المحتوى الرئيسى

إنها مؤامرة.. يا هذا

01/23 23:46

يعتقد مرتزقة «25 يناير» أننى أكرهها ولا أعترف بها وأراها جزءاً من مؤامرة كونية حقيرة يسمونها «الربيع العربى».. لأننى من «أبناء مبارك» الذين أكلوا على موائده، ولحم أكتافهم من خيره!. لن يضيرنى، ولم أكن لأخجل من إعلان انتمائى لمبارك والتباهى بأننى «ابن عصره وأوانه»، وفى تاريخ الرجل ما يشفع له: «اللى يشوف بلوة مرسى تهون عليه بلوة مبارك»، فكل أخطاء مبارك تهون إلى جوار حقيقة أن «مرسى أول رئيس مدنى منتخب.. خائن». لكننى لست كذلك: لا كنت ولا سأكون، والشواهد كثيرة، ومثبتة بسلسلة مقالات كتبتها فى جريدة «المصرى اليوم»، بدءاً من العام 2006 وحتى اندلاع المظاهرات فى ذلك اليوم المشئوم. كتبت مهاجماً مبارك بشكل شخصى، ومهاجماً نظام حكمه ورؤوس هذا النظام، وكان خطابى فى هذه المقالات سافراً ومباشراً وعدائياً إلى حد أننى كثيراً ما كنت أنام خائفاً، موسوساً، بينما كان هؤلاء المرتزقة يتسكعون فى شوارع وحوارى القاهرة، أو يقزقزون حكاياتهم التافهة وأوهامهم الثورية على مقاهى وسط البلد، أو يتدربون فى صربيا وأمريكا اللاتينية على إسقاط الدولة!. لم يكن لى مغنم شخصى: لا ساومت، ولا «لعبت» بذيلى. لا نفخت جيباً ولا صعدت سلماً. كنت فقط، ومن موقعى ككاتب صغير، أجتهد مدافعاً عن البلد الذى أتشرف بالانتماء إليه، وعن المواطن الذى أحمل جينات فقره وصبره وخياله المبدع. لم أترك لمرتزقة 25 يناير ثغرة يهاجموننى منها، ولم يعثروا فى سيرتى (المهنية والشخصية) على شاردة أو واردة يتكئون عليها حين هاجمت «ثورتهم المجيدة» وأسهبت فى فضحها وفضحهم، وكان بينهم من يهدد بمقاضاتى ويتوعدنى بالسجن والملاحقة، لكن أحداً منهم لم يجرؤ على ذلك.. وهو ما كان يثبت لى دائماً أننى على صواب، وأنهم على خطأ. ولأنهم مغرضون ومزيفون وأصحاب أجندات، وإناؤهم ينضح بما فيهم، انتابتهم حيرة وتملكهم غيظ: كيف تهاجم مبارك.. وتهاجم الثورة التى أطاحت بمبارك فى الوقت نفسه؟!. وكانت إجابتى: «مصر». كيف تشيد بشباب هذه الثورة فى أيامها الأولى ثم تنقلب عليها وعليهم بعد ذلك: تصفها بأنها «مؤامرة»، وتصفهم بأنهم «مرتزقة»؟!. وكانت إجابتى: «مصر». هاجمت مبارك ونظامه لأن الفساد (السياسى والاقتصادى).. «أصبح للركب» كما قال رجله القوى زكريا عزمى، ولأننى تصورت أن مصر ذاهبة إلى مجهول. وهاجمت «25 يناير» ومرتزقتها لأن الأيام أثبتت لى ولكثيرين غيرى، وبأسرع مما ظن أكثرنا تشاؤماً، أنها مؤامرة.. صوتاً وفكراً وصورة.

فى الأيام الأولى لـ«25 يناير»، عندما كنت خارجاً من يأس وإحباط ثلاثين عاماً، كتبت:

(كان زملاء وأصدقاء وقراء عاديون يسألوننى: لماذا لم تعد تكتب؟. فأقول: لا أجد موضوعاً «يستفزنى». ثم إننى أصبحت مقتنعاً تماماً بأن السمكة تفسد من رأسها. أصبحت مقتنعاً بأن إصلاح ماسورة مجارى فى نجع صغير على حافة جغرافية مصر لا بد أن يبدأ بإزاحة حسنى مبارك واقتلاع نظامه، وكنت أندهش لأن 99% من مقالات الرأى تتجاهل فساد الجذر وتبحث فى فساد الفروع. كنت أنظر فى وجوه المصريين فأرى صور «موتى» تتعقب نعوشاً خاوية، ثم ما إن يصطدم كتف أحدهم بكتف الآخر حتى يندلع الشر فى عينيه ويخرج أسوأ ما فيه. كنت أراقب وأترقب ولا أرى أملاً أو جدوى من الكتابة بعد أن تبين لى أننا نكتب لندخل «مداراً طبقياً» جديداً: نحمل فقراءنا على أكتافنا فى البداية، ونضغط بهم على نخبة الحكم (سياسيون أو رجال أعمال أو كلاهما)، ثم نساومهم، ثم نبتزهم، ثم نرفع الغطاء لكى لا ينفجروا فى وجوهنا. كنت أتحسر وأنا أرى نظام حسنى مبارك «يشفط» نخاع المصريين وهم لا يُحركون ساكناً. كنت أقشعر وأتساءل فى أسى: متى يثور المصريون، وماذا لديهم ليخسروه؟).

وكتبت، عندما كنت مخدوعاً ككثيرين غيرى:

(كانت أياماً مشهودة. الموت يتفشى بين حشود المتظاهرين. من لم يقضِ قنصاً دهسته سيارة. مئات العيون والصدور فُقئت وانتهكت، لكن الغناء لا يتزعزع: «الشعب يريد إسقاط النظام». المشاعر تتبدل بين ساعة وأخرى: من ذهول إلى فرح، ومن ترقب إلى إحباط، ومن زهو إلى شك.. وما من يوم يمر بلا بكاء. بكينا كثيراً، نحن الجالسون فى بيوتنا نربى أبناءنا ونحمى مكتسباتنا ونتفرج على «صورة الثورة» من عين سحرية فى باب بـ«ست سكات» وشنكل بسلسلة وثلاثة ترابيس. بكينا بحرقة وحرية كأننا نستعيد عزيزاً أخذوه منا عنوة وأمام أعيننا. كنت أبكى. ومن وراء غلالة الدموع أراقب الحشد فى الميدان فلا أرى أحداً بعينه، ولا أسمع أحداً بعينه. تتسع زاوية الكاميرا فتبدو تلك الألوف المؤلفة كجدارية، يتلاصق حصاها (أجساد البشر) وقد اصطف دوائر غير مكتملة، تسدها حيناً ضمادة جرح، وحيناً يسدها غناء المتظاهرين.. وفى المركز دائماً رهط يصلى. وبعيداً، إنما بحذر، تستقر دبابة مثل قط أليف يقاوم النعاس، ويتمسح فى ابتسامة تحت خوذة. وإذ تضيق الزاوية تسفر الوجوه عن هوية واحدة، لا مكان فيها لدين أو مذهب أو طائفة، ولا صوت يعلو فوق صوت «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام»).

وكتبت من بين أنقاض، وأدخنة الخراب تحجب الرؤية:

(مصر تحترق ونحن نمصمص ونجز على أسناننا ولا نفعل شيئاً. مصر تحترق والمصريون غارقون فى عسل الثورة. كراهيتنا لنظام مبارك تمنعنا من القول بأن هذه الثورة فشلت. مصر تحترق أمام عيوننا ولا أحد فينا قادر أو راغب أو مهتم بإطفائها. كل واحد مشغول بـ«حصته» من الكعكة.

وحين أفقت من غيبوبتى، أخذت نفساً عميقاً وكتبت بلا مواربة:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل