المحتوى الرئيسى

حسام الخولي يكتب: Bridge Of Spies .. شاهده معزولا في فقاعة أو خارجها

01/06 10:41

*هذا فيلم يجب أن تراه معزولا في فقاعة عن كل ما يجري في عالمك.. لكي لا تشعر بالحسرة والعار, ويجب أن تراه أيضا في نفس الوقت خارج الفقاعة.. وفي ذهنك تفاصيل ومجريات دنياك, لكي تشعر بمدى القوة التي تبثها جوانب قصته.. اتصرف بقى.. أنا اخليت مسؤوليتي كده.

لكن لو نحينا المزاح جانبا.. ومعه كل النظريات والتخريجات التآمرية الميتافيزيقية التي ستغمر كل من يناقش عمل “سبيلبرج” الأخير Bridge Of Spies  خارج إطار الجوانب الفنية للعمل والأدائية لأبطاله – وهي أكثر من رائعة – سنجد أننا مجبرين بأكثر من طريقة على التأمل في صلب القصة التي يعرضها الفيلم.. والتي وقعت أحداثها فعليا في أواخر الخمسينيات.. ورغم أن المخرج وكتابه قاموا بتغيير في بعض التفاصيل للوقائع التي جرت وأيضا أضافوا مشهدا أو اثنين لأحداث لم تقع بهذه الصورة أو لم تقع من الأساس.. لكن يبقى كل هذا على هوامش القصة من أجل إضافة المزيد من الطاقة الدرامية وهي ممارسة ليست غير مألوفة في السينما عموما.

مع كل هذا فإن “سبيلبرج” يأخذ مشاهده ليس فقط في رحلة تاريخية ممتعة بتفاصيلها وأحداثها.. لكنها أيضا رحلة “أخلاقية” إن كان لنا أن نسميها كذلك, مع نبذة قصيرة عن القصة سنجد أن محبي السينما سيستعيدوا سريعا  فيلم To Kill a Mockingbird  من عام 1962 بطولة “جريجوري بيك”.. نجد توازيا لا يمكن تجاهله ما بين القصتين.. في العملين يقوم محامي نزيه وعقلاني بتقبل مهمة الدفاع عن مشتبه به مدان من الجميع قبل أن تتم محاكمته بسبب عاملين رئيسيين وهما هوية المشتبه به  وانتماؤه وفي نفس الوقت درجة الخوف الحاد الذي يتفشى في المجتمع الذي تحدث به الجريمة.. في فيلم “بيك” كان المتهم رجلا زنجيا في قضية الاعتداء على فتاة بيضاء مراهقة وفي بيئة ترزح تحت الفقر والأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات كانت قضية مثالية للتنفيس عن الاحباطات في شكل عنف عنصري وخلق أجواء لا تسمح بأي عقلانية ولا تفسح مجالا لعدالة حقيقية.

في فيلمنا هذا يقوم العظيم “توم هانكس” بأداء دور “جيمس دونوفان”.. محامي مرموق  في قضايا التأمين بولاية نيويورك تعهد إليه نقابة المحامين مهمة الدفاع عن “رودلف إيبل” الذي يحمل الجنسية البريطانية والذي تم اتهامه بالتجسس على الولايات المتحدة لصالح الاتحاد السوفييتي عام 1957.. وبينما يقبل المهمة الشائكة على مضض من منطلق إيمانه المطلق بالدستور وبنظام العدالة وبأحقية كل متهم أيا كانت خلفيته وتهمته في تمثيل قانوني للدفاع عنه.. تبدأ الضغوط التي يتعرض لها من كافة الأطراف بداية من الإعلام وزملائه وعائلته وأفراد مجتمعه لكي يقوم فقط بدوره في المحاكمة التي أراد لها الجميع أن تكون مسرحية صورية أمام العالم، بينما تقررت النتيجة سلفا في إدانة المتهم بالتجسس.. تبدأ هذه الضغوط في دفعه للتحمس من أجل الدفاع ليس فقط عن المتهم، لكن عن صورة العدالة التي يرى أن مبادءها وقيمها هي فقط التي تحمي هذا المجتمع من الانهيار وتحافظ على استقراره.. وأن يصل في هذا الحماس إلى حد رفض وصم المتهم بالخيانة لأنه ليس مواطنا أمريكيا وبالتالي لا ينطبق عليه الوصف وأيضا اعتباره كان يؤدي واجبه فقط رغم أن هذا الواجب يمثل جريمة واعتداء على الدولة التي يقيم بها، فيجب أن يعامل كما تتم معاملة أسرى الحرب.. أيضا أثار اعجابه أخلاقيات المتهم على المستوى الشخصي حينما رفض التعاون مع أجهزة المخابرات الأمريكية في مقابل حريته.

“كتاب القواعد” كما سماه، وهو الدستور الحاكم للبلاد هو فقط الذي يجب الالتزام به بعيدا عن موجات  الذعر والخوف في مجتمع كانت أجواء الحرب الباردة وشبح القيامة النووية الذي تبث الحياة فيه وسائل الإعلام والقوى السياسية المتحكمة مثل جماعات المصالح وتثير به ذعر دولة كاملة ومعها بقية العالم من أجل أهدافها الخاصة.. وكتاب القواعد هذا وبالأخص الالتزام به هو الذي يفصل بلاده ويميزها عن أعدائها وهو الذي يجعل مواطنيها على شتى انتماءاتهم وأصولهم ومعتقداتهم جديرين بأن يحملوا جنسية هذه البلاد وأن يحيوا بها.. بالطبع لم يوافق هذا الحماس هوى الجميع تقريبا، وتعرض الرجل وعائلته للكثير من الضغوط والتهديدات والاستهزاء الذي وصل بالقاضي المكلف بالقضية لأن يتجاهل متعمدا بل وفي ثقة وفخر خطأ إجرائيا جسيما عرضه عليه المحامي كان يمكن أن ينهي تماما أي قضية مماثلة لو لم تكن تحيط بها نفس الظروف.

يخرج الفيلم بعد ذلك إلى أجواء الحرب الباردة وسرد بقية الأحداث التي جرت بالفعل في تلك الحادثة بشكل مركز أكثر ولكنه لا يتجاهل الفكرة الأساسية التي قام عليها وهي الدفاع عن المساواة وأهمية أن ينبع احترامنا لأنفسنا وثقتنا في قوة المجتمع الذي نعيش به من الالتزام بأساسيات العدالة وبإنسانيتها.

“توم هانكس” يلعب دوره برصانته المعهودة وبأسلوبه الخاص الذي لا وأعتقد جديا أنه لن يمل منه المشاهد أبدا.. ويأتي الفيلم بمفاجأة مبهرة هي الممثل البريطاني “مارك ريلانس” وهو بالأساس مخرج مسرحي مخضرم وممثل مقل في أعماله السينمائية (آخر أفلامه كان Intimacy   سنة 2001).. في دور “إيبل” المتهم بالتجسس.. “ريلانس” يقوم بأداء بالغ البساطة والسلاسة والتعقيد في ذات الوقت.. فهو إنسان واثق من المكان الذي يقف فيه في هذه اللعبة ومؤمن بدوره ومتقبل تماما لما قد يحمله له هذا الدور من مخاطر.. وفي ذات الوقت هو رجل كهل عليل الصحة يبدو جليا الإرهاق ونفاد الطاقة على جسده وملامحه ونبرات صوته.. وهو ليس راديكاليا شيوعيا متحمسا، لكنه يرى نفسه في دور الموظف.. هو فقط موظف وهو يدرك هذا ولا يدعي أي شيء آخر.. “المدير يمكن أن يخطئ أحيانا.. لكنه سيبقى دائما هو المدير”.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل