المحتوى الرئيسى

«25 يناير».. ذكريات عائلية وهموم وطنية

01/24 22:57

ليعذرنى القارئ بداية إذا وجد أن هذا المقال شخصى أو عائلى أكثر من اللازم، وعذرى أن الأقدار اختارت أن تكون أسرتى الصغيرة طرفاً أصيلاً فى ظاهرة سياسية كانت، وما زالت، تفرض حضورها الكثيف على الوطن كله. والحكاية أننى اخترت فتاة من عائلة «الزمر»، لتكون زوجة لى، وشاءت الأقدار أن يكون يوم مولدها الذى ينبغى أن نحتفل به هو تحديداً يوم 25 يناير!

كنت بحكم تكوينى اليسارى أكره هذا اليوم باعتباره عيداً للشرطة، رغم علمى بأن يوم 25 يناير 1951 كان يوماً بطولياً فى تاريخ هذا البلد، ولكن السجل الحافل بالقسوة المفرطة من جانب الشرطة المصرية جعلنى على الدوام أتعامل مع أعياد الشرطة باعتبارها مأتماً للمواطنين، ولم أكن آنذاك مستعداً من الناحية النفسية للابتهاج بهذا اليوم، والذى حدث بعد ذلك أننى اكتشفت أن زوجتى هى الأخرى تكره هذا اليوم، وأنها كانت دائماً تعاتب والديها لأنهما قاما بتسجيلها فى اليوم ذاته، الذى ظل مقترناً لديها بأهوال تعرضت لها فى طفولتها وصباها، ثم بمظالم فادحة أصابتها ضمن آخرين لمجرد أنها من عائلة «الزمر».. تلك العائلة العريقة التى يصلح تاريخها نموذجاً دالاً على التقلبات العنيفة فى تاريخ مصر.. فقد تربعت هذه العائلة على قمة السلطة والنفوذ، بدءاً من عام 1883 عندما اختار الخديو توفيق واحداً من رجالها الكبار عضواً فى أول مجلس شورى قوانين عرفته مصر، وظل منصب عمدة «ناهيا البلد» محجوزاً لأكثر من 100 عام لهذه العائلة تحديداً، وعندما أصبح «عبداللطيف بك الزمر» عمدة لناهيا، منح هذا المنصب البسيط وجاهة استثنائية دفعت الرئيس جمال عبدالناصر إلى إرسال مندوب عنه للعزاء فى وفاته.. ومن سخريات التاريخ أن هذا المندوب تحديداً كان شخصياً هو السيد أنور السادات، الذى أصبح فيما بعد رئيساً لمصر.. وبعد حوالى 12 سنة فقط من حضوره عزاء عمدة ناهيا.. كان ابن هذا العمدة تحديداً الرائد عبود عبداللطيف الزمر، على رأس المخططين لاغتيال الرئيس السادات فى 6 أكتوبر 1981م.

كانت زوجتى آنذاك فى الصف السادس الابتدائى، وقد اختزنت ذاكرتها أهوالاً لا تطاق، كان أهونها دمغ كل من ينتمى لهذه العائلة بأنه «إرهابى».. وأبشعها الهجوم المفاجئ للشرطة وأمن الدولة على بيوت العائلة وتفتيشها من آن لآخر، وكان طبيعياً أن تقترن الشرطة لديها بالعنف والقسوة وانعدام الرحمة والتنكيل بأبرياء لم يكن لهم أدنى علاقة بما فعله عبود الزمر.. ثم زادت الكراهية عندما تدخل أمن الدولة، وأرغم جامعة حلوان على إلغاء قرار تعيينها معيدة فى كلية التربية الفنية لمجرد أن لقب عائلتها هو «الزمر».

وفجأة تغيرت الأحوال، أصبح يوم ميلاد زوجتى، الذى كان مثاراً للسخرية أحياناً، وللكراهية أحياناً، يوماً من أعظم أيام الوطن.. قامت الثورة فى 25 يناير 2011، فأحببنا هذا اليوم حباً جارفاً، وأصبح على المستوى الأسرى مثار فخر لمدة عامين فقط، ثم خفت الحب وتراجع الفخر تدريجياً مع الزحف السلفى والإخوانى، وانهيار الأمن على كل المستويات، وصحونا على الأهمية القصوى لوجود شرطة تتمتع بالقوة والمهابة والاحترام كشرط لا غنى عنه للإحساس بالأمان، وعادت زوجتى لتكره يوم ميلادها مقترناً بثورة 25 يناير، وتحبه مقترناً بعيد الشرطة!.

قبل ثورة 25 يناير كانت عائلة الزمر قد بالغت فى انتمائها لنظام مبارك، حتى أصبح مقعد مجلس الشعب، ومقعد رئيس المجلس الشعبى المحلى محجوزين لرجال ونساء العائلة لأكثر من عقدين، وكانت العائلة قد استأنفت مسيرتها نحو السلطة بإعلانات ضخمة على صفحات كاملة فى الصحف القومية الثلاث، تتبرأ فيها من «عبود وطارق».. ومع خروج عبود وطارق من السجن بعد الثورة تهافتت الصحف والفضائيات على لقائهما، وإفراد مساحات ضخمة لهما.. وقررت زوجتى أن تستأنف دراستها العليا، وكلما صادفتها عثرة، أو مشكلة داخل الجامعة كانت تستعين بـ«الشيخ عبود»، الذى كان اتصاله بقيادات الجامعة أثناء حكم «مرسى» له فعل السحر.. وعندما حاصرت جحافل الإرهابى حازم أبوإسماعيل مقر جريدة «الوطن» استغاثت زوجتى بالشيخ عبود، الذى اتصل بحازم، وطلب منه أن يصرف أنصاره من أمام «الوطن»، «لأن زوج ابنة عمى يعمل فى هذه الجريدة»، فانصرفوا على الفور!.

قبل هذا بشهور، كانت زوجتى قد نزلت بإصرار إلى الانتخابات الرئاسية، وأصرت على انتخاب «شفيق».. ورغم ظهور «عبود» فى قمة السلطة بعد ذلك، لم تغير رأيها على الإطلاق فى أن كل المنتمين إلى جماعات الإسلام السياسى ليس لديهم أدنى ولاء أو احترام للوطن أو للمواطنين، الذين يختلفون معهم فى الرأى أو العقيدة.. وقد اعتدت أن أسمعها وهى تتحدث مع «طارق الزمر» على التليفون، ويحتدم النقاش بينهما: هو يصر على أن حكم الإخوان سيحقق لمصر النهضة.. وهى تصر على أن حكم الإخوان لن يجر على البلد سوى الخراب الشامل.

فى إحدى مكالماتها مع طارق الزمر، عبر لها عن اعتقاده بأنها تعتنق رؤيتى أنا السياسية.. «طبعاً، جوزك يسارى وبيكره الإخوان.. بكرة يفوق وتفوقى معاه وتعرفوا إننا اللى هنصلح حال البلد».. وسمعتها وهى تصرخ: «جوزى المجنون انتخب مرسى.. وأنا انتخبت شفيق.. جوزى انضحك عليه زى كل النخبة اللى جالها ارتجاج فى الوعى.. ودلوقتى بيضرب نفسه بالجزمة وعمال بيصرخ فى الفضائيات والجرايد عشان يكفر عن ذنبه».

نعم، كان ارتجاجاً فى الوعى، غامت معه الرؤية، وطفت على سطح القلب أحلام عريضة وشفافة عن وطن بلا خوف ولا فساد ولا تعذيب ولا فقر.. عن تعليم جيد وبيوت تدخلها الشمس ومستشفيات تعالج المرضى بدلاً من تدميرهم.. ولكننا صحونا من الارتجاج على خريطة تتمزق، وجيوش تنهار، وتراث يتحطم تحت مطارق وحوش ضارية.. وها نحن الآن نجر الوطن من شفا الهاوية.. ونأخذه بعيداً عن المصائر الكارثية التى آلت إليها أوطان شقيقة.. نحارب على كل الجبهات وننتظر صبحاً لا تسرق شمسه جماعات خائنة تتخفى بشعارات دينية، وهى تستحل دماءنا وأرواحنا وأعراضنا.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل