20 صورة بلاغية في نص استقالة السحيمي لمجلس القضاء بسبب «الزند»
تقدم القاضي بمحكمة قنا الابتدائية، المستشار محمد السحيمى، باستقالته من القضاء إلى مجلس القضاء الأعلى، اعتراضًا على ممارسات وزير العدل ضده، والتنكيل به.
وجاء نص استقالته أليق ما يكون بقاض أداته اللغة، عالية البلاغة كما رسالته في القضاء عالية المنزلة، وإن لم يلتق أحد منا بهذا القاضي وجها لوجه، فقد لمسنا بين كلماته شرفا لا تمنحه اللغة إلا لرجل شريف، وفصاحة لا يهبها الله إلا للمخلصين من عباده في تدبر لغة كتابه، وفي ما يلي 20 لمحة بلاغية رسمت معاني أكبر من أن يحتويها خطاب أسطره معدودة.
1ـ "وضعتم على صدورنا وشاح شرف العدل"، براعة الاستهلال هنا أنه نسب إلى رئيس نادي القضاة فعلا شريفا يعتز به السحيمي شخصيا، وهو وشاح القاضي، الذي اعتبره حاملا لشرف العدالة وشرف تطبيقها، وإنها لكبيرة إلا على رجال من القضاء لا يخشون في الله لومة لائم.
2ـ حذف حرف الجر "أقسمنا إقامته"، وهو من فنون البلاغة، أن يحذف حرف الجر لسبب بلاغي يزيد من قوة المعنى ومن جمال التركيب اللغوي، وشاع حذف حرف الجر إذا اشتهر موضعه، لكن الحذف هنا كان لسبب أقوى، وكأنه أراد أن يستمد المقسم عليه الشرف من المقسم به نفسه، فكما هو معروف أن عقد القسم لا يكون إلا بالله، كذلك إقامة العدالة مأخوذة مباشرة من اسم الله "العدل".
3ـ "فارقْتُه ليَلْقَىٰ ربه": في حديث القاضي عن والده الراحل تعفف أن يصف من غيبه الموت بأنه "فارق دنيانا" وفارق نجله، وتأدب أيما أدب مع سبب وجوده في هذه الحياة، ومع شرف الحياة الآخرة التي يؤمن بها، فوصف نفسه بأنه هو "المفارق لوالده" تأدبا مع الموصوف الحقيقي.
4ـ "لا تثريب على من لم يقدر": تناص مع تركيب قرآني أجراه الله على لسان يوسف بن يعقوب، حين خاطب أخوته في لحظة العفو عنهم، وتثريب أي: تعيير وتوبيخ، فالقاضي يخاطب من يريد أن يخاطبهم بأسلوب غاية في الحِلم واللين شأن أي أخ يخاطب أخوته، يخاف عليهم وينصح لهم ويعفو عنهم.
5ـ "يد الشرك تنال عُصْبَتُه منهم" أي عصبة من يد الشرك تنال النبي، واستخدام الحال الجملة "تنال عصبته منهم" له بلاغته، وهي التفصيل، الذي أفاد هنا التخصيص والنجاة من فخ التعميم، فهو لا يزكي القضاة من أن يكون جميعهم من عصبة الشرك، لكنه يصف بعضهم بذلك، كما يدل بقية نص الاستقالة، والتعبير بالحال بدلا من النعت أملا في تغير الحال وتجنبا للسب حتى إن لم يعاقب عليه القانون.
6ـ "لا أشكو ضعف قوتي ولا هواني على وزير العدل": أجرى تناص مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعد اضطهاد المشركين من أهل الطائف له "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"، لكن القاضي السحيمي أورد التناص بالنفي، نفي الشكوى، اعتدادا منه بنفسه واعتزازا بكرامته، بحسب ما اقتدى السياق، فهو يخاطب بشرا مثله لا إله.
7ـ "فإنَّ لمثلي ربٌّ يردُّه": تناص مع مقولة عبد المطلب جد الرسول الشهيرة حين قال له أبراهة الحبشي أتغضب للإبل ولا تغضب للبيت الذي سأهدمه، يقصد الكعبة، فقال أنا "رب الإبل، وللبيت رب"، بغض النظر عن الخطأ النحوي الوحيد وهو "فإن لمثلي ربا"، فإن هذه التركيبة بتأخير اسم إن وتقديم خبره تفيد "القصر"، وهو أسلوب بلاغي يشبه التوكيد لكنه أقوى، حيث استبعد الانتماء لأي كائن في هذه اللحظة سوى هذا الرب، إمعانا منه بالثقة في وقوف الله إلى جواره.
8ـ "فإن أمهله في دنياهُ هذه، فإنه لن يهمله في يومِ موقفٍ عظيم": جناس ناقص بين "أمهل ويمهل"، وهو مأخوذ من المقولة المأثورة "يمهل ولا يهمل"، والجناس الناقص يتكون من كلمتين متفقتين في عدد ونوع الحروف ومختلفتين في المعنى، وهو من علامات التمكن البلاغي، والبراعة اللغوية.
9ـ "فأسرَّها في نفسه": يوسف مرة أخرى، حيث أجرى القاضي تناصا مع وصف القرآن لردة فعل سيدنا يوسف بن يعقوب حين وصفه أخوته بـ"السارق"، ولكن هذه المرة ساقها القاضي للدلالة على موقف وزير العدل من الخصام بينهما.
"فأضحى صوتُنا سوطًا علينا"، جناس آخر بين "صوت" و"سوط"، ولعل الفارق بين معنيي الكلمتين يبرز معنى ثالثا وهو مدى خيبة الأمل التي يشعر بها القاضي السحيمي من هذا الذي كان يفترض به أن يكون مدافعا عن القضاة وحقوقهم وعن كل ممثلي القانون في مصر حاليا، فأصبح يكن العداوة ويبطش بأبناء مهنته.
10ـ "فنبَّهني تنبيهًا يُوقفني عن ترقية": أي أنه نبهه تنبيها مبالغا فيه وصل به إلى وقفه عن الترقي الوظيفي، ولعل القاضي هنا استخدم هذه المبالغة للسخرية مما أسماه البغض تنبيها وهو في الحقيقة أذى لأي موظف، واستخدام الجملة "يوقفني عن الترقية" لوصف التنبيه هو استخدام موفق لغويا ويحمل العديد من الدلالات، منها مثلا التأكيد على أن هذا التنبيه أصابه بأذى، وهو وقف ترقيته.
11ـ "ورَبَتِ الدعاوى المدنية فجاوزتِ الثلاثمائة وخمسين": ربا لغويا يعني زاد زيادة غير معقولة، واستعمالها هنا من باب مناسبة اللفظ للمعنى المراد، حيث أشيع استعمال كلمة الربا في الزيادة المستهجنة، مثل الربا في الأموال عن طريق استغلال حاجة الناس وظروفهم الصعبة.
12ـ "وإني لَأُعاجل عُنُقي بذبحٍ قبل أن ينالها بطعنة موتور"، أعاجل عنقي أي استبق سقوطها، موتور أي طالب الثأر، واستخدام هاتين الصورتين تحديدا لإشعار القارئ بمدى المأساة التي يعيشها القاضي، ومدى الظلم الذي يتعرض له وكأنه أشد من الذبح وطعم السكين، وعبر عن من ظلمه بـ"الموتور" وكأنه يأخذ منه ثأر عزيز عليه، ويبدو هنا عدم التناسب إطلاقا بين أي صراع أو تنافس أو شحنا ء في العمل وبين الأخذ بالثأر، ما يشير مباشرة إلى أن هذا المراد بالكلام غير سوي نفسيا.
13 ـ "لا يملك سوى نفسه": تناص مع كلمات موسى عليه السلام حين قال لله عز وجل "لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الظالمين"، وهو يتحدث عن آل فرعون، وخشية موسى من أن يبطش به هذا الظالم.
14ـ "غير أن مِثْلي إذا اسْتُكْرِهَ على الأمر ما وسعه البقاء عليه": تستخدم كلمة "مثلي" بضمير المتكلم في الفخر، كما ورد في الكثير من كلام العرب، فالقاضي السحيمي برغم ما تعرض له من ظلم لا يترك اعتزازه بنفسه لحظة، ومعنى استكره: أي أجبر على شيء، ومعنى ما وسعه البقاء عليه: أي لا يستطيع ولا يطيق أن يظل مداوما على هذا الأمر الذي أجبر عليه.
15ـ "إذ بَلَتْ": أي إذا تحللت هذه العظام، وهنا يبدو أمران: الأول التذكير بنهاية كل حي، وأن كل إنسان مهما بلغ جاهه أو نفوذه سينتهي به الأمر إلى حفنة من العظام البالية، هذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، والأمر الثاني أن هذا الذي تجرأ وظلمه لم يقدم على فعلته هذه إلا بعد أن تأكد من موت والده وتحلل عظامه، خشية أن يبطش بالقاضي فينتقم منه أبوه إن كان حيا، وهذا إن دل فيدل على خوف هذا الظالم من والد القاضي السحيمي.
16ـ "وإني من تلك العظامِ دمًا من دمٍ" أي خلقت من نخاع هذه العظام نطفة صغيرة، ومعروف أن النطفة تخلق من الدم أولا، فعبر عن النطفة بالدم، وهذا مجاز مرسل علاقته "اعتبار ما كان"، مثل "شربت عنبا" أي مشروبا لما كان عنبا قبل عصره.
17ـ "فإنكم حفَّاظون للعهود": مدح الذي يتوجه إليهم بخطابه باستخدام صيغة مبالغة، وهو أكثر تأكيدا على المعنى المراد، ومعنى الكلام أنه إذا كان حافظ العهد يحفظه مرة واحدة، فإنكم لا تخلفونه أبدا.
Comments