المحتوى الرئيسى

عزيز بو طلحة يكتب: الربيع التربوي | ساسة بوست

01/21 23:18

منذ 15 دقيقة، 22 يناير,2016

استهلكت المواضيع السياسية والدينية كثيرا من جهد المثقفين من كل الأجيال، ولم تحظ المواضيع ذات الطبيعة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية باهتمام واسع، ولم تأخد حيزا مهما في كثير من المواقع الإعلامية والمتلفزة والمعرفية، ربما يرجع ذلك إلى ما تعانيه المنطقة العربية من تخمة صراعات سياسية وحروب دينية طائفية، ومن صعود للحركات السلفية ذات الحمولة الجهادية وجذبها للشباب، وما تبع ذلك من تغطية إعلامية في كثير من الأحيان مُبالغ فيه، وإن كنا لا نشك في خطر هذه الجماعات التي لا تميز بين الأخضر واليابس لاعتمادها على تدين سطحي مشبع بالتقليد والجمود وانفصالها عن الواقع وتقوقعها على نفسها بعيدة عن العالم، رغم إعالتها من هذا العالم الذي ترفضه لتناقض في بناء هذه الحركات التي هي  عبارة عن نتيجة أخطاء التدين التاريخي، وتراكم فقهي سلطاني وإقصائي.

لم يحظ مجال التربية والتعليم باهتمام واسع، وأُهمل، مما جعل حركية الربيع العربي تعرف توقفا ونزيفا في وسط الطريق، ولم تنتبه النخبة المثقفة إلى هذا العطب الذي جعل كل مركبات الربيع تتوقف، فسلوك النخبة التي أنساها الفرح عن متابعة النضال ومسايرة طموحات الشعوب، وعدم الركون إلى الكرسي الذي يغري، حشرت نفسها في الزاوية الضيقة القائمة، ولم تقو على مقاومة فيروسات الماضي الكئيب التي لم تغادر الغرف بعد هبوب رياح الربيع المعتدلة.

شبابنا الذي ضحى من أجل غد أفضل، وإن كانت تعوزه تربية ديمقراطية ـ مع كامل الأسف ـ لم يجدها في المجتمع العربي، حتى يتربى على مبادئ العطاء والتناوب وتحمل المسئولية وتداول السلطة والرأي، وجد نفسه في صراع مع النخبة المتخمة بجروح الفشل والمكر الذي عاشته في ماضيها والحرمان الذي عانته، قاد هذا الصراع بين الأجيال الشعوب الى الهاوية التي لم يستطع لا الشباب، ولا الكهول حل لغزه وشفرتها وتفكيك لغتيهما: (الصراع والهاوية).

تجاهل الربيع العربي لدور التعليم والتربية قاد العالم العربي إلى فوضى استغلها البعض ضد البعض، وأعادت المشهد إلى البداية، ومكن الدولة العميقة المتربية على المكر والخديعة، والتي تتصف بالانضباط إلى قواعد السوق والمعاملة الانتفاعية وتبادل المصالح وصونها عوض طبقة الثوار التي لا تنضبط إلى أية قواعد، والتي تتصف بالارتجالية والتهور، وهكذا لم نتفاجأ أن نرى رجال الدولة العميقة ينتصرون على رجال الربيع العربي بفضل التربية (وإن كانت سيئة).

رفع الربيع العربي شعارات براقة فارغة من أية حمولة معرفية أو تربوية؛ لأن التربية هي التي تكون الإنسان الذي يعتبر رأسمال أي تغيير حقيقي يراد له الاستمرارية والديمومة، بل طغت الشعارات السياسية (عيش – حرية – كرامة) والدينية (الإسلام هو الحل) على كل الربيع العربي الذي سرعان ما تحول إلى خريف وحروب بين الفرقاء، وشركاء النضال والثورة، ومضرب مثل للشعوب وإلى ما ستؤول إليه الدول، ومصيرهم إن هم حاولوا التملل قيد أنملة عن مشاريع المسيرين الفاسدين.

كان على الثوار أن يحملوا مطرقة ومجرفة وأن يقوموا بالهدم والبناء في نفس الوقت، ولا يتركوا فجوة بين القول والعمل، بين الهدم والبناء، بين  التعليم والتربية حتى لا يتسرب سوء الأخلاق والمكر والغش والخديعة والمزايدة والطمع والصراع إلى الثورة، وذاك ما حدث، وما ساهم في قتل أحلام الشباب التي قامت على فكرة، على إرادة شخص واحد أرادها دفاعا عن نفسه وتعبيرا عن رفضه لكل ظلم، وأرادها الله أن تعم العالم وأن يُقتص من ظالميه.

إن تفشي الجهل والأمية وسط المجتمع العربي جعل من الثوار مجموعة رعاع لا تختلف أخلاقهم عن أخلاق الرعاع في شيء، مما سهل مهمة إختراقهم وتوجيههم. مباشرة بعد الثورة رفع الشباب عقيرته وأرادوا أن يقبضوا ثمن التضحية، وجعلوا من أنفسهم خُداما عند فئة، وراحوا يتصارعون، وبدلا من إصلاح أصل الأعطاب، راحت جهودهم في محاربة نتائج الأعطاب، ولم تكد تمضي سوى سنة واحدة وانقسم الثوار فيما بينهم.

كان الثوار يعتقدون أن التغيير عملية سهلة، في حين إن ما يهدم في لحظة يحتاج إلى عقد أو عقدين من الزمان حتى تظهر نتائج الثورة، وهذه المدة ضروية لتغيير عقيدة الأمة والشعب وترسيخها لدى الأطفال ليشبوا عليها: ممارسة وسلوكا وتعليما، وهذا ما كان ينقص الثوار من كل الأجيال.

بدون التربية والتعليم سيكون مصير أي تغيير الفشل، وفي أحسن الأحوال ـ إن نجح ـ ستكون نتائجه عكسية، في خدمة الفساد الذي نهرب منه. “حيث يعد العنصر البشري العنصر الأساسي والركيزة التي تقوم عليها التنمية في أي بلد، ولا سبيل إلى بناء هذا الإنسان، إلا عن طريق التربية التي تقوم على تطوير الشخصية الإنسانية وإعادة بنائها كما تعمل التربية على إيجاد أنماط من السلوك تناسب التنظيمات الاجتماعية الناشئة عن الأخذ بالأساليب العلمية والتكنولوجية، كما تعيد التربية بناء الآراء والمعتقدات لتواكب التغيرات الاجتماعية الناشئة عن عملية التنمية. ومن هنا يتضح أن الإنسان هو أساس التنمية وأداتها، وهو أيضاً غايتها، وهو في الوقت نفسه محور العملية التربوية” 1.

لن تتحقق أهداف الثورة أو الربيع العربي إلا بإحداث تغييرات في النمط الاقتصادي والاجتماعي والديني والسلوكي. بمعنى إحداث تغيير إيجابي في السلوكيات والطاقة الوظيفية والعملية، وهنا يأتي دور التعليم لإحداث هذا التغيير المنشود. ولعل ما جاء في بعض من آيات القرآن الكريم ما يؤكد بأن تغيير أحوال الناس مرتبط تماما بتغيير ما بأنفسهم، قال تعالى: (إنَّ الله لا يُغَيِّر ما بِقوْمٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بِأنفُسِهِم).

فتغيير ما في النفوس تمهيد ضروري وأساسي لتغيير السلوكيات نحو الأفضل، وهذا لن يتم إلا عن طريق منظومة التربية والتعليم. وفاقد الشيء لا يعطيه.

كل إناء بما فيه ينضح، فالعنف والتطرف والحرب التي نراها كان في كأس الثورة، وهذا ما أفزع العقلاء والدولة العميقة والبسطاء وجمع شملهم على محاربة الثورة، التي تأكل أبناءها إن لم تكن محصنة ومبنية على قواعد متينة تفتقر إليها بكل صراحة ثورتنا العربية المجيدة، وجعلها تفقد مولودها الأول، ونتمنى أن نأخد الدرس بجد، ونتعلم ونتربى من الماضي.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل