المحتوى الرئيسى

علاء عبد الفتاح: لا أحلام.. لا مخاوف

01/24 12:50

بعث علاء عبد الفتاح الناشط السياسي برسالة من داخل محبسه بطرة في الذكري الخامسة لثورة الـ25 من يناير، حيث يقضي عقوبة بتهمة التظاهر في الأحداث المعروفة إعلاميًا بـ"مجلس الشورى"،

 يروى فيها تفاصيل ذكرياته مع أحداث ثورة يناير وما تلتها من أحداث خلال الخمس سنوات الماضية، بالإضافة إلى الوضع السياسي الراهن في مصر تحت عنوان "لم يبق غير الكلام عن موت الكلام"، نشرته صحيفة الجارديان.

منذ خمس سنوات مضت، في ذلك اليوم الذي أصبح آخر أيام حياتي الطبيعية، جلستُ إلى مكتبي في شركة صغيرة لتكنولوجيا المعلومات في بريتوريا العاصمة الإدارية لجنوب أفريقا، وتظاهرتُ بأني أعمل بينما كنت أكتب مقالا قصيرا للجارديان موضوعه لماذا يجب أن تؤخذ الثورة المصرية على محمل الجد أو على الأقل هذا ما أتذكره عن ذلك المقال.

 لا أستطيع استعادة ذلك المقال الآن آخر مرة أتيح لي فيها استخدام الإنترنت كانت منذ ما يربو على عام في مصر، غير مسموح للسجناء حتى بالمكالمات الهاتفية لكنني لن أشكو على الأقل أنا أرى أسرتي مرتين أو ثلاثة مرات شهريا السجناء السياسيين لدينا (في الأغلب الإسلاميين ) لا يُسمح لهم بالزيارات مطلقا في ذلك اليوم منذ خمس سنين مضت، خضّتُ لأول مرة معركة تتعلق بالجزء التمهيدي من الثورة.. المعركة التي استهلكتني حتى النخاع لمدة أربع سنوات لكني حينها لم أكن على يقين بأن الثورة ستحدث في مصر؛ لقد خشيت أن تذهب أدراج الرياح بمجرد أن أكتب عن أمل جديد عن ميلاد فكرة وحدوية عربية شابة تستمد جذورها من السعي إلى الكرامة والعدالة..

لقد استغرقني الأمر ليوم آخر حتى بدأت أتقبل أنها كانت حقيقة، وثلاثة أيام أخرى حتى أطير عائدا للقاهرة لأنضم لميدان التحرير لقد انتقلت من التساؤل حول الارتياب بخصوص جوهر الانتفاضة إلى القلق بخصوص وصولي متأخرا مُضيِّعًا على نفسي ذلك الحدث الجلل بعد سقوط حسني مبارك، اكتسبت المعركة كثيرا من الأهمية أُجْبِرَت السُّلطة على التفاوض مع الثورة بينما كانت تحاول احتواءها بالتحكم في مسار الأحداث لقد وضحنا لماذا كان علينا أن نستمر في التظاهر، ولما تظاهرنا طوال الوقت فعلا هل الأطفال الذين ألقوا الحجارة باتجاه رجال الشرطة ثوار أم مخربون؟ هل ينبغي اعتبار السجناء الذين ماتوا في أثناء اقتحام السجون شهداء للثورة أم لا؟ ما هو دور العسكر في نظام مبارك؟ هل ينبغي أن يظل التعليم مجانيا في الجامعات الحكومية؟ هل نحتاج دستورا جديدا؟ ولو احتجنا له، من يكتبه؟ وهكذا.

كتبت وكتبت وكتبت بالعربية في الأغلب ومعظم ما كتبت كان على وسائل التواصل الاجتماعي لكني كتبت في بعض الأحيان لصحيفة قومية يومية كنت أتكلم لأمثِّل الثوار بالأساس، وبمرور الوقت صار صوتي حَذِرًا: لقد تمحورت تيمات كتابتي حول كم كانت اللحظة الثورية هشة، وكم كان موقفنا كثوار متداعيا ومع ذلك، لم أستطع أن أنفض عني الشعور الصّرف بالأمل والاستطاعة رغم أن انتكاسات أحلامنا استمرت في التفاقم. الناس يتحدثون عن حاجز الخوف الذي كسرته الثورة.

لكنه بالنسبة لي ، كان دوما أشبه بحاجز اليأس الذي ربما بمجرد أن يُزال، فإن الخوف والمذابح والسجون لن يعودوا أبدا لقد اقترفتُ كل الأشياء الغبية التي يرتكبها الثوار مفرطو التفاؤل: لقد انتقلت للمعيشة في مصر بصفة دائمة، أنجبت طفلا، دشنت بداية، انخرطت في مجموعة من المبادرات تهدف إلى المزيد من نشر الديمقراطية اللامركزية والتشاركية، انتهكتُ كل قانون وحشيّ، وكل طابو عفا عليه الزمن، مشيتُ إلى السجن مبتسما، وتبخترتُ وأنا خارج منه منتصرا. في 2013، بدأنا نخسر السجال السياسي بسبب الاستقطاب السُّمي بين الاتجاه المدني زائف الليبرالية سريع العسكرة والاتجاه الاسلامي ضاري الطائفية والغارق في البارانويا.

كل ما أتذكره عن 2013 هو كيف صِحتُ صارخا بصوت مجلجل: "إن الطاعون في بيتيْكما". من قبيل التذمر والمليودرامية أن نشكو من لعنة كاساندرا التي تحذر الجميع من النيران التي على وشك التهامهم لكن لا أحد يستمع إليها. وبينما غلبت على الشوارع مظاهر سباق رفع صور رجال الشرطة بدلا من ضحاياهم، ضجَّت الاحتجاجات السلمية بأناشيد ضد الشيعة ومؤامرات الأقباط المزدهرة، وكلماتي فقدت تأثيرها ومع ذلك فهي مستمرة في الانثيال مني. مازال لدي صوت حتى لو توجَّه إلى حفنة من المستمعين.  

حينها قررت الحكومة أن تنهي الصراع بارتكاب أول جريمة ضد الإنسانية في تاريخ الجمهورية عادت حواجز الخوف واليأس للوجود بعد مذبحة رابعة، وبدأت معركة جديدة وهي حمل اللاإسلاميين على قبول حدوث المذبحة بغرض رفض العنف المرتكب باسمهم. عُدتُ للسجن مُجددا بعد ثلاثة أشهر من المذبحة، واكتسب كلامي دورا جديدا.

 لقد دعوت الثوار للاعتراف بالهزيمة، وبأن يتخلوا عن التفاؤل الذي أصبح خطرا لأنه يشجعنا على أن نختار الانحياز لأحد جانبين: الانتصار العسكري الاستعراضي أو الإصرار غير الشعبي وغير العملي على إكمال تغيير النظام لقد وثّقت الهزيمة لأن لغة الثورة المميزة تبددت منا، وتم استبدالها بكوكتيل من لغة الوطنية والقومية والشمولية وما بعد الاستعمارية صاغها كلا الفريقين المتناحرين واستخدمها الجميع لغزل خيوط المؤامرة المتشابكة ونشر البارانويا في بواكير 2014، كان الأمر جدليا مازال بخصوص حثّ الثوار على المشاركة في حملات حقوق الإنسان المقصورة على إبطال قانون التظاهر وإطلاق سراح المساجين السياسيين الغالبية مازالوا يعتقدون بأن الثورة كانت منتصرة (بتعريف الانتصار طبقا لهزيمة أو انتصار الإخوان المسلمين) – الفكرة هنا كانت رفض الجميع لكون حالة الطوارئ وضعا طبيعيا جديدا.

اليوم يبدو وكأننا انتصرنا في السجال. بينما الحكومة مازال لديها داعميها فإن أعدادهم تتناقص سريعا، وخصوصا من الشباب لم يعد معظم الناس يتجادلون حول طبيعة الأحداث التي حدثت في صيف 2013 جدل ما حدث من عزل مرسي في مقابل الثورة أصبح عتيقا حتى مناصري السيسي لا يعتقدون حقيقة بأنهم سينعمون بالرفاهية قريبا الأصعب مما سبق هو أن تزن التعاطف بين مناصري الإسلاميين: التعاطف مع مأزقهم يتعاظم بالتأكيد لكن الإيمان بقدرتهم على تنظيم جبهة موحدة بفعالية في مواجهة النظام ربما يكون ضئيلا. اليأس يهيمن. لقد أمضيت معظم أيام 2014 في السجن، مع هذا مازال لدي الكثير لأقوله. تناقص جمهوري كثيرا، ورسالتي لا تتعلق بالأمل، وحاليا من الضروري أن أذكّر الناس بأنه حتى بعد الاعتراف بهزيمة الثورة، فإنه من الممكن أن نستمر في المقاومة، ما يعني أن العودة إلى الهامش الذي قاتلنا منه في أثناء حكم مبارك كان مقبولا طالما ظللنا نصارع من أجل حقوق الإنسان الأساسية. لكنه وبحلول أوائل عام 2015 وبينما استمعت إلى محاكمتي، لم يبق لدي ما يقال للناس. لم أستطع إلا أن أكتب الرسائل الشخصية.

مَلَّت الثورة ومصر نفسها بالفعل حتى من تلك الرسائل، وبحلول خريف 2015، نضب معين كلماتي الشخصية تماما لقد مرت شهور منذ أن كتبت آخر رسالة، وانقضى أكثر من عام على كتابتي لآخر مقال لي. ليس لدي شيء لأقوله: لا آمال، لا أحلام، لا مخاوف، لا محاذير، لا رؤى، لا شيء.. لا شيء مطلقا. لقد حاولت أن أتذكر ما كتبته للجارديان منذ خمس سنوات مضت حينما عشت آخر أيام حياتي الطبيعية.

 إني أحاول أن أتخيل من قرأوا ذلك المقال، وأي تأثير كان له عليهم. أحاول أن أتذكر كيف كانت الحياة حينما كان الغدّ يبدو مفتوحا على المُمْكِنات، وحينما بدا أن كلماتي لها فعالية التأثير (ولو قليلا فقط) على الصورة التي يمكن أن يبدو عليها ذلك الغد حقيقة لا أستطيع تذكر ذلك.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل