المحتوى الرئيسى

تامر وجيه يكتب: تغيير العالم.. الأصولية والمستقبل

01/18 10:19

قلتُ في مقالٍ سابق على هذا الموقع إن “عالمنا المعاصر مريضٌ إلى أبعد الحدود”. فحتى لو تغافلنا عن التدهور الكبير الذي أصاب مؤشرات العدالة الاجتماعية في الأربعين عامًا الأخيرة، وانشغلنا بالتهليل لتراجع نسب الفقر المدقِع في الفترة نفسها، فلن نستطيع إنكار أن “معدلات اللايقين والكراهية يتزايدون بشكل مذهل”. فمن أتعسه حظه بالعيش في دنيا النيوليبرالية الراهنة امتلأ قلبه بالخوف والكراهية: الخوف من الغد بعد أن جمحت الأسواق وانسحبت الدولة وتآكلت شبكات الأمان الاجتماعي التقليدية، والكراهية للآخر بعد أن توحشت الإمبريالية الجديدة مغذية العنصرية والعنصرية المضادة في دورة جهنمية لا تنتهي.

وفي معرض رصدي للأصوات التي تقول إنها تمتلك دواءً للعلّة التي ابتُلي عصرنا بها عددت في مقالي ثلاث مواقف ئيسية: موقف “المحافظين الجدد واليمين المتطرف” الذي يمكن أن نختصر وصفته في أنها “مزيد من الخراء نفسه” (more of the same shit)، وموقف “اليساريين الإصلاحيين الجدد” الذي يقدم وصفة لتحسين الخراء دون المساس بأصله ومنبته (a somewhat better shit)، وموقف “الإسلاميين الداعشيين” الذي يمثل، رغم فلتانه، هامشًا على المتن، والذي يهين طاقة الغضب المقاوم برجعيته التي تعد بصب الخراء نفسه في قنينات جديدة (same shit in new bottles).

أهملت في هذا الرصد، كما هو واضح، المواقف السائدة، لكن المتهالكة، المعبرة عن التيار الرئيسي (mainstream) في مختلف البلدان – مثلًا: اليمين واليسار التقليديين في البلدان الغربية، والإسلاميين المعتدلين والوطنيين الدولتيين في البلدان الإسلامية – على اعتبار أن هذه المواقف تختلف عن المواقف الثلاثة التي وصفتها بأنها “رئيسية” في كونها تعبر عن الوضع الراهن (status quo) أكثر من كونها تطرح مخارجَ، جزئية أو وهمية أو رجعية حتى، لأزمة عالمنا.

أريد هنا أن أكمل ما بدأته في مقالي السابق بطرح بعض الأفكار عن طبيعة وحدود المواقف الرئيسية المذكورة، وعلاقة هذا بإمكانية صياغة موقف آخر محتمل يغرس قدميه في الحاضر، لكنه يتطلع بروحه إلى مستقبل مختلف جذريًا.

تشترك المواقف الرئيسية المذكورة آنفًا في كونها سجينة الحاضر، عاجزة عن مد الجسور إلى المستقبل. بمعنى أو بآخر، هي جميعًا أصولية. لا أقصد، والعياذ بالله، الإيحاء بأن هناك تماثل بين المشاريع السياسية للداعشيين والمحافظين والإصلاحيين. فشتّان الفارق. لكني فقط أتحدث عن درجة من القرابة المنهجية من ناحية أن كلًا منهم يطوف مقبلًا أو خاضعًا، محبًا أو كارهًا، حول “أصل” ما يسعى أن يكون المستقبل على صورته. بتعبير آخر: الجذر المشترك بين ما اسميه أصوليات عصرنا هو إهدار مرجعية المستقبل، سواء باعتبار الماضي مرجعية، أو بالإصرار على استمرار الحاضر إلى الأبد، أو بالقبول المذلّ بهيمنة الحاضر على المستقبل.

داعش طبعًا نموذج لا يُختلف على أصوليته من حيث هي تعتبر الماضي الإسلامي ما قبل الحديث مرجعية وهدف. هذا موقف يأس، ليس فقط من الحداثة، بل من إمكانية تجاوزها، أو حل تناقضاتها، بأفق مفتوح على المستقبل. واليأس هنا ليس حالة وجودية، بل خيار سياسي. الداعشيون أبناء شرعيون للحداثة: شباب من الطبقة الوسطى أو الوسطى الدنيا تحتضن أغلبهم مدن الاغتراب المهولة، من القاهرة إلى كراتشي، أو حتى باريس أو لندن، ثم يفرزهم التعليم الذي لا يفي بوعوده في الصعود الطبقي، فيقذفهم إلى أرصفة البطالة، أو ربما إلى عنصرية المهجر، فيعاندون ظلم المجتمع الرأسمالي الحديث، الساقط في امتحان العدل والحرية، ويرفضون استعلاء المركزية اليوروأمريكية، المعربدة في بغداد وكابول، بالاحتماء بالهوية الرجعية المحافظة، وبالاستقواء بالسيف والسلطوية والطائفية، في محاولة مستحيلة لتشييد مركزية إسلامية ترى الحركة صوب الغد بوصفها استعادة وليست خلقًا: محاولة مرّت كراهيتها – المنطقية والمشروعة – للحاضر عبر الخوف من المستقبل، والرفض الرجعي له، والفشل في رؤية الجسور المدودة إليه، فارتدت إلى الماض الذهبي كملجأ وملاذ.

لكن الضجيج، المفتعل في معظمه، حول الأصولية الداعشية لا ينبغي أن يُنسينا أصولية أخرى أكثر خطرًا: أصولية النيوليبرالية التي يمكن وصفها، عن حق، بأصولية الحاضر مقارنة بأصولية داعش الماضوية. أصولية الحاضر طبعًا لا تحلم باستعادة ماض ذهبي، فالحاضر هو عصرها الذهبي. وهي بالقطع أشد شرًا من أي داعشية. ذلك أنها ليست مقاومة بائسة اختلت بوصلتها فزادت الطين بلة، بل سلطة قاهرة تعبر عن طموحها إلى تأبيد الأمر الواقع بقوة السلاح. المحافظون الجدد هم أصوليو الحاضر الذين ينقشون على راياتهم شعار: “لقد كان هناك تاريخ، ولكن لن يكون هناك تاريخ بعد الآن”. إذ أنهم يعدوننا بأن يوقفوا التاريخ، ليظل عصر انتصار الرأسمالية النيوليبرالية سائدًا إلى الأبد، وليفقد السؤال المعياري (القيمي) عن المستقبل أي معنى. فالنسبة لهم الحاضر هو المستقبل الأبدي، ربما فقط في صورة أشد وطأة (more of the same shit).

أما الإصلاحيون الجدد، فمشكلتهم أكثر تركيبًا. من سوء التقدير اعتبار الإصلاحيين الجدد مجرد نيوليبراليين منافقين. الموضوع أكثر تعقيدًا. جذر المسألة أن الإصلاحية الجديدة اكتشفت عبر التجربة أن عليها كسر قيود إصلاحيتها، على الأقل جزئيًا، حتى تحقق الإصلاحات التي تعد بها. هذا كان الامتحان الذي فرضه الواقع، المرة تلو المرة، وكانت النتيجة دومًا الفشل. خذ عندك مثلًا الخبرة الكاشفة لسيريزا. كانت قيادات سيريزا تأمل في تحدي (بعض) سياسات النيوليبرالية المفروضة أوروبيًا، لكن دون التضحية بوجودها في الاتحاد الأوروبي، أي دون القطيعة مع اليمين الأوروبي، اعتقادًا منها أنها تستطيع، ببعض الحنكة، وكثير من المناورة، إرضاء شعبها وآلهة بروكسل في الوقت نفسه. لكن ما اكتشفته تلك القيادات، بالتجربة المرة، هو أن باب الحلول الوسط مقفول. فالنيوليبرالية لم تقبل بأقل من كل شيء، فخضعت الإصلاحية الجديدة في كل شيء. مشكلة الإصلاحية الجديدة إذن هي قبولها بهيمنة أصوليي الحاضر وعدم إدراكها أن المستقبل لن يأتي، في عصر النيوليبرالية، بالمساومة والحلول الوسط. الإصلاحيون الجدد باختصار أصوليون بالخضوع الذليل وليس بالإرادة الحرة، لأنهم لم يفهموا أن إصلاحية عصرنا لا يمكنها أن تحقق نصرًا، حتى صغيرًا، إلا إذا جرؤت على فتح الباب لمسائلة الحاضر في جذوره.

كما حاولت أن أشرح، آفة البدائل الرئيسية المطروحة في عصرنا، على اختلافاتها الكثيرة والكبيرة، هي قبولها، في نهاية المطاف، بالحاضر، بالأمر الواقع، بجوهر منطق الحداثة الرأسمالية، على الرغم مما قد يبدو من كلامها، أو حتى أفعالها، من ثورية. القبول بالحاضر قد يكون تماهيًا بتبني بنيانه ومنطقه، أو خضوعًا بعدم القدرة على تجاوزه من داخله. وفق هذا المعيار يمكنني أن أقول إن الجميع يقبل الحاضر: أصوليو الحاضر يقبلون الحاضر، بداهة، لأنهم صناعه والمستفيدين منه؛ اليساريون الإصلاحيون الجدد يقبلون الحاضر خضوعًا ورعبًا، والإسلاميون الداعشيون يقبلون الحاضر لأن مشروعهم لتجاوزه يكرّسه عمليًا بمقدار ما هو عاجز عن كشف إمكانيات التحرر المستقبلي داخل التاريخ وعبر التاريخ.

المخرج من فخ الحاضر ربما يبدأ من الاستكشاف النقدي للمشاريع التحررية الكبرى الناقدة الحداثة. هنا اعتقد أن قراءة جان جاك روسو قد تكون مفيدة.

جان جاك روسّو (1712-1778) شخصية متناقضة. فهو ناقد كبير للحداثة، حتى قبل أن تحقق انتصاراتها الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر. لكنه كذلك مؤسس لشروطها، باعتباره ملهم أساسي للتيارات الجذرية في الثورتين الأمريكية (1876) والفرنسية (1889). تكمن قيمة روسّو في تفرّد رؤيته لأزمة الأفق الحداثي والمخرج منها. فبالنسبة لهذا السويسري المشاغب، كانت صياغة مشكلة عصرنا على النحو الآتي: 1) الحضارة، ثم الحداثة، سقوط وليس تقدمًا كما تدّعي السردية التنويرية السائدة، سقوط إلى الفردية والتنافسية والتطاحن واللامساواة وانعدام العدالة، بعد أن كان الإنسان البدائي المتوحش، الحر من كل قيد، يعيش فعلًا عصرًا ذهبيًا؛ 2) لكن الحضارة، ثم الحداثة، سقوط ضروري لا يمكن الارتداد عنه، على عكس ما يدّعي الرجعيون والرومانسيون على مختلف أشكالهم، سقوط كان محركه تجاوز الإنسان البدائي لحيوانيته واكتشافه لفوائد تقسيم العمل؛ 3) ليس صحيحًا أن طبيعة الإنسان هي الأنانية والتطاحن كما يدّعي كثير من فلاسفة التنوير، إن كانت هناك طبيعة للإنسان، فهي حالته البدائية التي قامت على حفظ الذات والتعاطف مع اخوته في الإنسانية، بل ومع كافة الكائنات، وهي طبيعة مسالمة لا تعرف العدوان غير المبرر أبدًا؛ 4) ليس صحيحًا أن الحالة الحاضرة للإنسان تسر كما يرّوج أنصار الوضع الراهن، نحن في مستنقع من الكراهية والتطاحن، ولابد من فعل شيء لتجاوز هذا الوضع؛ 5) الخروج من المستنقع يقوم على تبني برنامج ديمقراطي ثوري يقوم على محاربة اللامساواة وتصفية الملَكية المطلقة والأشكال المختلفة للتمييز من جانب، وعلى تأسيس الجمهورية وبناء الديمقراطية وإعطاء السلطة للشعب من جانب آخر.

يمكن لأي قارئ للتاريخ أن يدرك إلى أي مدى كانت ديمقراطية روسّو الثورية، وجذورها الفلسفية، معبرة عن إمكانيات التاريخ ومحركة له. فلا يوجد فيلسوف أو مفكر كبير خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلا وتأثر بروسّو أو حاول دحضه. ولم تحدث ثورة خلال “عصر الثورة”، كما أسماه المؤرخ الإنجليزي إريك هوبسباوم، إلا ونظرت بإجلال إلى روّسو وتبنت على الأقل جزء من رؤيته. روسّو، بلا منازع، هو فيلسوف التيارات الجذرية في الثورات البرجوازية الكبرى.

أنا الآن اسأل: “ماذا يمكننا أن نتعلم من روسّو؟” الدرس الأول والأهم هو اكتشاف إمكانيات تجاوز الحاضر الحديث، إمكانيات الثورة، في أحشاء هذا الحاضر نفسه. فعلى عصر روسّو، كانت الحداثة قد سقطت بالإنسان إلى مستنقع التنافس والأنانية المسمى بالمجتمع المدني، لكنها كذلك صنعت من الرعيّة شعبًا مهيأً للتحرر ولبناء الديمقراطية الحديثة التي لا معنى لها بدون العدالة وتصفية الامتيازات. اليوم، وبعد أن دارت الأرض دورتها، وجرت في النهر مياه كثيرة، بعد أن تحققت الديمقراطية، وفسدت، وانطلقت البرجوازية، وعربدت، وتأسست الملكية الحديثة، وتغوّلت، ما هو المشروع الفلسفي للثورة؟

قرائتي لحركة التاريخ تقول إننا مقبلين على عصر ثورة عالمي جديد، أوسع كثيرًا مما رأيناه حتى الآن. الثورة، كما أرجو أن نكون قد تعلمنا من خبرة السنوات الماضية، مؤلمة وصعبة. إذ تصاحبها وترتبط بها الحرب والحرب الأهلية والثورة المضادة والقمع والتهجير والاختلال الجيوسياسي وغيرها من المآسي. وألم الثورة يزيد بتشتت معسكر المقهورين وفقدانه للبوصلة. وهذا بالضبط هو جوهر التناقض الذي نعيشه: فائض في الثورة وعجز في التنظيم والرؤية. وتلك ليست مشكلة تقنية، بل سياسية تاريخية، أي نابعة من وضع ورثناه عبر عملية طويلة، ولا يمكن إصلاحه بقرارات فوقية.

لهذا أظن أنه لن يكون تجاوزًا إن قلت إن المهمة الآن، وعبر مدى زمني طويل، هي بناء كتلة تاريخية متماسكة تؤسس لمشروع تحرري شامل. عند روسّو، كانت الكتلة التاريخية هي الإرادة الجماعية أو العامة (General Will)، أي الشعب، وهو ما ترجمه اليعاقبة إلى العامة أو فقراء المدن تحت قيادة حازمة تدفع الثورة الديمقراطية إلى مداها. هذا لم يكن تخطيطًا ذهنيًا مجردًا، بل إمكانية كشفها التاريخ لقوة تغييرية مستقبلية. عندنا، في عصرنا، الكتلة التاريخية الممكنة هي الجماهير العاملة (Working Masses) بعد أن انقسم شعب البرجوازية نهائيًا إلى مالكين وعاملين. ستجد هذه الكتلة مادتها الخام في أوساط العاملين بأجر والمعدمين والعاطلين في المدن الكبرى والصغرى والقرى في مصر وباكستان وإيران، في الهند والصين، في البرازيل وشيلي، في اليونان وإسبانيا والبرتغال، وفي أوساط مقاومي الإمبريالية في العراق وفلسطين وأفغانستان ولبنان وسوريا، وأوساط المناضلين ضد الاضطهاد الديني والجنسي والعنصري في مختلف البلدان. هذا مزيج خام، لا يمكن اكتشاف مسارات عملية بناء الكتلة التاريخيه من مادته، أو المشاركة في بنائها، إلا عبر تتبع الحركات التي تبنيها الأحزاب الإصلاحية الجديدة والقوى الديمقراطية الجذرية وحركات المقاومة ضد الإمبريالية والنضال ضد الاضطهاد والتمييز، أي إلا عبر تتبع الحركات والنضالات الكبرى الجارية هنا والآن والمشاركة فيها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل