المحتوى الرئيسى

«حرب» للدنماركي توبياس ليندهولم.. الجريمة المتبادلة

01/28 02:01

يُشكّل «حرب»، الروائي الطويل الثالث للدنماركي توبياس ليندهولم، أحد العناوين السينمائية المتعلّقة بأسئلة الحرب وأخلاقيتها، وبموقعها الإنساني في الصراعات العنفية القائمة بين أطراف عديدة. جديد سينمائيّ يُرشَّح، رسمياً، في فئة «أفضل فيلم أجنبي» في الدورة الـ 88 لجوائز «أوسكار» الهوليوودية، التي تُعلن نتائجها النهائية في 28 شباط 2016.

في أفغانستان ومتاهاتها القاتلة، تبدأ الحكاية. في الدنمارك وفضاءاتها، تُستَكمل تفاصيلها. رجال التنظيم الإرهابيّ «طالبان» لا يظهرون على الشاشة الكبيرة، لأن جوهر النصّ الدرامي معقودٌ على سؤال أخلاقي يُطرح لاحقاً: مقتل أبرياء وسط احتدام معركة. أهذه جريمة حرب، أم أن المسؤولية الأساسية يتحمّلها مسلّحو «طالبان» الذين يُحوّلون الأبرياء هؤلاء إلى «دروع بشرية»؟

الفيلم الثالث للمؤلف والمخرج السينمائي الدنماركي توبياس ليندهولم «حرب» (115 د.) مداورة درامية حول عقدة عسيرة، تخصّ إنسانية محارب، واستحقاقات تكريمه أو لعنه. ذلك أنّ مَقَابح الحروب جمّة. أكثرها جسامة أنها لا تنكر سفك دماء خطاة لا شفيع لهم في الغفران. بما أن شُرُور البشر لا حدَّ لها، فوقوع حرب ما ضرورة لمنع مذنبين متوحّشين من ارتكاب جناياتهم.

هكذا برّرت العقائد صناعة جيوشها، ونظّمت واجباتها في ساحات وغى، إذ أعطتها «عدالتها»، وفرضت «سلطانها»، ونصحت بـ «الصلاة» لنجاة مقاتليها، ومنهم ضابط شاب يقود دورية في منطقة نائية تابعة لمقاطعة «هلمند» الأفغانية، يتعرّضون لهجوم كاسح يشنّه مسلحو «طالبان». تتعاظم الشدّة عليهم. يتساقط رجال الضابط. يُصاب رفيقه ذو الأصول الشرق أوسطية لطفي (العراقي دلفي الجبوري) إصابة بليغة. تستغيث دماؤهم إلى قرار حاسم. لا حلّ أمامه سوى استدعاء طائرات قاذفة من قوات «التحالف» تُوقف تصفيتهم. النتيجة: مقتل 11 مدنياً أفغانياً كانوا دروعاً بشرية تحت وصاية مهاجمي الملا عمر.

مَنْ المُلاَم؟ هل في عقائد الحروب جريمة حقيقية يمكن مقاضاتها، غير تلك المتعلّقة بقيم عسكرية، كنكث العهد، والخيانة، والجبن، والتخابر، والفرار، وغيرها؟ هل إهراق دمّ نتيجة قرار خاطئ جناية؟ متى يتحوّل جنديٌّ إلى قاتل؟ الإجابة عن أسئلة ميدانية والتباساتها تستند إلى معيارية أخلاقية في المقام الأول، لارتباطها بمفهوم «عدالة» أيّ معركة، وتبريرات وقوعها، وإدارتها.

يختزل ملصق الشريط، المصمَّم بأسلوب مفعم بالمواساة، محنة مقبلة لمساكنة اجتماعية تساند حرباً على الإرهاب، لكنها تواجه ريباً حول مآثرها. جنديٌّ بملابس ميدان يحتضن زوجته، فيما يتشبّث ولداه بجسده، كأنهما يعاقبان غيابه القهري عنهما. المشهد مُصوَّر في مطار كوبنهاغن، مع عودة كلاوس (بيلو أسبيك) إلى عرينه العائلي. لكن، ما قاد أوبته حربٌ أخرى، يتوجّب عليهم جميعهم خوضها أمام محكمة عسكرية لردّ تهمة «جريمته» في تصفية أبرياء. كما في شريطه السابق «ر» (2010)، الذي قسّمه ليندهولم إلى مقطعين متساويين حول سجين شاب يدعى روي وصداقته مع زميله الأصولي رشيد في معتقل عنيف، تصبح الساعة الأولى من جديده توثيقاً ليوميات كلاوس مع جنوده. كائنٌ بقلب كبير، حنون وأبويّ. بيد أن أرض الموت لن تبخل عليه بالمنايا. تترسّم هذه عبر أحداث ثلاثة، تجتمع على إظهار قوّة إرادته وحنكته وسداد قراراته. هي، في وجه آخر، تعميد عسكري لزعامته، التي تسعى سلطة قانون لاحقاً إلى التشكيك بها، ووصمها بالتهم.

تتوالى الأحداث على النحو الآتي: انفجار لغم يقتل أحد الجنود، ويؤدّي إلى إنهيار لطفي لأن الأول «أخذ مكاني»، يقول بدموع أساه. تغتال «طالبان» عائلة بأكملها، لأنها نشدت مساعدة طبية من الكتيبة الدنماركية لابنتها الصغيرة، التي لن يرى كلاوس منها سوى قدميها المتيبستين. بين الفصلين، تدور مواجهة ثالثة تنتهي بتصفية «طالبانيّ» مسلّح، استخدم أطفالاً غطاء لتهريب مقذوف كبير. في مقابل هذه الفواجع الأفغانية، التي تلمّس كلاوس سبيله خلالها في «إدارة» حربه بأقل الخسائر، مسنوداً برفقة «عائلية» من الشرق أوسطي المدعو نجيب (العراقي دار سليم)، يُرينا توبياس ليندهولم (1977)، عبر مونتاج متواز، موقعة أخرى فردية تقودها زوجته ماريا (توفا نوفوتني) بجَلَد أموميّ وتفانٍ ملائكي في قلب كوبنهاغن، محافظة فيها على توازن أطفال ثلاثة يحنّون إلى أب غائب، ويترقّبون عودته من قلب ميتات يواجهها يومياً في بلد قساوة وأجلاف.

هذه العناصر مجتمعة تجعل من حكاية «حرب» دافعاً سيكولوجياً حاسماً لإرغام مشاهده، المتعاطف أصلاً، على الانتصار للأب الشاب في صراعه مع قضاة جادّين بأمانتهم. كلّما ازداد خناق المدّعية العامة ليزابيث (شارلوت مونك) بحججها اللئيمة، لكن المحقّة، يتداعى الجميع لإغاثته بشهادات دامغة. عقيدة جنوده لا «تنقصها» النّخوة كي «تلوي» ذراع حكم، وتبرّئ قائدا من تبعات «حسم ميداني اتخذه بسرعة قصوى». أما القتلى، فديّات أرواحهم لا «تنقصها» يوروات الدمّ الأوروبية. هيكلية ليندهولم السينمائية اثنتان: تستند الأولى، كنصّ حربي، على برار قاسية ومكشوفة وعدائية، صُوِّرت مواقعها في الأردن وتركيا بين بلدان أخرى، جاعلة من جنود كتيبة دنماركية طرائد سهلة، على الرغم من أنها لا تستحق التصفية لقداسة واجبها في جعل دنيا العامة مَأمُونة، وهي حجة كلاوس مع لطفي المكلوم. فيما «ألغى» الفيلم، بحصافة سينمائية، مظاهر مسلحي التنظيم الأفغاني، الذين لن نراهم أو نسمع أصواتهم، كأنهم أبالسة مخفيون ضمن ستارة طبيعية من الوحشة والغبار والردى، عكس أقرانهم الصوماليين في العمل الثاني لليندهولم «اختطاف» (2012)، الذين اكتسحوا مشهدياته العنيفة وهم يسيطرون على سفينة منكوبة في عرض المحيط.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل