المحتوى الرئيسى

ناهد صلاح تكتب: ما اشربش الشاي أنا!

01/04 10:11

شارع واضح وجدران سابحة في فضائه وناس يفترشون الممرات وصور تلتصق بالعين وأصوات تمزق الرأس و.. أنا في المواجهة أقيس مدى تحمل القلب وأحجل على الدروب المكسورة وأحاول بقدمي الصغيرة أن أصنع أثراً وأنزلق في سؤالي العبثي: ماذا يعنيه العالم من أثري؟

تعب جارسون المقهى مني وهو يحاول أن يثنيني عن عادتي اليومية في طلب فنجان القهوة التاريخي، ولسبب غامض راح يشرح لي كيف أن فنجاناً من الشاي الساخن يستطيع أن يحافظ على طزاجتي وهدوئي النفسي في هذا “الجو قارس البرودة”، استخدم العبارة حرفياً وهو يفسر أكثر أهمية الشاي ويحصي فضائله وكأن روح الياباني أوكاكورا كاكوزو قد تلبسته، فصار كالساموراي يحارب من أجل الشاي؛ وبالمناسبة فإن أوكاكورا كاكوزو من أصل ينتمي للساموراي وهو صاحب الكتاب الكبير “كتاب الشاي” الذي صدر منذ أكثر من مئة عام وترجم إلى لغات كثيرة، وبينما أحاول أن أتجاوز غطرسة معرفتي بـ” أوكاكورا كاكوزو” وشايه الحاضر في مجتمعه الياباني كلوحة خاصة أو سوناتا للتطهر معزوفة لما يشبهها، وأحاول أن أخرج من دوائر التنظير حول كوب شاي يمكن أن أصبغ عليه اتجاهاً فلسفياً ما، فأنظر إلى الجارسون دون أن أرد له ابتسامته وأفاجئه بحركة راقصة وأنا أستعير صوت ليلى نظمي وأردد ثلاث مرات حاسمة:”ما اشربش الشاي أنا”.

اختلط  هذا النهار على الرجل، فتسمر في مكانه لا يعرف نهاية لهذا المشهد الذي تورط فيه ولا يدرك هذا المزاج الساخر الذي انتاب ضيفته اليومية وأية ذكرى سيئة انتابتها فحولتها الى امرأة بلاستيكية لا تتجاوب مع مهارته المشهود لها، فراح يحملق فيّ كأنني انحدرت من سماء الكوارث، ثم يشير مكسوراً وهو يحاول أن يتحرر من صمته إلى حبوب البن المرصوصة هرماً على يساره: ” يعني قهوة؟!”، أظنه تذكر في هذه اللحظة دعابتي على مدار سنوات عن الأفق الواسع الذي يصنعه فنجان من القهوة، أو ربما يردد بداخله عبارات ونصوص محمود درويش عن القهوة كنت أبدره بها عوضاً عن طلبي الصريح والمباشر:” صباح مولود من مذاق مر حليب الرجولة والقهوة ‏جغرافيا”، أما أنا، فأكاد أقول له: دعك مني وابتعد، فتأخذني نظرتي إلى صورة الموناليزا المعلقة في مرمى البصر ولا تفجعني المعلومات التي وردت مؤخراً عن خرافة اللوحة التي رسمها دافنشي في ثلاث سنوات، بل يقولون في 11 عاماً والله أعلم كما هو أعلم أيضاً بالوارد الجديد الذي يحمل حكايات تشيع أن الموناليزا ليست الموناليزا وأن هناك امرأة أخرى رسمها دافنشي خلف طيات ألوانه ودهاناته، امرأة سرية ليست لها ابتسامة الموناليزا ولا نظرتها الشهيرة؛ لا تعنيني الآن هذه الحكايات ولا لوحة السيد دافنشي ذاتها، ما يعنيني الآن أنني نجحت في إرباك الرجل المسكين الذي اصفر وجهه لما رفضت القهوة ولم أقبل عرضه الأخر بفنجان من الشيكولاتة الساخنة، بينما نظرة في عينيه تؤنبني على اقترافي مثل هذه القسوة في حق الشيكولاتة وأنا التي لفت انتباهه إلى الشيكولاتة البلجيكية كواحدة من أهم الانجازات الإنسانية التي لا يمكن أن يصمد أمامها، كما فيلم “Chocolate” من بطولة جولييت بينوش وإخراج لاس هالستروم عن رواية “شوكولا” للكاتبة البريطانية جوان هاريس، قرية فرنسية خيالية تحكمها عادات وتقاليد صعبة نوعاً ما وتحاول أم وابنتها انتقلتا للعيش في هذه القرية في فترة الصيام أن يندمجا مع سكان القرية وأن تغير حياة سكان القرية بـ” الشوكولا”، فيصيبني هوس برصد انفعالاته وأنا أخبره بأنني لا أريد في هذه اللحظة سوى كوب كبير من القرفة ممزوجة بالزنجبيل والليمون والنعناع بدون سكر.

Comments

عاجل