المحتوى الرئيسى

وجوه ونجوم عادل السيوى

01/27 16:30

فى أعمال عادل السيوى، هناك عودة لمكان بينى للحكاية، بين الحكاية المجردة التى احترفها الفن التشكيلى، والحكاية الشعبية ذات التفاصيل الكثيرة والسرد المتاح والرموز الشهيرة. مكان بين الواقع المحسوس والخيال المجرد. مكان مشترك مع مجتمعٍ ما، بعد أن تعذر أن تكون مفردات التشكيل المجردة مادة للتواصل فى عصر مفتوح بكل المعانى الإيجابية والسلبية، أصبح فيه من الصعب استقبال أو فك مثل هذا النوع من الموجات الأثيرية، وبالتالى بثها. وربما كذلك لأن خيالات ورموز التصوير الزيتى أصبحت مقدسة أكثر من اللازم، لأن خيال العالم الكبير الذى تستقصى منه الرموز أصبح هو الآخر معقدا أكثر من اللازم، وفى لحظة لن تستوى فيها أو تستقيم تلك القداسة التى يضطلع بها الفن التشكيلى، مع هذه العشوائية والبرود اللذين يغلفان العالم والمجتمع.

فى تلك اللحظة ماذا يفعل الفنان؟ ربما يفكر فى أن يعود إلى مرجع شخصى، أو مكان شخصى، إلى لحظة مشحونة فى تاريخه، بعد أن يتخلى عن شمولية عالمه وكثافته. يعود إلى عالم قداسته نابعة من حرارة إيمانه، النسبية، وليست من أى ثقافة تفرض هذا المرجع أو هذه القداسة، أو أى فكرة أخرى لها سطوة، كالتحرر مثلا.  

تتحول الحكاية الكبيرة إلى حكاية شخصية.

فى سلسلة "الوجوه"، ستجد تلك الوجوه المستطيلة، التى تخترق سطح اللوحة، وتستكمل رحلتها بعدها، فى الفراغ، أو فى الأسطورة. الاستطالة هنا تبدو كلحظة تحول. كأن الوجه، بكل تاريخه، يشغل لحظةً ما داخل رحلة طويلة لكى يختفى، أو يغير من ملامحه الأساسية، ربما كى يحفظ انتسابه بهذا العالم الجديد الذى سيعيش فيه. الوجه أحيانا، بضخامته غير المعتادة، يكسر الإطار متعمدًا. تريد هذه الوجوه أن تتحرر من إطار اللوحة، الذى يطارد ويثقل بقسوة على رأسها. لأن حياتها ما زالت هناك بالخارج.

تريد أن تنتسب لعالم أكبر، متخلية هى الأخرى عن هويتها، ودقة ملامحها، لتكتسب هوية جديدة منحرفة "تشكيليا" تضمن لها أن تعيش. ربما هى "وجوه" لأناس يعرفهم الفنان، وربما هى وجوه آتية من الذاكرة، ولكنها فى النهاية ليست بورتريهات، لأنها لا تطابق الأصل. لذا فالعودة اختيارية، ولها محطات غير تقليدية.

هذه الضخامة اللافتة للوجوه هى من عمل المخيلة، فالمخيلة وحدها هى التى تضخم الأحجام بهذا الشكل. المخيلة أو الذاكرة الأسطورية للطفل. فى الطفولة بعد أن نودعها، تتداخل المخيلة مع الذاكرة، وتتضخم الحجوم والتفاصيل، ويهرب الواقع أمام هذه القوة الجبارة للتذكر. إذن المكان البينى الجديد الذى يبحث عنه عادل السيوى هو إحدى مفردات هذه الذاكرة الجماعية. 

أمام اللوحة تقف صغيرًا، كفرد، أمام ذاكرة الجماعة، فى لحظة بريقها وتألقها. 

"الوجه" هنا له مهمة، لأنه مكان التعبير والتوصيل والذاكرة، مكان حوار ظاهرى وباطنى. إنه المكان الجديد المشحون للالتقاء مع الجماعة. الوجه بما له من ميراث تشكيلى وإنسانى. وإنه أيضا مكان التأبين: ما يبقى من ذاكرة الجماعة عندما يموتون، تبقى الصورة، سواء الحقيقية، أو المتخيلة، وما تحمله الذاكرة لها.

التشكيل كان دائما عليه عبء الاحتفاظ بالصورة، مهما حوَّر بها، ولكنه يحتفظ بالأثر الإنسانى منها، معربا إياه عن زمنه ليجعله خالدًا.

"الوجه" أيضا إحدى الحكايات، كونه يربطنا دائما بحكاية صاحبه. حتى ولو كان مرسوما، فإن  له صاحبًا، سواء كان عائشا أو ميتا فى مكانٍ ما. الوجه كمفصل يربط بين اللحظة وهذا الصاحب الغائب، الذى يطفو على سطح الذاكرة وسط مئات الوجوه التى عايشها الفنان. يربط الوجه بين زمنين ويمنح العمق المجازى للوحة، بعد أن أصبح سطح اللوحة فى الفن الحديث خاليا من هذا البعد الثالث.  

"الوجه" أيضا يذكرنا بوجوهنا، التى نسيناها، عندما نتأملها، ونرى المفارقة بين وجه مرسوم ووجه حقيقى، إنها الرحلة فى عالم التشكيل، ومفارقة الفن. إننا لا نقترب من وجوهنا، أمام اللوحات، وإنما نقترب من أثر للوجه، لأنه أصبح ساحة للتشكيل، واللون، والرمز، بديلا عن  اللوحة. أصبح الوجه هو اللوحة، ولكن حدوده ليست مستطيلة صارمة كاللوحة، إنها تدور وتنثنى لتكشف عن مكان خبىء يستقى منه الفنان أشكاله.

ستجد "الوجه" دائما فى مركز اللوحة، أو الجسم، كبداية لفعل خلق اللوحة، ثم تأتى الثنائيات من بعدهما وباقى المفردات البانية لعالمه. فى كل الأحوال  ينظر الجميع

"الوجوه والأجسام" فى عين الكاميرا، أو فى عين المشاهد، أو الفنان؛ وهو فى وضعه المثالى، لصورة ستعيش فى المستقبل. ينظرون إلى مستقبل سيعيشون فيه بعد أن يختفى الفنان، لذا وجودهم له ثقل يتعدى اللحظة الحاضرة. إنهم لا ينظرون لأحد، ولا يعنيهم أحد، إلا المستقبل، الذى سيفسر تلك القوة التى اكتسبوها، رغم ضعفهم وخجلهم وقلقهم البادى، ليكونوا أحد الشهداء الصامتين عليه.

مهما تماست "الوجوه" التى رسمها عادل السيوى مع وجوه لنجوم نعرفها، أو مع وجوه تاريخية، فهى ليست مضاهاة أو نسخًا، وإنما توثيق لتلك الوجوه التاريخية بما تحمله من دلالة فى تاريخ الإنسان. وبالتالى حفظ للذاكرة من النسيان.

فى مجموعته "نجوم عمرى"، التى يرسم فيها نجوم ذاكرته من ممثلين ومغنين، الذين ملأوا ساحة خيال عمر الفنان: إسماعيل ياسين، زينات صدقى، شادية، تحية كاريوكا، وغيرهم؛ يتضح هذا المنحى، فكل الوجوه التى رسمها عادل السيوى تنتمى لعالم الفن والسينما والغناء والكرة والفن التشكيلى.

تلك العوالم الجماهيرية، التى تحتفظ بشحنات جماعية للعاطفة والتمثل. هى الوجوه التى أشبعت مخيلتنا وذاكرتنا باللحظات المشحونة. وجوه لها حكايات، تتلخص فى لحظات السعادة والحزن التى أورثتنا إياها. إنها المكان العاطفى المشترك بين الفنان والناس، المرجع الثرى لفترات الخمسينيات والستينيات، التى نشأ فيها الفنان وكوّن وعيه، وهى الفترات السياسية ذات الحكايات الكبيرة. فى لحظة يتخلى فيها الفنان عن هذا الحلم الكبير للذاكرة ويستبدله بالفن، بالحكايات الصغيرة للذاكرة.  

الحكاية حكاية أشخاص، صور من الذاكرة، أو حنين الذاكرة. ولكن اللون وصياغته للوجوه، ولتلك الصور يتعارض مع هذا الحنين. الفن ليس له وضع الاستسلام مهما حركته العواطف والمشاعر الساخنة، ومهما كان ما حوله باردًا، فمن ضمن أدواته أن يكون "جدليا" و"دافئا" مثل أى فن كبير. فى لحظةٍ ما يتنازل الفنان، عبر مقايضة ضرورية؛ عن متخيله الرمزى، إلى رمز محدد، وصورة محددة، مقابل أن يغرب هذا الوجه، ليبعده عن الحنين. 

بالتأكيد، فى ساحة الفن التشكيلى الآن، هناك صراع بين أدوات لرؤية الماضى أو إعادة إنتاجه بصورة حديثة، لينشأ ما هو متناقض مع الحنين، وهى اللحظة الحديثة، الحكاية الحديثة، فى رأيي، لمجموعته "نجوم عمرى".

وهو ما يفرق التشكيل عن الصورة الفوتوغرافية، التى تسقطك فى حنين لا فكاك منه، أما اللعب على صور النجوم، فهو تطوير لهذا الحنين. أو بمعنى أصدق إنها قدرة وسيط اللون، والذى يعتمد عليه عادل بقوة، على تغيير الإحساس الأصلى بالأشياء، أو انسلاخها من الحس الأصلى، ودخولها مناطق إحساس جديدة، لا يوفرها إلا الفن بوصفه الوعد بأنْ نرى الأشياء بأشكال متعددة، وخاصة، مهما كانت مُعادة.

فى لوحات عادل السيوى، أحيانا يحدث التحول من الإطار، الموجود بالقوة، إلى أن يصبح الجسم أو الوجه هو الإطار المجازي للوحة. هو تحول فى نوع السرد، سرد داخلى، باطنى، زمن مستعرض. وتحول أيضا فى نوع الحكاية، وفى مستقبلها وفى مرجعها. يتعامل الجسم والوجه مع الزمن بشكل آخر، بشكل أكثر مادية، عبر اللون، وليس عبر الفراغ. الكل محشور داخل وحدة مكثفة. وكذلك النظرة تأتى من الداخل إلى الخارج، عبر الاسترابة والعزلة، والفضاء الذى يغلف الأجسام والوجوه.

إنها حكاية فرد، فنان، يحاول أن يتماس مع تلك الذاكرة الجماعية، بما يحفظ له ولها استقلالهما، ومكان تداخلهما. ربما هذا يفضى إلى غنائية ما، ولكنها غنائية داكنة، مشحونة بالتساؤلات والحيرة واللعب والفرح أيضا.

أيضًا فى سلسلة "وجوه" هناك حضور للوجه وللملامح الأنثوية، وكذلك كون أغلب الوجوه قرعاء، يمثل حضورًا للأنثى المجردة الصافية، بلا أى علامة عليها سوى الخطوط الملساء والاستدارات. ربما ينسحب هذا التأويل أيضًا على شخصوصه وأجسامه فى لوحاته الأخرى، لذا يمكن أن نرى الحكاية من زاوية عين الأنثى، هذا النزاع القديم بين الانفصال عنها، وتقديسها، وبين حداثتها كأحد موضوعات التحرر من سيطرة الذكرة. وهى إحدى القضايا التى سيطرت على الفن الحديث والمعاصر بشكل عام.

داخل الجسم المرسوم أو الوجه وما يحيط بهما، هناك مساحة سرد جديدة غير مشغولة فقط باللون، بل بالأشكال الزخرفية. ستجد نجومًا ورسومًا هندسية، وزهورًا، وموتيفات شعبية، وزواحف، وأجسامًا صغيرة، وماركات لماكينات الخياطة، كلها تشكل فضاء لعالم آخر يسبح فيه هذا الجسم، الوجه.

فضاء أسطورى، يعبر بأكثر من زمن. ربما هو فضاء الذاكرة. إنه زمن سحرى، كما أن الحكاية سحرية. كما تسيح الأشكال خارج الإطار، إلى حجمها فوق الطبيعى، ترتد الحكاية إلى حكاية فوق طبيعية، حكاية جديدة، بها تفاصيل الحياة، وبها خيال الفنان، ليربط الأرض بالسماء، ليربط الأرض الحالية بأزمنة شاردة، قبل أن يحدث الانفصام النهائى بينهما. فالحكاية الصغيرة ليست أحادية الأبعاد، إنها لها نفس مواصفات الحكاية الكبيرة باستثناء من يقوم بحكيها. حكاية لها زوائد ومسارات منتهية، وأخرى ما زالت مفتوحة.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل