المحتوى الرئيسى

غزة-القاهرة 4: سنرجع يومًا إلى كلِ جميلٍ

01/31 09:03

مساءٌ باردٌ جدًا، عساكِ بخير أنتِ وطفلتكِ الصغيرة يلفكما الدفء في عشكما الجميل. سعيدة بتأثير مشاهد القطاف عليكِ، ليتني كنت أستطيع أن أقدم لكِ أكثر من بضع صور جميلة، لكنكِ تعلمين الظروف جيدًا، وتعلمين أي سجنٍ أعيش فيه، فشكرًا للتكنولوجيا التي منحتني نافذةً أطل بها على العالم الذي حرمت منه.

أنا لست بخير يا دينا، لست بخير على الإطلاق. روحي متعبة يلفها البرد من الداخل قبل الخارج، القلب متشحٌ بالسواد، وأنا عالقةٌ ما بين ظلمتين، ظلمة العالم من حولي لغياب الكهرباء، وظلمة داخلي لغياب أشياءٍ وأشخاص على رأسهم "سلوان".

"سلوان" غائبة يا دينا، وهذا الأمر يجعلني كمسافرٍ تائه فقد بوصلته ولا يدري إلى أين يتجه. "سلوان" بوصلتي وأنا أفتقدها بشدة، منذ غيّبها مرض والدتها وجزءٌ مني غاب معها. منذ غابت وأنا خائفة، خائفة جدًا. عندما علمت منها أن والدتها مريضة للغاية ومحتجزة في المستشفى، أدركت أن اليوم الذي دعوت الله دائمًا أن يؤخره قد جاء. هذا قدر الله، ولا اعتراض عليه، لكن ما يؤلمني أنه جاء وأنا لست بجوارها، كنت أتمنى أن أكون بجوارها يا دينا، كنت أريد احتضانها والبكاء معها. ماتت والدة "سلوان"، وأنا هنا أمضغ عجزي وقلة حيلتي، ولا أدري ماذا أفعل. قد تتعجبين يا دينا، أنا لم أسمع صوت "سلوان" إلى الآن، أنا لم أمطرها بالكثير من المكالمات كما هو متوقع، هي مكالمة واحدة يوميًا أجريها وأنا أدعو الله أن لا تجيب، لأني لا أعرف ماذا سأقول لها، ماذا يُقال عند موت الأم يا دينا؟ ماذا يُقال عند موت الحياة؟ أنا لا أدري ماذا يُقال، لذا أنا خائفة من أن تجيب "سلوان" مكالمتي اليوم. أعتقد أني سأقول لها "أنا أحبك" ثم أنفجر في البكاء. "سلوان" حزينة يا دينا وأنا كذلك، "سلوان" غائبة وأنا روحي تائهة.

أشعر يا دينا أني وقعت في ثقبٍ أسود ولا أعرف كيفية الخروج، روحي المعافرة يبدو أنها أُنهِكت وقد شارفت على الاستسلام، حتى فعل الكتابة لا أجد بي رغبة فيه. الأمل أصبح مؤلمًا جدًا، وأريده أن يحزم أمتعته ويرحل عني للأبد. "ترى الأمل لو ما صدق يجرح!" هكذا قال القيصر في إحدى أغانيه، وبهذا أنا أؤمن، وما عادت الروح تحتمل جراحًا جديدة. أريد أن يرحل عني الأمل يا دينا، لكنه لا يفعل. ما زال في قلبي جزءٌ حالم يؤمن بالغد الجميل، والأحلام الوردية حيث الفرحة والدفء، حيث أنا محاطة بكل من أحب ولا أشعر بالوحدة كما أنا الآن.

ولكوني تعبت من المعافرة تابعت دون أي مشاركة هاشتاج #تلات_حاجات_حلوة، تابعته وأنا سعيدة لصديقاتي "رانيا، علياء، ياسمين، آيات"، لكني لست سعيدة بنفسي لأني لم أشارك ولا أظنني سأفعل، فكيف أستخرج شيئًا واحدًا جميلاً من قلب هذه العتمة التي أحياها؟! طبقات من العتمة يا دينا، عتمة غزة، وعتمتي أنا ابنة غزة.

سعيدة لأجلك أيضًا غاليتي كونكِ استطعتِ المشاركة بثلاثة أحداث حلوة حتى لو كان الأمر أسبوعيًا، وإني أرجوكِ أن تجعليه يوميًا، اكسري دوائر الكآبة بإنجازاتك حتى وإن كانت بسيطة للغاية. أوقفي دوران الشريط المعطوب، فروحك الجميلة لم تخلق للعتمة والصمت. واكتبي على الأقل لأجل جميلتنا "جنى" فأنا أدرك تمامًا أن في كلِ يومٍ هناك حدث جميل متعلق بهذه الصغيرة الرقيقة، اكتبيه على سبيل التوثيق لتقرؤه "جنى" مستقبلاً فتعرف أن لها أمًا معافرة لا تستسلم، أحبتها بصدق، وكان هذا الحب وقودها في الدنيا.

يبدو من السخف أن أنصحكِ بفعل ما لا أستطيعه، لكن من يدري؟ ربما اليد التي أمدها إليكِ بالحث على المشاركة تنتشلني معكِ من هذه الدوائر المفرغة التي لا تكف عن الدوران حولنا وأشعر بها ستنغلق على رقابنا! ولأثبت لكِ أن اليد بدأت عملها في التو واللحظة سأحكي لك عن حدثٍ جميلٍ للغاية أحب أن أسميه "لقاء في الميناء" ولتعلمي أنكِ كنتِ حاضرة فيه بروحك معي.

قبل الدخول في دوامة الحزن والكآبة كنت قد استمتعت بيومٍ ولا أروع في ميناء الصيادين في غزة برفقة أختي أشجان، وابنتيّ عمي "سهير" و"سها". أثناء وجودي هناك كنت قد قررت أني سأكتب لكِ عن هذا اليوم، والصور التي التقطتها سهير يومها كانت لأجلكِ أنتِ. فقد كنت أسير وإياها وأخبرها أني سأحكي لكِ عن جمال بحر غزة، وها أنا أفعل.

البحر يا دينا، الشيء الوحيد في مدينة غزة الذي تشعرين أنه لا يدير ظهره لكِ، الحدود فعلتها منذ زمن حتى أصبح الأمر معتادًا، والمطاعم وأماكن الترفيه تفعلها بالطبع إن شعرت بكِ مفلسة، لكن البحر يفتح ذراعيه على الدوام لكل أهل غزة، من يملك ومن لا يملك.

في ذلك اليوم شعرت أن البحر فتح ذراعيه على اتساعهما لكي يستقبل كل تلك الأفواج التي تدافعت إليه، يومها شعرت أن غزة كلها كانت على موعدٍ مع الميناء، وعلى غير عادة أسعدني الزحام جدًا جدًا، أتدرين لماذا؟ لأني لم أجد حولي إلا ابتسامات، الكل سعيد، الكل مبتسم، وكيف لا يفعلون ونحن في حضرة الزرقة الواسعة والشمس الدافئة، فحتى البحر والشمس كانا يبتسمان وكأن هذا اليوم هرب من حسابات الشتاء لأجلنا نحن.

عائلات مجتمعة تضحك من القلب، صغار يركضون ويلعبون، وصغار آخرون يديرون ظهورهم للبحر لصلاة العصر في مشهد أسرني للغاية، فتيات جميلات يأكلن غزل البنات، بالونات ملونة، شباب كالوردِ في كل مكان، باعة جائلون، وجداريات ملونة تسر الناظرين، عناصر تجمعت لتكون مشهدًا ولا أجمل، مشهد يقطر بالسعادة وكأنه يوم عيد، سعادة انتشرت بين الجميع كالعدوى، عدوى وردية وبيضاء كغزلِ البنات الذي اشتريناه.

تلك السعادة الصافية لم يكدرها سوى غصة شعرت بها عندما بلغنا آخر الميناء وأخبرتني "سهير" أن الدخان المتصاعد في الأفق ما هو إلا ميناء آخر محتل. تذكرني الغصة هذه بغصة أخرى تنتابني كلما أخبرتني واحدة من صديقاتي في مصر أنها مسافرة القاهرة، الإسكندرية، أو أي محافظة أخرى، لأني عاجزة عن قول إني مسافرة يافا، حيفا، عكا، القدس، أو الخليل. لا تقلقي لم تستمر الغصة كثيرًا لأننا بددناها ببعض الخطط الجهنمية التي تخيلنا أنفسنا فيها نسبح من مينائنا للميناء الآخر في سبيل الدخول لأراضينا المحتلة هناك. يبدو غاليتي أنه لا شفاء لي من الأمل لأنه يخبرني الآن أنه ربما أعيش لليوم الذي أسافر فيه لمدن فلسطين دون الحاجة للسباحة، أعدكِ إن حدث هذا أن أحضر لكِ سلة من برتقال يافا الذي لا مثيل له على الإطلاق.

في نهاية رسالتي، أرجو أن تسامحيني غاليتي على جرعة البؤس هذه التي لا تتناسب مع رسالتك الجميلة التي سعدت بها جدًا. سعيدة لصديقتك "سارة" وأرجو أن ترسلي لها مباركتي بالمولودة التي أسأل الله أن يحفظها من كل شر. سعيدة بحضورك عيد ميلاد "ونس" الذي كنت أتمنى بشدة أن أشارككن فرحته، لكني سأفعل العام القادم بإذن الله، وأخيرًا سعيدة ومرتاحة بحلمكِ الجميل الذي أراه بشارة بقرب زيارتك لبيت الله. 

مرفق بالرسالة صورة بانورامية لميناء غزة، وبعض الصور التي التقطتها "سهير" للغروب هناك، أما صور الصباح فهي بعدسة آخرين. أتمنى أن تنال جميعها إعجابك.

سنرجع يومًا إلى حيِّنا ونغرق في دافئات المنى..

أهم أخبار مرأة

Comments

عاجل