذاتها.

الاختلاف حول ثورة يناير طبيعى ومتوقع، كما حدث من قبل، غير الطبيعى أنه أصبح قضية أولى لدى الجماهير، بفعل وسائل التواصل الاجتماعى والميديا الحديثة.

تحتاج ثورة 25 يناير مجموعة من الباحثين يبتعدون عن خلافات الشارع ولكن لا يتجاهلونها، يعكفون للدراسة والبحث فى كل شىء حدث، يكون اهتمامهم بالوقائع وجمع المتناثر منها، ومحاولة الإجابة على عشرات من التساؤلات المطروحة. كان فى ميدان التحرير مصريون أنقياء أرادوا التقدم لهذا الوطن وإنقاذ المجتمع مما وصل إليه، وهناك شبان ضحوا بحياتهم واستشهدوا، سالت دماؤهم فى الشارع من أجل هذا الوطن، ولا يجوز تحت أى اعتبار تجاهلهم ولا الإساءة إلى ما قاموا به.

لكن وُجد أيضاً انتهازيون ومجرمون وجواسيس، هناك محام تم تعذيبه بجوار الميدان، وأدان القضاء من قاموا بهذه الجريمة، وكان هناك رجل الموساد «إيلان جرابيل»، أُلقى القبض عليه وافتدته إسرائيل بالنفيس، وحين أُلقى القبض عليه صاح البعض إن القضية ملفقة لتشويه الثوار والإساءة لسمعة الميدان.

وهناك من تحولت الثورة لديه إلى سبوبة ومشروع خاص أو مهنة يتكسب منها، وهؤلاء يسيئون كل يوم إلى الثورة.. إلى رمزيتها ودلالاتها ومعانيها، ومن أسف أن بعض البسطاء يتصور أن هؤلاء هم الثورة، هم عالة عليها وعلى الوطن كله.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل