المحتوى الرئيسى

السينما وأشياء أخرى (3)

01/09 21:47

فى بدايات السينما التى نطلق عليها زمن الفن الجميل، كنت تلاحظ اللغة المتأنقة التى تتسم بالوجاهة والحشمة، حتى وصل الأمر إلى أن اختلطت المفردات العربية الفصحى بالأخرى العامية الدارجة، فأصبحا كياناً واحداً متماهياً فى الرقى والسمو، بل كان البعض يتمادى لدرجة الكلفة فى بعض الألفاظ مدللاً بهذا على حسن تربيته وتنشئته، عارضاً لثقافته ووجاهته، وإن كان بسيطاً رقيق الحال، إلا أن اللغة الأنيقة أمر آخر.

كذلك كانت المفردات والتعبيرات السينمائية لا تقتصر على العامية (المتفصحة) تلك بل كان لا يخلو الأمر من نطق كلمات بالفرنسية لتأكيد فكرة الأناقة والترف وحسن التنشئة والاطلاع على العالم والمدنية والتحضر. وكان الفنانون يتقنون ما يقولون لأنهم مدربون جيداً وإلا ما وقفوا أمام كاميرا، فقد كان من شروط وأسس اختيار الممثل، إجادته للغة العربية الفصحى بوضوح وقوة، حتى أن استيفان روستى النمساوى (الخواجه استيفانو) قد تحدث العربية الفصحى فى مسرحيات عدة، فى فرق عزيز عيد وجورج أبيض ورمسيس وغيرها، فما بالك بالفنانين المصريين! ولم يغب ذاك التأنق فى الألفاظ والمفردات عن لغة الحارة المصرية فى أفلام كاريوكا والريحانى والكسار، فكانت عامية الحارة المصرية البسيطة أو الريف لا تخدش حياء ولا تلوث وجداناً ولا تخجل ذاكرة، كل شىء مختار بعناية واهتمام.

إن بحثنا عن سبب اهتمام السينمائيين الأوائل باللغة وانتقائها بعناية استلزم الأمر منا استدعاء للتاريخ الحديث والتغيرات السياسية والديموغرافية والانثروبيولوجية، وكل يقود للآخر، ولكنى أجد الإجابة المختصرة فى أنه كان زمن الكتاتيب (وهى أماكن تحفيظ القرآن الكريم) قبل مرحلة التعليم الإلزامى، فبحفظ القرآن كانت تترسخ أصول اللغة العربية السليمة وتصلح مخارج الألفاظ ويستقيم فهم المعانى ودلالاتها، مما انعكس على المواطن المصرى البسيط قبل الثرى، ولم يكن الأمر يحتاج لمدارس باهظة الثمن أو لتعليم خاص!! (فقط الكتاب والشيخ والفلكة) فنشأ جيل قوى اللغة، صحيح اللسان.

وبما أن المسرح هو أبو الفنون، فهو من أخرج جيل التمثيل الأول الذين فيما بعد أصبحوا نجوم السينما، ثم اختلف الأمر فى الخمسينات والستينات سينمائياً، فقد تخلصت السينما من كثير من تلك اللغة المتأنقة المتباهية بالبلاغة ولكنه بالمقابل كان هناك المسرح الذى احتفظ دوماً بفنون الإلقاء والخطابة واستخدام اللغة الفصحى الجزلة، كذلك لا ننسى الدور الذى لعبه المسرح القومى ومعهد التمثيل الذى أسسه ورأسه زكى طليمات، لهذا كان ممثل المسرح مختلفاً دوماً لأنه ذو قدرات خاصة، أميزها مهارات اللغة العربية القوية، (خاصة مسرح الدولة بعد تأميم المسارح) وسابقاً كانت مسارح الفرق المسرحية المختلفة التى تناولت روايات مترجمة من الأدب العالمى.

وبحلول السبعينات حلت لغة جديدة مع الانفتاح وبعد النكسة التى أصابت المواطن برفض كل القيم والمعانى التى طالما نشأ عليها متبرماً غاضباً مطيحاً بكل القواعد، فانتشرت لغة الفهلوة وعبارات الانتهازية والميكيافيلية وألفاظ أكثر جرأة وسفوراً، وضربت بذلك أغانى عدوية أكبر مثال.

وتطور أمر لغة السينما بمرور الأعوام إلى أن وصل إلى (كمننا.. وكاتش كادر فى القالو لو) مع وصول التسعينات، ومع دخول الألفية الثانية، دخلنا عصراً آخر فى التبارى والتنافس فى اختراع واستحداث وخلق لغة جديدة لم تكن موجودة من قبل، لغة لا تنتمى لأى قاموس، لغة ترسخ وتلخص حال المجتمع فى التمادى بالنزول إلى الأسفل، والأرخص والأقبح، وكأن السقوط قد أصبح هدفاً يجب إدراكه!!! كلمات بذيئة ومقززة، ومن ألمّ بمصطلحات أوفر منها، أصبح مواكباً يقظاً فطناً!!!.

وبالمقابل اختفى ذاك الدور الموازى والساند والداعم الذى كان يقوم به المسرح، إذ أصبحت اللغة العربية فى خبر كان، هذا إذا ما استخدمت بالأساس، إلقاء ضعيف ركيك ومخارج ألفاظ تحتاج لأطباء تخاطب لعلاج فنانينا منها!!

الفن شامل كامل، وكما أن الحضور والموهبة والشكل والهيئة من أولويات اختيار الممثلين، فإن إتقان اللغة من أولويات إعداد الممثل، ذاك الكادر الأساسى فى السينما.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل