المحتوى الرئيسى

معرض جان بوغوسيان.. تدجين الدخان

01/09 02:04

معرض جان بوغوسيان الاستعادي، المقام في مركز بيروت للمعارض، تحت عنوان «بين نارين»، يضمّ، وكما تشير الصفة المطلقة على المعرض، أعمالاً تعود إلى مختلف المراحل التي مرّ بها الفنان، وهو استعراض، أيضاً، لمختلف أوجه التشكيل التي اتبعها في الأعمال المعروضة، الموزعة بين الرســــم والتصوير والنحت، إضافة إلى «الكتب المحروقة». وإذ وضــــعنا هذا الشكل الأخير بين مزدوجين، فلأن مجـــــرد ذكر اسم العمل، أو صفته، قــــد يؤدي إلى نوع من الإبهــــام، وصعوبة تصـــوّر المقصد والغاية.

الكتب المحروقة، لو شئنا الحديث عنها في البداية، في حال وضعنا جانباً التسلسل الكرونولوجي للأعمال، بحسب تواريخها وموقعها في المعرض، لقلنا إنها كتب قديمة قام الفنان بحرقها، محوّلاً إياها إلى عمل تشكيلي أقرب إلى التجهيز، شاء بوغوسيان أن يقول من خلاله «إن النار تلتهم الأشياء وتدمّرها، وفي عملية التدمير هذه أحاول أن أبني من جديد». وللمناسبة، لا بدّ من الإشارة إلى أن الفنان كان بدأ حياته المهنية مصمّماً للمجوهرات، وعاملاً على الأحجار الثمينة، التي قد لا تتّخذ الشكل النهائي المطلوب من دون سطوة النار، وتأثير الحرارة المتحدرة من إشتعالها. «من دون النار لا تتطور الحياة»، يقول بوغوسيان، ويضيف: ولولا هذه النار لما كانت البراكين، وهي، في نهاية الأمر، أي النار، أحد العناصر الأربعة الأساسية في الطبيعة، إلى جانب الماء والتراب والهواء.

الأعمال الأولى لجان بوغوسيان ذات منحى محض تصويري، وطابع لا شكلي يمزج بين التجريد والتعبيرية، وقد نرى فيها بعض تأثيرات جاكسون بولوك ومارك توبي، ليلجأ بعدها، وربما خلال الفترة ذاتها إلى نمط أقرب إلى الفن الأقلّي، ومن ثم سينصرف إلى استغلال المُؤثرات البصرية الناتجة من عمليات الطي: طي أنواع الورق، أو المواد البلاستيكية وحتى المعدنية، وما يمكن أن يصدر عن عملية الطي هذه من مفعول مادي ـ بصري، متأتٍ من العلاقة بين الغائر والنافر، وما تؤدي إليه من تعاكس بين الضوء والظل. لكنه ما يلبث أن يعود إلى النار، وهذه المرّة من خلال استعمال دخانها لخلق «أشكال دخانية»، تجريدية في طبيعة الحال، لا شك لدينا في أن السيطرة على نتائجها كان تطلّب مراحل تجريبية تندرج في سياق الأساليب التي يتبعها الفنان في شكل عام، والتي يلعب فيها التجريب دوراً حاسماً.

هذه النزعة نحو التجريب يمكن رصدها في معظم الأعمال المعروضة، وكأن بوغوسيان يأبى أن يركن إلى قوالب جاهزة. التلاعب بالدخان، ومحاولة إنتاج عمل فني استناداً إلى هذه التقنية، لا يُعتبر أمراً سهلاً. لقد كانت كلمة دخان، في أغلب الأحيان قرينة للهمايونية، إذ إن محاولة تدجين الدخان تشبه محاولة السيطرة على الهواء، لكن الفنان استطاع أن يخرج أعمالاً لو شئنا إيجاد صفة فنية لها، لقلنا إنها تتراوح بين الظواهر المجردة والروحانية، مع حفاظها على زخم شعوري وتعبيري يولّده التعاكس بين الأسود وأطيافه الرمادية، والأبيض الصافي أو الأقل صفاء. على أن الهندسة لم تَغِب عن المعرض الاستعادي، إذ إن لوحات أخرى، كبيرة الحجم كما معظم الأعمال المعروضة، استُعمل في صناعتها الخضاب (مواد ملوّنة موجودة في الأنسجة الطبيعية)، تعتمد خطوطاً ذات بنية شبكية، شبه منتظمة أحياناً، توصّل بوغوسيان من خلالها إلى بناء فضاء لاشكلي ذي بُعد واحد أو أبعاد عدة.

هذه الأعمال، الأقرب إلى البنيوية، المتناقضة مع أعمال أخرى للفنان ذات نمط بقعي، يُخيَّل إلينا أنها تسعى إلى أن تجعل من اللوحة، بما تتضمّنه من ألوان وخطوط، تجسيداً لمدى فضائي معقّد ومتعدد الأبعاد. مقاربة من هذا النوع قد تذكّرنا بمقاربات غوستل ستارك، وربما أكثر بمحاولات كلاوس جورجن فيشر، خصوصاً لجهة استعمال الألوان السائلة (قد يكون الدخان في حالة جان بوغوسيان)، للتوصل إلى تركيبة اللوحة التي «تفسّر الوجود الكلي للإنسان» بواسطة الخط والبنيّة، كما يشير هوفستاتر في كتابه «التصوير والرسم والمحفورات في الفن المعاصر» (ألبان ميشال، باريس، 1972).

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل