المحتوى الرئيسى

فرانسوا باسيلي يكتب في ذكرى 25 يناير: الثورة علي الطريقة المصرية

01/21 11:17

ومصر مقبلة علي الإحتفال بخمس سنوات علي ثورة 25 يناير، وفي ظل ما يبدو أنها حملة رجعية من قبل البعض لتزوير التاريخ وتشويه هذه الثورة المصرية الهائلة، أري من الضروري إستعادة بعض خصائص وتجليات تلك الثورة حتي لا نترك للمزورين والمتنكرين والمتناسين تاريخ مصر المعاصر يلعبون به وفيه، ومنهم من راح يروج لنظرية المؤامرة خارج إطار فهمها وخارج إمكاناتها لكي يشوه بها شباب هذه الثورة بلا إثباتات قضائية للتهم البشعة المرسلة، مما يحتاج إلي مقال خاص بنظرية المؤامرة بالذات التي يلجأ إليها هؤلاء كما لجأ إليها كل المتكاسلين والمزورين من قبلهم، ولكن فلنحدق هنا أولاً في طبيعة هذه الثورة وكيف تجلت فيها العبقرية المصرية بشكل فذ وهائل وتاريخي.

 في الخامس والعشرين من يناير 2011 وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أهدم قواعد الظلم وحدي.. هكذا راحت مصر الجديدة تتحدث عن نفسها.. هذه المرة على لسان شباب جدد لم يعرف أحد في نظام مبارك ولا خارجه أنهم موجودون، فكانت صدمة هائلة لهم أن الجينات الحضارية بالغة القدم ذات الطاقة الخلاقة الهائلة ما تزال حية في دماء الشباب المصري الأصيل الذي يحمل كل ملامح وموروثات وطاقات عبقرية الشخصية المصرية الحميمة القديمة المتجددة المتأججة.

وقد وقف هؤلاء الشباب على نفس الأرض في ميدان التحرير في قلب القاهرة، في قلب ممفيس على ضفاف نفس النيل، حيث قام أجدادهم ببناء أول حضارة في تاريخ البشرية، هم نفس المصريين الذين قادهم الملك مينا موحد القطرين، قبل خمسة آلاف ومئتي سنة، ليؤسس بهم أول دولة على الأرض، فيما كان بقية خلق الله في أركان المعمورة يعيشون قبائل وجماعات وعشائر هائمة متنقلة متحاربة تقتل وتحرق ولا تؤسس حضارة ولا مدنية ولا علما ولا فنا، ومازالت مجتمعات محيطة بمصر تفعل هذا اليوم،  واستمرت هذه الدولة المصرية قائمة على أرض مصر تضبط إيقاع البشر والحجر والنهر والزرع، ناهضة حينا ومنحدرة حينا- حرة حينا ومستعبدة حينا، محتضنة ومستوعبة وهاضمة لكل من حضر إليها لاجئا أو غازيا، وتتوالى على مصر عصور المجد وعصور الانحطاط، حتى تصل بنا إلى آخر الفراعين الذي ظل يحكم مصر ثلاثين عاما وكان يريد المزيد له ولأولاده من بعده، في عصر من عصور الانحطاط هو الأسوأ منذ المماليك بلا شك. فإذا بشباب مصر يثورون ثورة أدهشت العالم أجمع، بل ادهشت آباءهم أنفسهم. وكما أدهش المصريون القدماء العالم حين ابتكروا فكرة الدولة ووضعوا قواعدها ومدوا على الأرض سطوتها ومجدها - أدهش أحفادهم العالم حين ابتكروا أساليب جديدة لمعارضة الدولة والصمود أمام سطوتها وتفكيك آلياتها القمعية الرهيبة وأجهزة بطشها الجبارة، وقد فعلوا هذا بشكل سلمي سحري في بساطته وبهائه وفي جماله وعذوبته "وخفة دمه."

لقد ثار المصريون بطريقة مصرية خالصة لا يثور بمثلها بشر آخرون، نعم هم تبعوا إخوانهم شباب تونس الرائع، الذين كانت له الريادة في الثورة الشعبية ضد طاغية عربى، اضطروه إلى الفرار، ولكن المصريين الذين استخدموا نفس الفيس بوك والتويتر اللذين استخدمهما التونسيون، سرعان ما منحوا ثورتهم طابعها المصري الخالص، وابتكروا وأبدعوا أساليب وآليات حققت لهم النصر الهائل وشدت أنظار العالم إليهم في انبهار وإعجاب، ويمكن تلخيص خصائص الثورة على الطريقة المصرية في التالي. .

الصورة المدهشة الأوسع لهذه الثورة أنها كانت حضارية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد كانت منذ أول يوم ـ الخامس والعشرين من يناير ـ سلمية، كما راح يهتف المتظاهرون كلما حاول أحد أن يلجأ إلى أي نوع من أنواع العنف، ولو كان يضرب بكفه على سقف سيارة، ورأينا في يوم الثورة الأول كيف سار مئات الآلاف في مسيرات سلمية بديعة في القاهرة والإسكندرية وعدد من المحافظات الأخرى، رفعوا مطالب مشروعة ومهذبة لا تهين أحدا، منها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، ولكن النظام الذي ارتاع لخروج هذا العدد الهائل من الشباب في أنحاء متعددة من مصر فقد اتزانه وبدأ في استعمال الخشونة غير المبررة مع جماعات مسالمة لا تفعل سوى المسير والهتاف ورفع الأعلام واللافتات، بل حمل الكثير من الشباب مئات من الورود راحوا يقدمونها لرجال الأمن، ورأينا صورا لبعضهم يحتضنون الجنود، ولكن جهاز أمن الرئيس والنظام - لجأ إلى ما اعتاده من الشراسة والعنف ضد المسيرات وصلت إلى حد الانطلاق بسيارات الأمن هائلة الحجم بسرعة كبيرة لدهس المواطنين، وصاحب هذا استخدام الرصاص المطاطي، ثم الرصاص الحي، وهو ما أدى إلى استشهاد المئات من الشباب علي الأخص رغم إستشهاد بعض كبار السن أيضاً، كما إستشهد بعض رجال الأمن المركزي وخاصة ممن كانوا في المدرعات المسرعة التي أصابت وقتلت الثوار خطأ أوعمداً فللثورات دائماً ضحايا من جميع الأطراف معظمهم أبرياء لأن الجاني الحقيقي هو النظام الفاسد الذي دفع بالناس إلي الثورة.

وتظهر الصور والفيديوهات لقطات مدهشة تسجل شجاعة وبسالة وجسارة شباب مصر، موجودة الآن على اليوتيوب، لكي  تكون وثيقة حية تشهد على لحظة باهرة من تاريخ مصر المدهش. أما أكثر الدلائل على مدى تحضر هذه الثورة، فنجده في ذلك المشهد الفريد في اليوم التالي لإزاحة مبارك واحتفال الثوار بانتصارهم التاريخي، ثم اختتام اليوم بدعوة الثوار بعضهم لبعض أن يعودوا غدا لميدان التحرير للقيام بتنظيفه وغسله وإعادته إلى حالة أجمل وأنظف مما كان عليها، وبهذا يشهد العالم بأسره أول ثورة في التاريخ "تنظف وراءها" بعد يوم واحد من انتصارها.

من اهم خصال هذه الثورة المصرية الخالصة مدى انعكاس مفهوم وواقع التعددية في القائمين بها، فقد بدأها الشباب من كافة الأطياف، بلا قائد وبلا مجلس قيادة، ولكن بعشرات من القيادات الشبابية ومعها الآلاف من الشباب المتحمس الواعي الفاعل الجسور. وجاء معظم هؤلاء من الطبقة الوسطى المتعلمة، بل والمثقفة، شبابا وشابات، بلا آيديولوجيات حادة او متطرفة يمينا أو يسارا، بلا انتماء لأحزاب أو تيارات أو جماعات، تجمعهم فقط رغبة عارمة للانتفاض لكرامتهم ولاسقاط الواقع الفاسد الذي رزح فيه أباؤهم ثلاثين عاما، هي كل عمر هؤلاء الشباب، الذين سرعان ما عرف ﺑ"ورد الجناين" وهو تعبير مصري شعبي بديع ومدغدغ لأجمل المشاعر.

كان الخطاب الثوري خطابا مدنيا وطنيا بامتياز، لم نسمع فيه الشعارات البائسة أو المطالب الطائفية أو الفئوية التي أفرزها النظام الساقط، لم ترتفع شعارات دينية أو يسارية أو يمينية أو حزبية، ارتفعت فقط شعارات تطلب الحرية والكرامة والعدالة، المبادئ الإنسانية الشاملة التي يطالب بها الشباب دائما في كل ثورات العالم وفي مختلف بلدانه، اللافت والجميل أن هؤلاء الشباب خرجوا غير عابئين بمواقف ونداءات وتعليمات كافة القيادات "الحكيمة" والقديمة والمترهلة، سواء كانت سياسية أو دينية، فقد رأينا القيادات الدينية الرسمية - إسلامية ومسيحية- تأخذ جانب النظام حتى وهو يتهاوى، في استمرار لما تعودت عليه من ممارسات قديمة كانت تخضع معها لرغبات ونزوات وضغوطات النظام، بدلا من أن تقف الموقف المضاد الشجاع الذي تلزمها به تعاليم الدين الذي تتحدث باسمه، ولكن الشباب بكل أطيافه ـ لحسن الحظ ولحسن الوعي ولنقاء الضمير- قرر عدم الامتثال لها، وخرجوا بمئات الآلاف من دون رعاية أو حماية القيادات "الحكيمة" لتثبت للشعب والتاريخ أنها أكثر حكمة بكثير وأنها الأكثر وعيا والأصدق مع نفسها ومع ربها، وعندما كلل لها النصر أو كاد، هرعت هذه القيادات والجماعات الدينية وراءها لتحصد بعض ما حققه الشباب المتمرد، فإذا بها تغير من موقفها وتعكس نداءاتها، ولكن لا قيمة لمواقف تأتي بعد زوال الخطر- وإنما تقاس مواقف الرجال والنساء حينما يختارون الحق ويعلنونه في اللحظات الخطرة التي قد يدفعون فيها ثمنا باهظا لمواقفهم هذه.

وقد جاء هذا لصالح مصر ولصالح هؤلاء الشباب ـ فلابد أن تكون ثورتهم هذه ليست فقط ضد النظام السياسي الفاسد البليد الذي كان يجثم فوق صدورهم، ولكن ليعلنوا بها أيضا تحررهم من قبضة القيادات والتيارات الدينية التي كانت تتسلط عليهم تسلطا لا حق لها فيه - وكان سلطانها قد تغول وتوغل في كافة مناحي الحياة المدنية، فأدخل الكثيرين من البسطاء في غيبوبة من الدروشة الدينية تقاعسوا معها عن العمل الفعال الجاد، وارتضوا فيها بالطغيان والفساد حتى ثار الشباب لكي يخلص نفسه ويخلصهم من حالة العبودية السياسية والدينية معا، قائلين لقد خلقنا الله أحرارا فلن نخضع أو نستعبد بعد اليوم. وهكذا شاهدنا صورا بديعة لشباب مسلمين وأقباط يدا بيد يدافعون معا عن مطالبهم المشروعة ويستشهدون معا برصاص البطش والطغيان، ويحتفلون ويترنمون ويصلون معا في نفس المكان، خلال الثورة وبعد انتصارها في الميدان الذي جمعهم ووحدهم وحررهم ومنحهم هويتهم الواحدة الواعدة في انهم جميعا مصريون قبل أي شيء آخر.

وقد أشترك الشباب ولحق به آخرون من كافة اطياف وفئات المجتمع في الثورة ولعل المظاهرة الوحيدة التي كانت لها طابع ديني قام بها الإخوان عندما استدعوا شيخهم القرضاوي إلي ميدان التحرير ليخطب خطبة اخوانية تماماً بعد إقصاء معظم الشباب الثوري الأصلي من المنصة، وقام بها أيضاً التيار السلفي في الإسكندرية في أحد الأيام ـ بينما استمرت كافة المظاهرات في الإسكندرية والقاهرة والسويس والمحلة والمنصورة وغيرها في طابعها المدني العام الجامع لمختلف الطوائف والاتجاهات، وهكذا أماط التيار الديني المتشدد من اخوان وسلفيين اللثام عن نيته السيئة وطبيعته الإقصائية الطائفية العنصرية التي اتضحت بعض ذلك بشكل أقوي في إنتخابات مجلس الشعب ثم في حكم الاخوان لمدة عام من الجهل والفشل التام.

كما لم يعرف التاريخ ثوارا قاموا بتنظيف وغسل ميادين ثورتهم، لم يعرف أيضا ثوارا كالمصريين في مبلغ المرح والفكاهة وخفة الدم التي لم يكن يمكنهم التخلي عنها حتى وهم وسط الميدان الذي تساقطت عليهم فيه قنابل المولوتوف والحجارة والزجاج، وكان يتساقط في قلبه وعلى مداخله الشهداء والجرحى بالمئات، لقد شاهد كل من كان من حظ عمره أن يدخل ميدان التحرير في أيام الثورة، وحتى بعد انتصارها، مشاهد مدهشة لثوار من نوع جديد، ثوار تجتمع في شخصيتهم خصال الشجاعة إلى حد التهور والبسالة في التصدي للظلم والطغيان - والوعي الشديد بشرعية مطالبهم وعدم شرعية النظام المزور الذي يحرمهم منها، مع قدر كبير من الدفء الإنساني وحب الحياة والمرح وخفة الدم، والقدرة على اقتناص المفارقة الطريفة وسط المخاطر والأهوال، والضحك من القلب في عمق الدموع، شاهدنا ظرفاء مثل الشاب الجالس على الارض تعبا وبيده لوحة طويلة عليها "إرحل بقى.. إيدى وجعتنى" وعشرات مثل هذه اللافتات الاحتجاجية التي تمزج المرارة بالمرح، وشاهدنا المنشدين يرددون أناشيد "بلادي بلادي" وأغانى ثورة 52 لعبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب، وشاهدنا آخرين يرقصون ويدورون حول بعضهم للتدفئة في ليل القاهرة القارص.

وبعد رحيل مبارك انطلقت سيول من النكات على الفيس بوك والإيميل مما ذكرني بالعدد الهائل من النكات التي أطلقها الشعب المصري بعد هزيمة 67 مباشرة في أكبر عملية لنقد الذات والتطهير النفسي الجماعي عرفها التاريخ ـ ولعلها كانت ضرورية لكي يتمكن الشعب المنكسر من أن ينتهي من محاسبة النفس بأقصى سرعة لينصرف للاستعداد لحرب الاستنزاف ثم العبور العظيم في 73. نجد هنا نفس الظاهرة، نجد شعبا بأكمله ينخرط في التنكيت والاستظراف الذي يستخدمه للنقد والتطهير والترويح عن النفس لكي يمكنه الاستمرار في تحمل الأطوار التالية من المعركة، إنها طريقة المصريين العبقرية التي تعينهم على التحمل والتجمل والصبر وأيضا الثورة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل