المحتوى الرئيسى

أجراس الكنائس.. دقات الموت والفرح

01/05 22:36

لن أنسي أبداً اليوم الذي أعلنت فيه كنيستي "الشهيد العظيم مارجرجس" عن وصول الأجراس الكهربائية، ليتم تركيبها عوض الجرس الذي يتم دقه بحبل طويل مربوط في الجرس اليدوي أعلي منارة الكنيسة، وانتظر مسيحيو المنطقة سماع أصواتها الرنانة التي لا تحتاج لمجهود وجذب الحبل، ومقارنتها بأصوات الجرس اليدوي اليتيم.

ولم يكن بالأمر الهين علينا نحن الأطفال أن يختفي هذا الحبل، الذي طالما حلمنا بجذبه ليصدر الجرس أصواته الرنانة، إلا أنها عادة محاولات تنتهي بالفشل لأن باب المنارة دائما مغلق لمنع مثل هذه المغامرات، كما أن أي محاولة للعبث به سوف يترتب عليه عقاب صارم من قسيس الكنيسة، وبالرغم من كل هذه المخاوف ظل الحلم قائمًا بأن نتعلق في هذا الحبل ونتأرجح ليصدر عنه هذا الرنين، حتى قضي "الزر" الكهربائي علي الحلم، واختفي معه متعة المجازفة فلم يعد الأمر مغامرة تستحق العناء.

استخدمت الأجراس في المعابد الدينية في معتقدات مختلفة في شتي بقاع الأرض، إلا أن تم استخدامها في الكنائس بدايات القرن الرابع الميلادي عندما أعلنت الدولة الرومانية أن "المسيحية" واحدة من الديانات في الدولة، وتم استخدامها للإعلان عن بدء الصلاة في الكاتدرائيات، بالإضافة إلي استخدامها فيما بعد انتشار المسيحية للإعلان عن الصلوات في الكنائس كلها.

وكانت الأجراس في القرن الرابع والخامس الميلادي عبارة عن لوح خشبي أو معدني كبير، يحمله الراهب ويدق عليه من أجل إعلان الصلاة، والتي مازالت تستخدم حتى الآن في الأديرة البيزنطية لإيقاظ الرهبان من أجل الصلاة، مثل دير "سانت كاثرين" في مصر، ودير "جبال أثوس" في اليونان، ودير "صيدنايا" في سوريا.

وبالرغم من الغزو الكهربائي لأجراس الكنائس، إلا معظم الكنائس في مصر مازالت تحتفظ بأجراسها اليدوية خاصة في القرى وبعض كنائس مصر القديمة، التي مازالت تحتفظ بأجراسها اليدوية، التي تتطلب مجهود من "خادم" الكنيسة لجذبه، وبما أن دقات الجرس متعددة حيث تختلف الدقات باختلاف المناسبة والظرف فكان الجرس اليدوي يتطلب آلية معينة ليُصدر تلك الرنات المختلفة، أما في حال الكنائس متعددة الأجراس الكهربائية، فأن الأمر أصبح أكثر سهولة، واختلاف تلك الرنات يعرفها المسيحي فيدرك فور سماعها ما يدور في الكنيسة.

وتتعدد الرنات في الكنائس، فهناك رنة "الموت" وهي عبارة عن دقات بطيئة متقطعة تفصلها ثوان معدودة، ويتم دقها أيضا في صلوات "الجمعة الحزينة" في أسبوع الآلام، وبالنسبة للمسيحيين يكفي أن نسمع الدقات الحزينة حتى نعرف أن هناك من توفي وربما تربطنا به صلة معرفة ولم يصلنا الخبر بعد، فيسهل النزول للكنيسة والسؤال عن هوية المتوفي، وهي رنات حزينة تصيب أجسادنا قشعريرة، تُذكرنا بأن النهاية قريبة لكل بني آدم.

تطرب أذاننا وتخفق قلوبنا عند سماع رنات "الفرح"، وهي الدقات السريعة المتتالية التي تصدرها الأجراس في الأعياد، وعادة ما يتم استخدام أكثر من جرس، وبدونها لا نشعر بفرحة العيد، فهي ما أن تصدر حتى نتأكد أن الكنيسة تستعد لصلاة قداس العيد، حيث نجتمع نتقاسم الفرحة والبهجة، وربما مررنا بتجارب مريرة علي مدار سنوات حيث طغي الحزن والموت علي الكنيسة بسبب حوادث الإرهاب، إلا أن هذه الدقات المميزة برغم الحزن لم تتوقف.

رنات "الفرح" تطلقها الكنائس أيضاً عند دخول البابا للكنيسة، وهي التي يسمعها سكان منطقة العباسية كلما دخل البابا الكاتدرائية ليصلي القداس أو للاجتماع الأسبوعي، إلا أن الكنائس في المحافظات والمدن والقرى تطلقها أيضاً أثناء دخول الأسقف، وهي أيضاً تساهم كثيرًا في إعلام المسيحيين بوصول الأسقف أو زائر من رتبة كنسية كبيرة.

وأخيراً رنة "القداس" وهي الدقة المعتادة في صلاة قداس الجمعة والأحد، أو في أيام الصوم حيث تقام قداسات بصورة يومية، وهي تعتبر منبه مجاني للمسيحيين، لينتبهوا أن القداس لن ينتظر أحد، والتأخير لن يفيد، خاصة وأن هذه الرنة لا تكون في بداية القداس، ولكن بعد مرور نصف ساعة تقريبًا.

تعيد هذه الرنات إلينا ذكريات الطفولة، وجمل التوبيخ التي اعتدنا سماعها في صغرنا من ذوينا عندما نتأخر في الاستيقاظ، حيث يحضر أبي ويجذب الغطاء عنوة ويخبرنا أن الله لن ينتظرنا طويلاً، ويطلق السباب واللعنات علي برنامج "أوسكار" الذي اعتدنا متابعته ليل الخميس ونعجز معه عن الاستيقاظ مبكرًا، ويقسم أبي أنه سوف يحطم التليفزيون إذا لم ننتهي خلال دقائق ونكون في الكنيسة ضمن الصفوف الأمامية.

وأمام هذه الرنات كنا دائمي التعجب، كيف يمكن للخادم أن يجذب الجرس أو عدة أجراس لتصدر الأصوات المختلفة، فلكل رنة عدد دقات مختلفة، ويفصل بين الدقة والأخرى عدد ثوانٍ محددة، لا زيادة ولا نقصان، وإلا أصاب الرنة نشاز غير مستساغ، وكما قلنا فهناك رنات تحتاج لأن يُضرب أكثر من جرس في تتابع مميز حتى تصدر تلك النغمات.

الأجراس بالنسبة للمسيحيين بهجة وحزن وأمل، وغيرها من المشاعر المختلطة، ارتبطوا بها في الأزمان القديمة، حيث كان يصعب التنقل أو الاتصال، فكانت لغتهم المشتركة، ليعرفوا ماذا يحدث داخل أروقة الكنيسة، ومازالت لها نفس السحر العاطفي حتى علي البالغين أمثالي.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل