المحتوى الرئيسى

إبراهيم حيانى يكتب: «شخصية العام» ووهم الاختيار الحر | ساسة بوست

01/05 11:24

منذ 1 دقيقة، 5 يناير,2016

السياسيون يكذبون! هذا أمر عادي، بل أصبح من الوارد والبديهي جدا، فحتى إن من أسس السياسي الناجح الكذب بمهارة وإتقان، لكن أن تجد الإعلامي والصحفي يكذب بطريقة السياسي، فذاك التناقض بعينه (أو على الأقل هكذا يجب أن يكون)، بل إن ذلك أقرب إلى عجائب وغرائب العالم الجديد! فعندما يقول السياسي: “كل الأمور على ما يرام وتحت السيطرة التامة”، فالجميع يعرف أنه يكذب، ومع ذلك فالجميع يصدقه أو على الأقل يشعرونه بذلك.

لكن عندما تتبني المؤسسة الإعلامية هذه الجملة بهذا الشكل بالذات، فالمؤكد بالطبع أن هناك مشكل، وهناك خلل أكيد، وإلا فإما أننا نحن أغبياء فعلا لأننا لم نكتشف ذلك، وإما أنهم يستغبوننا كما هي عادة السياسيين. لأن ما هي مفترض فيها أن تكون سلطة رابعة هي في حقيقتها جزء من السلطة الأولى، أو بشكل أدق تحت سلطة، وفي خدمة السلطة الأولى.

قد يكون هناك فرق بين الكذب والتضليل الإعلامي في قضية من القضايا، وبين صناعة وتكوين “الرأي العام” بصورة ورؤية محددة عنها، فالأول عادة ما يكون إجراء أو تكتيكا ذا بعد لحظي، ينتهي دوره بانتهاء الحدث، بينما الثاني غالبا ما يكون ذا صبغة استراتيجية يكون الغرض منها إصابة أهداف متوسطة وبعيدة المدى، وذلك عبر تأهيل وبناء صور نمطية، وحشد قالب جماهيري نحو هدف أو فكرة محددة.

فمثلا عندما يقوم مديرو القنوات والمؤسسات الإعلامية بوضع أسس لعملية تداول الصورة أو الخبر ويشرفون على تنقيحها ومعالجتها، فتلك الصور والأخبار غالبا ما تحدد معتقداتنا وأفكارنا وآراءنا حول مختلف القضايا، أي في النهاية هي ما تحدد سلوكنا الذي به يرتبط مصيرنا هو الآخر.

وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الواقع المعاش، فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول، ذلك أن الأفكار تنحوا عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، إذ ليست سوى أفكار مموهة ومضللة.

وذلك بالضبط ما نجده كنموذج بسيط في مختلف استطلاعات الرأي التي تقام لاختيار “شخصية العام”، سواء على الصعيد الداخلي للبلد أو حتى على الصعيد العالمي بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الكبيرة.

فعلى غرار كل مرة دائما خلال نهاية كل سنة، تخرج عليك مختلف المواقع والجرائد والمؤسسات الإعلامية بأشكالها وأحجامها المختلفة، باستطلاعات رأي لاختيار أحسن الشخصيات خلال السنة في مجالات مختلف، في عملية يكون فيها هامش الاختيار بالطبع معد مسبقا على مقاس وجهة نظر المؤسسة في اغلب الأحيان، أو من وجهة نظر فئة منتقاة بعناية ممن يحملون صفة جمهور أو متابعي الموقع أو المؤسسة،دون تحديد للمقصود بالضبط.

لكن ليس هذا المشكل أصلا، وليس هذا ما يجب أن نقف عليه، لكن المشكل واللعبة الحقيقية هو في ذلك التوهيم بأنك أمام عملية اختيار حر حقيقية، فهم من سيعدون لائحة الأشخاص، لكن يوحى إليك أن الجمهور هو من له كامل الصلاحية ليختار أحسن الشخصيات من القائمة، في عملية يبدو عليها أنها بريئة في الشكل طبعا، ثم يقول لك: صوت على من تراه الأحق من هؤلاء الأشخاص، هنا ينتهي دورك ببراءة أكثر.

ببساطة، فالأمر ليس مجرد مواد يتم بثها، أو حتى رأي عام يتم تشكيله أو قياسه وتوجيهه. إنها حقيقة تتعلق بصناعة السياسات والتوجهات وحتى العقليات، والتي يتم توليفها سلفًا في غرف صناعة القرار من القلة المسيطرة التي تمتلك هذه الوسائل الإعلامية، فالذي يسيطر على الإعلام هو من يحكم فعليًا في آخر المطاف.

حتى لو أن الشخصية التي قمت بالتصويت لها هي من تم اختيارها كشخصية السنة، فذلك لا يعني أنك منتصر على أية حال، ففي كلتا الحالتين أنت منهزم وملعوب عليك، لأن قبولك للدخول في اللعبة من حيت الأساس يوقعك تلقائيا وبشكل لا إرادي في فخ مصيدة التفاعل مع المعروض، الذي يكون في العادة الصورة التي يريدها صاحب المؤسسة الإعلامية أن يرسخها وينمطها في الذهن، في انتظار استيعابها على أمل تبنيها والدفاع عنها أيضا.

فالإعلام بكل مصادره لا يهب لنا الحقيقة بقدر ما يهب لنا وهم الاختيار، وهي سياسة للتحكم في العقل وتنميطه على قالب معد مسبقا، على مقاس ورغبة فئة قليلة حاكمة ومتحكمة وساعية إلى الحفاظ على السلطة من خلال القوة الناعمة التي تشكلها وسائل الإعلام،فوهم الاختيار هو الكذبة الكبرى التي مررت على الشعوب في كل السنوات البعيدة الماضية، خاصة من خلال الاستراتيجية الأنجع: “اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون”.

ببساطة، لا أنت تختار الذي تريد كما يبدو لك،رغم كل ذلك الكم من النماذج المختلفة والقائمة الطويلة من الأسماء التي توحي بأنك الواحد الذي يملك سلطة ذلك، ولا أنت تقرر أصلا ما الذي يجب أن يكون مؤهلا ليدخل لائحة المنافسة، ببساطة أخرى كل الأمور تكون معد مسبقا، وكل الاختيارات متحكم فيها بشكل قبلي، مهمتك فقط تقتصر على التلقي والتفاعل مع المعروض في أفق التكيف مع الوضع كأمر واقع وكشيء بديهي.

فالإعلام يسعى إلى تحويل الجمهور المتلقي من النقيض إلى النقيض، ويسعى بالجمهور إلى اعتناق نفس الآراء بالنسبة للقضايا المختلفة، ويوهم المتلقي بحرية الاختيار بالنسبة للقضايا المتشابهة في الأصل، لأن التفكير خارج الصندوق يؤدي إلى الاختلاف والتمرد والخروج عن منظومة وإرادة المتحكم في اللعبة، يعني تهديد مصالح الفئة المتنفذة وتهديد استمراريتها وتواجدها في مركز السلطة والنفوذ.

ما يفعله الإعلام هو شبيه بمحاولة إقناعك بأن رجلا أخرسا قال لرجل أطرش إن رجلا أعمى شاهد رجلا مشلولا يلحق برجل مقطوع اليدين ليمنعه من شد شعر رجل أصلع!

ستعجبك المزحة رغم أنك لم تفهم منها ولا شيء، كذلك  حقيقة الإعلام  يغريك بالأشياء، وتلقى إعجابا منك كمتلق، لكن لا يريدك بالضرورة أن تفهم؛ فالهدف وهو ألا تخرج بأي شيء منطقي، فاللا وضوح وضبابية الأمور هو الوضع الأنسب والأمثل لجعل الأمور دوما تحت السيطرة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل