المحتوى الرئيسى

زياد خداش: متى تصير الهوية عبئاً على الفن؟

01/07 10:25

عندما يمسك زياد خداش قلمه اللاهي، ويكتب عن طفلة ولدتها غيمة لقلبه، عليك أن تقبل، فهو يمارس كتابته كأنها سوء تفاهم، يحلّه عندما يشرح كل راوٍ في حكايته من أي ركن يطل على هذا العالم. عندما يمسك ذات القلم اللعوب، ويهندس نصه، تحتار كيف يفرش بأثاث قليل وأحاسيس مقتضبة، منازل تتسع لكل تلك الوجوه والروائح والصور، تتسع لفلسطين، تحتار كيف يتركها تنمو من بذور نصّية صغيرة، وأخطاء قصدية يرتكبها دون ندم، يتركها لتنمو عملاقة. مع زياد خداش، يبدو النص تابعاً لروح الطفل كروي الهيئة الذي يشبهه، فكل مافي عالمه يبدو مكورا وصالحا للعب، حتى أكثرمسلماته حسماً، الوطن، الذاكرة، ووجه أمه الذي يقدّس، معه عليك أن تكون واعيا لجيش من الأصدقاء والكتّاب، وبائعي الجرائد ومحلات البقالة، الذين سيحضرون حكماً في أحاديثه، عليك أن تعرف رام الله، عليك أن تحب محمود درويش، وتذكر اسمه في خفر، مع زياد خداش، عليك أن تكون طيباً كريماً وضاحكاً دائماً، وتورطه على مهل في حديث غير مفضّل عن الأدب، وتسأله هل كان دائما كاتب قصة قصيرة، ولماذا؟

** نعم كنت دائما كذلك، تماما كما كنت وما أزال ألبس معطفي الجلدي البني الذي ألبسه الآن بينما أكتب لكِ، والذي اشتراه شقيقي من بغداد قبل عشر سنوات، عشر شتاءات مرّت والاصحاب يتندرون عليّ: (ولك مشان الله غيّر معطفك)، أظن أنك تصدقينني حين أقول لك أن الكسل وحده من يمنعني من الذهاب الى محل ملابس وشراء معطف آخر، تماما كما هو كسلي في البحث عن أطر وفضاءات وأجناس جديدة لكتابتي، منذ عشرين عاما وصديق لي يصرخ عليّ في الشارع من الرصيف المقابل: (ما ِطوّلت القصة مشان الله يا زلمة طوّلها).

*في هذا الإطار الشكلاني، يبدو سؤال القصة القصيرة كثير الشغب، كأنه ذاته سؤال المراهقة، ثنائية "الطول/ القيمة" كيف تعاملت مع هذا المأزق؟ باختصار من هم آباؤك؟

** ما إن قرأت كلمة (آباؤك) في سؤالك، حتى قفز غسان كنفاني أمامي، صائحا: "إوع تنساني"، غسان( أبوي) الأول، ولدتُ من بطن لغته الجميلة ورضعت من نهد إحساسه الحزين والفجائعي والصادق بفلسطين، ومع بدايات النضج العنيف والأسئلة الحارقة والرغبة الطبيعية في الطيران بعيداً، رأيت نفسي أرضع من غيوم الله، حيث لا حد لشبعي أوعقاب لنزقي وخروجي من البيت ليلاً، كنت أولد مرارا من بطون عديدة: كنت صديقاً حميما لأبي العلاء وأحد فرسان حصان طروادة، وجارا فقيرا غير مرئي لدستوفسكي، وسكنت مع هنري ميللر وأناييس نن في شقة واحدة بباريس، سهرت مع يوسف دريس، وتناولت العشاء مع أنطون تشيخوف وسُجنت مع "أو هنري" وقرأت مع محمد خضيّر في مكتبة واحدة، ورضعت أنا وجبرا ابراهيم جبرا من نفس المرأة.

*مع كثرة آبائك لكنّا لا نلتقطك على أعتاب أحدهم، فنصك يبدو مضلِلا، فهو شعبي أحياناً، لا يترفع عن عن تهالك المخيمات، والتسكع في طرقات رام الله، وعن طعمات الفلافل التي تبحث عنها في كل مدينة تدخلها، لكنه في المقابل، يغدو ياباني الوقع، عندما تنغمس في قرابتك للشجر وأصوات القطارات، ونزهات السيارات الصغيرة، كيف تمسك بقطبي هذه الثنائية، وما هي علاقتك بالمسافة والزمن؟.

** هنا ما زلت أتخبط حائرا، ترعبني الفجوة بين القارىء االبسيط العادي وبين قارئ الأدب في فلسطين، (أبو خالد) صاحب مكتبة الجعبة برام الله التي أمر عليها كل يوم لاشتري الجريدة، ينصب لي حبل مشنقة على باب مكتبته كلما قرأ لي نص طلاسم كما يسميه، وحين أكتب ما يعتقد أنه مفهوم وواضح يجهّز لي عرسا، ويهديني قلما فاخراً، أصدقائي الشعراء يتصلون بي موبخين إياي على تلك الشعبوية التي أكتب بها نصي الاسبوعي في جريدة الايام أحيانا، ومرات كثيرة يرقصون أمامي في الشارع فرحا بنص سريالي عميق ارتكبته.

ما زلت أترنح بين أعراس ومشانق (أبو خالد) وبين رقص أصحابي وتوبيخهم. أنا مرتاح هنا مرتاح بخوف كبير طبعا، المهم أني لا أكتب على مقاس دهشة وعدم دهشة أبو خالد وأصحابي الشعراء، أكتب حتى أُرضي وأشبع وحش الفن الذي يطالب في داخلي بمزيد من خبز روحي ودم قلبي.

لا أكتب نصوصي الا على ايقاغ الغياب، أنا رجل غيابي بامتياز، أعشق المسافة، واسكن في غاباتها، قالها عني شخص حبه: زياد لا يكتب هو فقط يتذكر.

*إذا أنت ابن مدلل للحنين، وعلاقتك بالمدن، الاشخاص علاقات استرجاعية، هل تؤمن بأحقية الذاكرة بالاستحواذ، وكيف تمارس الحاضر؟

** نعم أنا ابن الذاكرة المحروقة، أعيش على فتات ضوء الحكايات، يفتنني حد الجنون المقارنة بين صورتين متباعدتين زمنيا لشارع ما، او شخص ما، مريض أنا بزيارة القبور، ما زلت ابحث عن قبر سلطانة (زوجة المفكر الفلسطيني والتربوي الكبير خليل السكاكيني) الذي اختفى، من مقبرة صهيون بالقدس، لا يشاركني البحث أحد، لا احد يفهم لماذا أبحث، واظبت بشكل يومي على زيارة ضريح محمود درويش لسنتين، ولم تكن الامطار والعواصف تعرقل زياراتي، ومساء ما اخرج شرطي فلسطيني رأسه تحت المطر من نافذة المخفر وصاح بس:(يا زلمة شو قصتك مع محمود درويش، شو عاملك الزلمة لتحبه لهاي الدرجة) الموضوع ليس حبا أو اشتياقا (رغم وجودهما)، لكنه الاحتفال المأساوي بفكرة غياب الاشياء وانقضاء الزمن، فقصصي متحف أو مقبرة إن شئتِ للمدن اللآفلة والاشخاص الغائبين، والروائح القديمة.

* صحيح أنك تعتنق الذاكرة كأنها يقين، لكن نصك يخونك دوماً، حيث يحضر سوء تفاهم أزلي، فتحكي قصصك لتكتشف أنك لست أنت، أو ليكتشف آخر أنك أنت، أين "هويتك/ فلسطينيتك" في كل هذا، وممّ تهرب؟

**أهرب من شهيد فلسطيني يلح عليّ لكي يشتري لغتي مقابل جرعة من عاطفة، وكسرة من حنين، أنجح كثيرا وأفشل أحيانا في مساءلة الدم الفلسطيني المهروق على طرقات العبث في فلسطين، لست ضد أن يقاوم الفلسطيني ضد الاحتلال فهذا مشروع ومطلوب وطبيعي، أنا ضد أن يموت العقل في فلسطين وتستقيل السياسة وُيرجم التاريخ بحجارة من انفعال وانتقام وتشف. لذا أهرب من فلسطينيتي المجنونة التي لا تعينني على لمس المستقبل، الى فلسطين لغوية بهية متوهمة أعيش فيها انتظارا لفلسطين حقيقية أشمها بأنفي، وآكلها بفمي، يحيّرني شعبي، فهو من جهة عظيم التضحيات، لكن غير معقول أن نظل مئات السنين َنقتل وُنقتل، بسبب غياب مشروع وطني واضح. أنا حزين جدا..

*مع انغماس نصوصك الهائل في الحزن والخسارة، لكنك نجوت دائما من ابتذال العاطفيات البكّائة للأوطان، هل تعتبر نفسك كاتبا فلسطينينيا وهل نجا نصك، من الغرق بالغنائية المفرطة عند ذكرها "فلسطين"؟

**نعم أحب هذه التسمية (كاتب فلسطيني)، أعتز بها،، لكن هذا التحديد الهوياتي إن صح التعبير، لا يجرؤ على الاحتجاج حين أتنصل من سيطرة واستقواء هذه الهوية على الحس الفني والرؤية الجمالية للعالم في كتاباتي، هويتي ليست بمنجاة من خرمشتي وعبثي وخدشي، لديّ بصيرة لا بأس بها في تحديد متى تصير الهوية عبئا على الفن ومتى تكون مؤدبة ومطيعة حين ُيجن جنون الفن، ويصير ما يشبه الهذيان أوالعبث، أو اللامعنى، نعم تماما أنا أسائل فلسطين الآن أكثر من أن أبرر لها، أغضبها بالملاحظات، بدأت أصارحها بالنمش الذي في وجهها، وبالفوضى في غرفة نومها، قبل ذلك كنت أطربها بالمديح الأهبل، وأصفها بأنها أجمل شيئ يحدث في العالم، لكن الممتع في الأمر، أني بدأت أشعر أن فلسطين بدأت تتحمل المساءلة والمكاشفة وأنها صارت تشكّك في قصائد الحنين العادي والنواح المبتذل، وتتحمس أكثر للقصائد والروايات التي تكشف وتستبطن وتتأمل وتتعمق أكثر من التي تمدح وتبكي وتتذكر وتتغزل وتهيّج العاطفة.

*فلسطين الحكاية /المكان تسكنها وتسكنك، لكن يبدو أن فلسطين الرسمية تذكرتك متأخرة، فقد مُنحت منذ أيام جائزة رفيعة من "دولة" فلسطين، سقطت من يدك وكُسرت على المسرح، ما الذي يكسرك أيضا في المسألة الفلسطينية؟

**تكسرني وتسكرني في آن فكرة أني حفيد شخص ولد وعاش طويلا في الرملة الفلسطينية، كان مزارعا شرسا وحيدا لأبويه، يكسرني هذا الظلم، لا يعرف الانسان معنى كلمة لاجىء الا اذا جرب اللجوء، يسكرني حلم العودة، ويمنحني مساحة فتنة التخيل وجمال التوقع، وسحر الآتي،( زرت) بلدتي الخالية من البيوت، قبل أشهر لأول مرة، وحين انتهت (زيارتي)، لم أصدق أني كان يجب أن أكون من هنا، قريتي ليست جنة، هي تشبه كل القرى، ومن المحتمل جدا يكون من بين سكانها قاتل ولص وانتهازي، لكن مجرد إبادتها وطرد سكانها يعطيها ملمحا قدسيا لا أفهمه، تماما مثل الصديق العادي الذي يموت فجأة، نحس تجاهه بهيبة غير مفهومة. بين سكر الحلم وانكسار ظهر جدي، ثمة حياة اعيشها الآن، تتخبط في الألم والمتعة.

*حياتك تبدو آمنة، تحكمها العادات والاستيقاظ الصباحي، أنت مدّرس، وهذه مهنة تبدو مريبة تماماً ونافرة عن "أنا" الكاتب متعاظمة الأبعاد، فسؤال التدريس/ نقل الخبرات، هو ذاته سؤال التجاوز وقتل الأب، هل يؤرقك هذا السؤال..

**أنا رهين التعليم والمعطف القديم والقصة القصيرة، رهين ثلاث محابس، ما زلت (مجنونا) في الصمود في ذات المجزرة الثابتة، نعم اختارني التدريس ولم اختره، فلم أكن مرة إبن تنظيم سياسي، وعائلتي بسيطة وغير ممتدة وأنا إبن مخيم! كان المفروض أن تحوّلني هذه المهنة الى شخص معتوه يكلّم نفسه في الشارع ويبول على نفسه ليلا، ويقضم أصابعه، لكني سبقته وحولته بمساندة من حماسة طلابي الى أغنية وسفر وقصيدة ولوحة وسؤال.

*في حياتك الممتلئة بممارسات يومية آمنة، تبدو كأنك استسلمت لكل الأنظمة، لكنك نفرت من نظام واحد، أنت لم تتزوج! ولازلت تزور بيت أمك، تنام في فراش أعدته لك، كأنها أم لم تكبر معك، في هذا الإطار أخبرني عن نسائك؟

**أولا أعترض ولكن ليس بشدة على كلمة (نسائك)، لست زياد الرشيد وقصصي ليست قصورا أو مراكب، هي مجرد قصص يرويها قلبي المكسور بلا سبب، نسائي الحقيقيات لا يسكنّ نصي، ولا يحتشدن هناك بذات الصخب. وحدهما صديقاي غسان زقطان ووليد الشيخ من كشفا السر: نساء حكايات زياد هن نساء مخيتلته. ما زالت أمي أمي وسريري ما زال هو هو، سرير زياد الطفل. ليلة البارحة حدث شيء عجيب، كنت نصف نائم، صحوت على أمي وابي السبعينيين وهما يدخلان غرفتي بهدوء، يمسكان بأديهما خمس نواسات) يضعانها واحدة واحدة في المقبس متفحصين سطوع أو خفوت ضوئها، ويتناقشان بهمس حول أي هذه (النواسات) من المفرض أن تريح نومي. نصف ساعة من النقاش وتجريب (النواسات) في النهاية استقرا على ضوء أزرق خفيف افترضا أنه مناسب لي ثم انسحبا بهدوء، بعد هذا الحادث صرت على يقين أن كل نصوصي التي كتبتها والتي سأكتبها فراغ كامل، وكذبة كبرى أمام هذا الفن الذي اسمه أبي وامي.

*زرت بيروت مؤخرا ، حدثني عن ذلك

**أنا في بيروت للمرة الرابعة، أقضم ما قدرت عليه من هذه التفاحة الكونية الغريبة، الاحساس نسبي جدا،لا أستطيع أن أرى بيروت بعين العقل، لو رأيتها كذلك لمت من الغيظ والحزن واللاتصديق، اذ كيف يمكن أن ترتكب هذه المدينة الناعمة بهذه المقاهي السلسة والحية والنساء المذهلات والرجال الاذكياء، كل هذا التاريخ من الموت والقتل، هذا لا يعني أن بيروت مدينة جاهزة للمتعة والهناءات المنتظرة، لطالما سحرني تشبيه المدن بالنساء، لا تسكن في امرأة، لا تسكن في مدينة مرّ عنهما مرورا كافيا لتشتهيها، لتبقي لها حصص أخرى أو وقت أخرى لدهشات قادمة، عليّ أن أقضم بيروت قضمة قضمة، رعشة رعشة، تفاحة في يدي لا أريد أن (أخلّصها) ، تلك هي كلمة سر المدن والنساء والمتعة: (التأجيل).

ينحدر من قرية «بيت نبالا» المهجرة عام 48.

في رصيده الإبداعي عشر مجموعات قصصية آخرها صدر عام 2015 عن دار الأهلية بعمان بعنوان «خطأ النادل».

شارك في العديد من المهرجانات والأمسيات الأدبية في فلسطين والعالم العربي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل