المحتوى الرئيسى

أشرف حمد يكتب: التغريبة الفلسطينية: الإصدار الجديد المتكرر | ساسة بوست

01/17 23:00

منذ 1 دقيقة، 17 يناير,2016

التغريبة الفلسطينية: أكاد أجزم بأن كل فلسطيني شاهد هذه الملحمة الدرامية، أنا أدعي بأنها أفضل عمل فني رصد القضية الفلسطينية. شخصيًا شاهدت المسلسل وقت بثه في شهر رمضان لعام 2004، ثم أعدت مشاهدته عدة مرات، كان آخرها منذ عدة شهور أثناء إقامتي في بريطانيا، ربما لأن شعور الغُربة – أو بتعبير أدق التغريبة كما جاء في معجم المعاني الجامع أي حُمل على البُعد عن وطنه قسرًا – بات يسيطر على مساحة كبيرة من تفكيري ووجداني وتفاصيل حياتي اليومية.

بينما كانت أحداث التغريبة الفلسطينية الأولى – حسبما وصفها المؤلف وليد سيف – تدور في داخل أراضي فلسطين التاريخية، فإن التغريبة الفلسطينية الجديدة التي أكتب عنها تدور تفاصيلها داخل وخارج حدود الـ 27 ألف كيلومتر مربع.

بعد سقوط فلسطين في أيدي العصابات الصهيونية واستحداث مصطلح لاجئ فلسطيني للمرة الأولى عام 48، عانى أبو صالح ورفاقه – شخصيات المسلسل – من آلام البُعد عن الأرض، تجرعوا آهات الانحسار عن مَربى الطفولة وساحات الشباب، عانوا من التغريبة.

كانت أوجاع اللاجئ الفلسطيني تستيقظ في كل مرة يحاول فيها الوصول إلى بلدته الأصلية التي شُيدت على أطلالها بالباطل دولة ظالمة، كانت أحلامهم بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم تكبُر كل يوم، كان راديو العرب كفيلًا بأن يعطيهم جرعة الأمل اليومية، كانت العروبة – يومها – بخير.

وبعد تراكم العقود على نكبة فلسطين، وبعدما توقفنا عن حصر أعداد القمم العربية التي طالبت بتحرير فلسطين، وبعد تقسم المُقسم وتجزئة المجزأ، ما زال الفلسطيني يعيش في تغريبته، ولا أدري إن كانت لهذه التغريبة من نهاية.

التغريبة الجديدة – بالفعل – أقسى ألمًا وأشد ضراوة وأوسع رقعة من مثيلتها الأولى لأسباب كثيرة، ليس أولها ضياع مركزية القضية الفلسطينية في زحمة الصراعات العربية العربية، وليس آخرها اصطفاف “الشقيق” مع من كان يومًا ما عدوًا مشتركًا في تدمير كل أوجه الحياة المحتملة لأهل فلسطين بشقيها غزة والضفة.

أمّا عن غزة فحدث ولا حرج، فالتغريبة متأصلة في حياتهم ولم تهجر قطاعهم يومًا. يعيشون أدق تفاصيلها في كل يوم، ليس فقط الغزيون في داخل غزة الذين يتجرعون حسرات التغريبة، بل أيضًا الغزيون ممن حالفهم الحظ للخروج منها لسبب أو لآخر، فجميعهم سُلبت حريته وبُعثرت كرامته أمام بوابات المعابر.

كثيرًا ما عاجلتنا الأخبار تحدثنا عن معاناة الغزيين من داخل القطاع، قصص أبطالها كرجل مريض توقفت نبضات قلبه أمام بوابات المعبر المشؤوم، أو سيدة نهش المرض الخبيث جسدها في انتظار السماح لها بالمرور، أو طالب جامعي خيّم اليأس عليه بعدما تحطمت آماله أمام قضبان المعبر، أو أسرة تشتت شملها في بلاد الله الواسعة بسبب إغلاق المعبر. أما عن الوجه الآخر للصورة فأبطاله غزيون حرمهم الجار الشقيق من العودة إلى غزة.

هل قرأت يومًا لأحدهم ينعي والده أو والدته أو أحد أفراد أسرته عبر شبكات التواصل الاجتماعي دون أن يحظى بنظرة وداع أخيرة؟ هل قرأت لأحدهم يتمنى لو كان بجانب أسرته خلال فترة مرض أحد أحبابه ليشد من أزرهم؟ هل قرأت لأحدهم يدعو الله أن تُفتح بوابات المعبر ليتمكن من حضور زفاف أخيه أو أخته؟ هل قرأت لأحدهم يبث حزنه لأن والديه لم يتمكنا من رؤية طفله الذي وُلد في الغربة وأصبح الآن في الصف الثاني الابتدائي؟ هل قرأت لأحدهم يندب حظه وحظ أهله العاثر لعدم تمكنهم من الاستمتاع بساعة محادثة واحدة عبر “سكايب” بشكل متواصل بدون انقطاع الكهرباء؟ كل ذلك وأكثر فجّر لدى آلاف الغزيين بالخارج تغريبة فلسطينية جديدة.

وليس حال الضفة الفلسطينية أفضل بكثير، فالطرق بين المدن والمخيمات قُطّعت والجدار العنصري التهم الأرض، وأصبح السفر إلى اليابان أيسر من الانتقال من خليل الرحمن إلى نابلس. ليس هذا فحسب؛ بل الأمر أسوأ بكثير مما تنقله لنا عدسات الكاميرات وتحدثنا عنه الأخبار العاجلة، فشعور الخوف والحذر والظلم يخيم على كل بيت فلسطيني في كل حملة اعتقالات تشنها قوات الاحتلال الصهيوني.

شعوري بالحسرة في كل مرة أستمع لزميلي في الدراسة من الصين أو الهند أو الإمارات أو الأردن أو روسيا أو نيجيريا يتحدث عن خططه للسفر لبلده لقضاء فترة الإجازات مع عائلته ليحظى بأكل “ست الكل” ويستمتع بلقاء الأصدقاء والأقارب متوازيًا مع شعور الفلسطيني بالداخل بالظلم والقهر يشكل ملامح التغريبة الفلسطينية الجديدة. من حقنا كفلسطينيين في الداخل والخارج أن نسافر بحرية وكرامة، من حقنا أن يكون لنا منفذنا المستقل على العالم الخارجي، من حقنا من موقعنا ذلك أن نلعن الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد، من حقنا أن نغضب وأن نشتاق وأن نحلم وأن ندعو الله أن يعجّل بالفرج.

عزيزي القارئ لو كنت من أهل فلسطين المقيمين فيها فلا داعي أن تتهمني وآلافًا مثلي بالجنون لتفكيرنا بالعودة لغزة أو الضفة في ظل الظروف الحالية، فالشوق للوطن كبير وقلوبنا تصغر على احتوائه، ولو كنت عزيزي القارئ من الفلسطينيين المنتشرين في أسقاع المعمورة فشاركني الدعاء بأن يجمعنا الله ومن نحب عما قريب، ولو كنت عزيزي القارئ من أي بلد آخر غير فلسطين فرجائي أن تتخيل نفسك وقد حرمت من زيارة بلدك لشهر واحد فقط  – عوضًا عن سنوات – ثم أخبرني في تعليقك بما تخيلت.

نرشح لك

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل