المحتوى الرئيسى

ناهد صلاح تكتب: جسور نهاوند

01/18 10:39

كانت تحاول أن تروض صوتاً بداخلها يهتف بحماس، بالضبط كما كانت تهتف مع المحيطين بها، صوت يذكرها بالتاريخ أرادته أن يكون مرشدها وهي تخترق الزحام وتقترب من الجسر المفتوح على الحلم؛ كوبري قصر النيل، أول كوبري أنشيء في مصر للعبور على النيل؛ وأول كوبري تلقى فرحها وغضبها وتأويلات خطى الأحبة  فوق جسده الممتد من القاهرة للجزيرة كعتبة للعبور إلى طريق الأمان أو المتاهة، وأسوده البرونزية الأربعة شاهدة على القصص والأفعال. الصوت بداخلها مشاكساً كان يجعلها تتلفت كأن هناك خللاً يحدث في المعادلة، فتتشابك الصور بين ما تعيشه في هذه اللحظة التاريخية؛ في هذا اليوم العنيد الذي بدا كأنه يضع النقاط على الحروف .. يوم الخامس والعشرين من يناير، وبين خيالها الذي ثقِل بالسرد والحكايات ويوميات لا تستريح ولا تتوقف صوب زمان يتغير، وكانت منذ أيام قليلة تتشبث بسور كوبري قصر النيل وتنظر إلى المياه ثم إلى السماء وتتعجب من القاهرة؛ مدينتها الجوزائية مثلها تماماً: تقليدية وتجريدية، بسيطة ومتعجرفة وأقوى من حواديت التاريخ، وتتساءل: ما مقدار سعادة أبو السباع الخديوي اسماعيل حين حاول الوصل بين النصفين؟ .. وكظهور العنقاء أيقظها من شرودها  ذلك الصوت المفاجيء: بن علي هرب من تونس.

وصفت المشهد بمهارة حين حاولت أن تعبر الجسر في الـ 28 من يناير، سلمية شاءت أن تكون ولم تختر درباً بديلاً، لولا سراب الأمل لما مشيت ولا قفزت وسط الآلاف الذين تراصوا على الجسر تحت وابل الرصاص وقنابل الغاز وسيل المياه من الخراطيم الضخمة، إنها اللحظة التي تفيض أكثر بالحياة وتطعن الموت، اللحظة التي استعادتها عشرات المرات لتحمي إرادتها في كل المليونيات اللاحقة وهي تتابع تهليل الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي لصلاة المسلمين يحرسها المسيحيون. والآن مثل ورقة احترقت عادت تلتصق بسور الجسر وتزوغ نظرتها في دوائر صنعتها رمية حجر في النيل، لكن النيل ينسى.

وعلى جسر آخر هو كوبري 6 أكتوبر، أطول الجسور في مصر وأفريقيا، ناحية المتحف المصري ومبنى الإذاعة والتليفزيون اصفر وجهها وتسمرت لحظات حين رأت جحافل البشر الهائجة تتقدم تجاه الميدان وعرفت أنه يوم محكوم عليه بالإعدام والخديعة، الهائجون حملوا بيد لافتات كُتب عليها أسماء لأعضاء في البرلمان واليد الأخرى تكسر بلاط الأرصفة وتخلع حجارتها، حركت قدم ثم الأخرى ودحرجت نفسها لتنزل الجسر الذي شاهدت تحته مراسلاً أجنبياً أدركته من ملامحه الشقراء حوصر في دائرة بشرية ونال كل أصناف الركل واللكم وتمزيق الملابس قبل أن يفر هارباً وهو يحتضن كاميرا التصوير كأنه ينجو بذكرى الوجع، وعلى مدد الشوف جِمال وبغال وخيول أكثر هياجاً من البشر، مشهد شحيح الإنسانية والخيال كما لو استل من وديان سحيقة للتاريخ، لم يتريث قلبها غير الحيادي ونزلت عن الجسر تمشي ولا تحذر المشهد المريع حتى توقفت مصعوقة أمام جمل يُسرع في اتجاهها فراحت تتلو الشهادتين على شهيق وزفير حتى جرها شاب انشقت عنه الأرض إلى أول شارع محمود بسيوني ورماها كدمية لا حول لها ولا قوة خلف باب حديدي لعمارة قديمة وسط كومة من النساء والأطفال، وأغلق الباب الحديدي بجنزير ربطه البواب الطيب وهو يشوح بسبابته في وجوهنا المعترضة ويقول بحزم: هسسسسس.

وعلى جسور ماديسون  اشتعلت  فرانشيسكا جونسون (أم ريفية وفية) وروبرت كينكيد (مصور فوتوغرافي)، ميريل ستريب وكلينت ايستوود؛ ونما عشقهما وبوحهما وانسجامهما المدهش في  الفيلم الذي أخرجه كلينت ايستوود وكتب له السيناريو ريتشارد لاجرافينيز عن رواية من تأليف روبرت جيمس والر، جاء الفيلم في وقته متوجهاً إلى عالم احتاج مثل هذه القصة الرقيقة المتصاعدة في 135 دقيقة من الرومانسية التي تثير الخيالي والجنوني فينا حتى يكاد كل واحد ينطق بحماس لقد مررت من هنا، من جسر روزمان المسقف الذي أوصت فرنشيسكا أن ينثر رمادها من فوقه كأنها تفكك كل عقد النقص البشري وتتجلى بجسدها لتحلق في المكان والزمان وتخلق بحضورها قبل غيابها صوراً يتكيء عليها كل المحبين، حتى صار “جسور ماديسون” فيلماً يحرر اللاوعي من معراجه ولازال رغم انتاجه القديم في العام 1995، العام الذي صدر فيه ألبوم “تجيش نعيش لعلي الحجار، ومات فيه كارم محمود ومحمد رضا ومحمد الموجي وأحمد مرعي وعماد عبدالحليم وليلى مراد والشيخ إمام عيسى:

وانا نازل أدلع أملا القلل

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل