المحتوى الرئيسى

أحمد اللهيب يكتب: هل نعيش فعلا في الواقع أم في حلم ما؟ قراءة في فيلم Inception | ساسة بوست

01/13 22:03

منذ 3 دقائق، 13 يناير,2016

“الأحلام تبدو حقائق حين نكون فيها، إنه فقط عندما نستيقظ ندرك أن هناك شيئا غريبا قد حصل “. كوب

في بداية الأمر أود أن أشير إلى أن نجاح الفيلم جماهيريّا رغم تعقد محتواه وفلسفته القائم عليها يرجع إلى قدرة كريستوفان نولان العبقرية على خلق تلك التوليفة بين ما يرضي الجمهور العادي الذي يبحث عن الإثارة والدهشة والحركة، وما يرضي الجمهور الباحث عن مستوى فكري وفلسفي عميق يشبع فيه شغفه للعلم والمعرفة.

استطاع نولان في الحقيقة أن يخلق تلك التوليفة في كثير من أعماله، وتظهر تلك القدرة بشكل أوضح في سلسلة “فارس الظلام” وفيلمه “الأرق”، فأفلام كريستوفان نولان لا تستهدف فئة بذاتها من الجمهور، بل ترضي جميع الأذواق، فإذا كنت من محبي الأكشن والحركة والإثارة فإنك واجد ذلك في معظم أعماله، وإذا كنت من محبي الأفلام ذات المحتوى الفكري والمضمون المعرفي القوي فإنك أيضا واجد ذلك بلا شك، ولا عجب إذن أن تحظى أفلام نولان على ثناء الجماهير والنقاد في آن واحد، وهو أمر قلما يحدث في عالم السينما.

لماذا لاقى الفيلم قبولا جماهيريّا وإقبالا رغم صعوبة تفسيره؟

إذا سألنا أيّا ممن شاهدوا الفيلم عن رأيه فيه، سيجيبنا “ثمة أحداث كثيرة لم أفهمها جيدا ولم أجد لها تفسيرا إلا أن الفيلم أعجبني جدّا رغم ذلك!!”. فلماذا أعجبنا بالفيلم رغم أننا نجد صعوبة بالغة في تفسير أحداثه؟

لعل ذلك يرجع في الأساس إلى أنه يدور حول أكثر الظواهر غموضا وإثارة في حياتنا، فإذا كان الفيلم يدور حول فكرة الحلم وهو في حد ذاته يتسم بالغموض البالغ ويصعب تفسيره وتأويله، كان من المنطقي أن يكون الفيلم الذي يدور حول ظاهرة الحلم على نفس الدرجة من الغموض وصعوبة الفهم. فالأحداث في الحلم غير مترابطة وغير منطقية وتحظى بدرجة من التشظي، تجد نفسك تنتقل من مكان إلى آخر فجأة، بل إن الأشخاص في الحلم يظهرون فجأة ويختفون دون أن تشعر. كذلك الأحداث في الفيلم، تجد مشاهد الفيلم تنتقل سريعا من مكان لآخر، وتظهر شخصيات ثم تختفي، فكأن الفيلم يعمل بتقنية الحلم!!

من العوامل التي ساعدت على قبول الفيلم جماهيريّا كذلك أن ثمة ظواهر نراها في الحلم صورها الفيلم بعبقرية بالغة، منها على سبيل المثال إشارة الفيلم إلى أن الواحد منا يجد نفسه في منتصف الحلم مباشرة دون أن يدري كيف انتهى به الحال إلى المكان الذي هو فيه، ولا يدري ماذا سبق وصوله من أحداث.

كذلك تلك الإشارة العبقرية إلى أن الإنسان يشعر أن الوقت يمضى سريعًا في الحلم على عكس الواقع، فالحلم الذي تظن أنه استغرق من الوقت ساعات طوال، ربما لا يتجاوز في الحقيقة سوى دقائق معدودة من النوم!! أضف إلى ذلك، أنه عند حدوث شيء يقض مضاجعنا عند النوم أو يسبب إزعاجا ما خلال نومنا فإننا نرى ذلك الشيء أو مصدر الإزعاج في نومنا ونتمثله في أحلامنا، فإذا حرك أحد يدك خلال نومك فإنك إذا كنت مستغرقا في حلمك سترى أن شخصا ما يحاول أن يجذبك من يدك!!

وإذا رن هاتفك الجوال ستحلم أن شخصا مهما يحاول الاتصال بك فإذا بك تهرع في حلمك إلى أن تجيب على الهاتف!! تلك الحالة صورها الفيلم ببراعة بالغة فائقة النظير في مشهد في البداية عندما كان “كوب” (ليوناردو دي كابريو) يجلس مستغرقا في الحلم وإذا بزميله يحاول أن يوقظه، فإذا به يركل الكرسي الذي يجلس عليه ليسقطه في حوض الماء، ونرى هنا كيف أن كوب يتمثل تلك الواقعة في حلمه، فهو في الحقيقة يغرق في حوض ماء صغير، بينما في الحلم تكون هنالك مبالغة شديدة في الأحداث، فهو يرى في نومه أن ثمة انفجار ضخم من المياه يغمر الجدران والأركان ويتدفق من جميع النواحي ليغمره تماما، فإذا به يفيق من نومه.

تقاطعات الفلسفة مع فكرة الفيلم

يثير الفيلم قضية فلسفية ابستيمولوجية (معرفية) قديمة، وهي كيف يمكننا أن ندرك أن ما نراه في واقعنا حقيقي؟ هل يمكننا أن نعرف الأشياء على حقيقتها أم أن ذواتنا ووعينا كبشر يتدخل في إضفاء معانٍ وإسقاط سمات معينة على الواقع وموجوداته تجعلنا لا نرى الأشياء على حقيقتها!! إنها نفس المعضلة الكانطية التي نبتت من فلسفة ديكارت، هل عندما نرى الأشياء في الواقع فإننا نراها كما هي عليه أم كما تعرضها لنا حواسنا، هل يمكن أن نعرف الشيء في ذاته، معرفة موضوعية تجرد الشيء في العالم الخارجي عما تضفيه حواسنا عليه من معانٍ وصفات!!

لو أن في يدك الآن ثمرة فاكهة شهية، تراها وتلمسها وتشمها وتتذوقها وتسمع صوتها وأنت تمضغ قضمة منها في فمك، فإذا أصابتك صدمة عصبية جعلتك تفقد حواسك الخمس، فإن الثمرة ستختفي من الوجود بالنسبة لك، هي الآن غير موجودة بالنسبة لك لأنك لا يمكنك أن تتعرف عليها إلا باستخدام حواسك الخمس التي فقدتها، فهل يعني ذلك أن الثمرة غير موجودة في الحقيقة؟ بالطبع هي موجودة في الحقيقة/ في العالم الخارجي، ولكنها ليست موجودة في إدراكك!!

إذن هنا يطرأ السؤال الابستيمولوجي هل المعرفة ممكنة؟ وهل ثمة أشياء موجودة ونحن لا نعرف عنها شيئا لأن حواسنا الخمسة لا يمكنها أن تتعرف عليها أو تتعامل معها؟؟

إن تلك المعضلة هي التي دفعت ديكارت إلى كوجيته “أنا أفكر إذًا أنا موجود”، لأنه شك في حواسه ومدى إمكانية الاعتماد عليها في معرفة الحقيقة، والشيء الوحيد الذي جعله يدرك وجوده هو أنه يفكر.

إننا في الفيلم لا نرى أي فرق بين الحلم والحقيقة، فالمشاهد تنتقل من الحلم إلى الحقيقة بنفس التفاصيل والوضوح ودون تشوش في الرؤية أو تشويش في الأحداث، إلى الدرجة التي تجعلك تتساءل: “هل هذا المشهد من داخل الحلم أم من الواقع؟”، هكذا يريد نولان أن يقرب إلينا فكرة أن التمييز بين الواقع والحلم تكاد تكون مستحيلة. فإننا لا يمكن أن نعرف أننا في الحلم إلا عندما نستيقظ، فماذا لو كان واقعنا الذي نظنه الواقع هو في ذاته حلم قياسا إلى واقع آخر!! ألا نقع على مثل تلك المقولات في السرديات الدينية الإسلامية، حيث يصور القرآن الكريم في أكثر من موضع الناس يوم القيامة وهم يتذكرون الحياة الدنيا وكأنهم ناموا “يوما أو بعض يوم”!! ألا تكون الحياة الدنيا كلها مجرد حلم عابر لا يتذكر منه الإنسان في الحياة الآخرة سوى أنه كان مجرد ساعة من نهار!! تماما كما يحدث لنا عندما نستيقظ من نومنا ونشعر بأن الحلم كان طويلا وأن أحداثه دارت لساعات، فإذا بنا لا نتذكر منه سوى شذرات غير مترابطة عصية على التفسير! لا تتجاوز بضع لحظات! ولا ننسى في هذا المقام قول الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”!!

(فراشة تشوانغ تسو وكهف أفلاطون)

قد يبدو السؤال “هل نعيش في الواقع أم في حلم ما؟” لأول وهلة غير عقلاني وقد تبدو إجابته بديهية، ولكن عند النظر عن كثب سنجد أن السؤال سيظل هكذا معلقا دون إجابة تشفي الصدور وتريح النهم إلى المعرفة. فإننا لن ندرك على وجه اليقين إذا ما كانت حياتنا هذه مجرد حلم أم لا إلا عندما نخرج منها، وطالما نحن محصورون بداخلها فلن نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إجابة قاطعة. تماما كما يحدث في الحلم.

كيف يمكنا أن نميز بين الواقع والحلم ونحن محصورون داخله؟ إذا ما ركبت قطارا مسرعا وأسدلت الستائر بحيث لا ترى حركة الأشياء في الخارج، هل ستشعر أنك تتحرك؟ بل ربما تنسى أن القطار يتحرك بك لأن كوب الماء الذي أمامك يبدو في وضع ثبات، والناس تتحرك ذهابا وإيابا داخل القطار دون تأثير للقصور الذاتي طالما القطار محافظ على سرعته، فإذا تخيلنا إنسانا وُجد في هذا المشهد مباشرة دون أن نخبره أننا على متن قطار، هل من سبيل أن يعرف حقّا ما إذا كان في قطار يتحرك أم في مجرد مكان مغلق ثابت؟ يمكننا أن نعود إلى أينشتاين والنظرية النسبية لنتأكد من صحة هذا الحديث. إذًا لا يمكننا أن نعتمد على حواسنا فقط في إدراك واقعنا لأنها قاصرة ويمكنها أن تخدعنا.

“لقد حلم تشوانغ تسو ( 369ـ286 ق.م) ذات يوم بأنه كان فراشة تحوم طائرة، هنا وهناك، كما لو كانت حقّا فراشة واعية في اتباعها لميولها. هذه الفراشة كانت تجهل أنها كانت تشوانغ تسو. وفجأة استيقظت، ومنذ ذلك أصبح بديهيًّا بأنها كانت تشوانغ تسو. ولكنه لا يعرف الآن إذا كان تشوانغ تسو هو الذي حلم بأنه صار فراشة أو أن الفراشة قد حلمت بأنها أصبحت تشوانغ تسو”(1).

افترض أفلاطون في معرض محاوراته في جمهوريته حول مسألة الحقيقة أن ثمة أناس ظلوا محبوسين منذ ولادتهم داخل كهف بحيث تكون أعناقهم مربوطة في اتجاه واحد، وكان هناك حائط يقف أمامهم على مسافة ما يرون عليه خيالات وظلال هي مجرد خيالات وظلال لأشياء حقيقية تنعكس على صفحة الحائط، ويسمعون أصوات الحراس من خلفهم فيظنون أن تلك الأصوات تخرج من ظلال الحراس على الحائط. الحقيقة بالنسبة لهؤلاء الأشخاص هي أنه لا يوجد في الكون غيرهم وغير تلك الظلال، ولا يمكن أن يخطر على بالهم أن هناك أشخاصا آخرين حقيقيين لأنهم لم يروهم أبدًا.

ثم افترض أفلاطون أن أحد الحراس حرر أحد هؤلاء الأشخاص وسمح له بأن يتجول في الكهف فإذا به يرى أشياء لم تخطر له على بالٍ، ويدرك أن ما كان يظنه حقيقة هي مجرد وهم وخيالات لأشياء أكثر حقيقة. هكذا يريد أفلاطون أن ينبهنا إلى أنه ليس كل شيء نراه بحواسنا فهو حقيقة مطلقة، لأننا محصورون داخل إطار معين، ولا يمكننا أن ندرك الحقيقة إلا إذا خرجنا من ذلك الإطار.

الفلسفة بين Inception وThe Matrix

مع التقدم التكنولوجي الرهيب الذي شهده الإنسان في العقود الأخيرة، أطلت بعض المشكلات الفلسفية مرة أخرى برأسها من خلف ستار الزمن ونفضت التراب عن كاهلها، إنه سؤال الفيلسوف كانط الذي تساءل عن إمكانية معرفة الشيء في ذاته، وانتهى إلى أننا لا يمكننا أن ندرك الأشياء في العالم الخارجي في حالة انفصال عن ذواتنا، أي أن الذات والموضوع في نظر كانط يوجدان في حالة من الوحدة، لأننا لا نتعرف على الموجودات في عالم الطبيعة البراني بدون الحواس، وبالتالي لا يمكننا أن ندرك على وجه اليقين ما إذا كانت الموضوعات/ الأشياء من حولنا هي هي التي تستقبلها حواسنا بالصورة التي تصل إلى عقولنا أم أنها تختلف في حقيقتها وطبيعتها عن الصور التي تستقبلها عقولنا.

أنت الآن تجلس أمام الشاشة تقرأ هذا المقال، وتظن أنك ترى جهاز الحاسوب أمامك على الحقيقة، إلا أنه في الواقع ليس سوى صورة ثلاثية الأبعاد منطبعة في مخك. وكذلك إذا ما مددت يدك لتلمس سطح الشاشة فإنك في الحقيقة لا تلمسها بيدك وإنما بمخك!! فأنت لا يمكنك أبدا أن تتعرف على جهاز الحاسوب الذي أمامك في ذاته، بمنأى عن حواسك التي يترجمها عقلك إلى صورة ما، ولا ندرك على وجه اليقين إذا ما كانت تلك الصورة التي تخلقها عقولنا للحاسوب هي نفس الصورة التي يوجد فيها الحاسوب بعيدا عن حواسنا نحن البشر أم لا!! وبذلك فإن عبارات من قبيل “إنني أرى بعيني” أو “إنني متأكد أن الحاسوب ها هو أمامي مباشرة أراه وأستطيع أن أشعر به” هي عبارة لا تعكس الحقيقة.

فعينك لا تفعل سوى أنها تستقبل أشعة الضوء المنعكسة على سطح الحاسوب وتنقلها من خلال الإشارات العصبية إلى مخك الذي يترجمها إلى صورة ثلاثية الأبعاد، وبذلك فإن صورة الحاسوب التي تراها لا توجد سوى في عقلك أنت، أو لعلها هي نفس الصورة التي يوجد عليها الحاسوب في الحقيقة ولكن كيف لنا أن نتأكد من ذلك!!

وبذلك فالحال لا يختلف كثيرا عن أحلامنا، ففي أحلامنا نرى أشخاصا ونستطيع أن نتعرف عليهم بحواسنا، يمكننا أن نسمع أصواتا ونشم روائح، ونظن أنها حقيقية، فإذا ما استيقظنا اكتشفنا أنها لم تكن سوى صور تخلقها عقولنا ولا أساس لها في الواقع، ولكننا الآن ندرك أنه حتى في الواقع الذي نسميه واقعا حقيقيّا فإن أمخاخنا هي التي تخلق تلك الصور لنا، فكأننا في حلم آخر، وعندما ننام ونرى ما نرى في منامنا فإننا في الحقيقة لا نكون سوى في حلم داخل حلم!!

إنها ذات الفكرة التي يقوم عليها فيلم The Matrix، أن عالمنا ليس سوى مجرد محاكاة simulation مثل ذلك العالم الذي نراه في الحواسيب. فإذا كنا نستطيع أن نخلق عوالم كاملة داخل الحاسوب في شكل الألعاب الإلكترونية وغيرها، فلعل عالمنا الذي نعيشه مجرد عالم محاكى simulated world داخل جهاز حاسوب عملاق.

لاحظ ذلك الحوار الذي يدور بين مورفيس ونيو بطلي فيلم The Matrix:

نيو: (مشيرا إلى الكرسي) أليس هذا حقيقيّا؟!

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل