المحتوى الرئيسى

حبر ٢٠١٥ .. بين عامين

01/03 01:15

اعتادت الصحف، واعتدنا نحن معشر الصحفيين والكتاب أن نخصص صفحات ما بين عامين لحصاد عام مضى، وتوقعات عام جديد. 

وقد ارتأيت، وربما استننت أن أعيد هنا كل عام بعض ما اجتهدت به طوال العام؛ «حبرا في هذه الصفحة، ورأيًا في هذه المناسبة أو تلك»، لأضعه بين يدي القارئ الكريم بوصفه هو، لا غيره صاحب الحق الأول والأخير في أن يراجع «ويحاسب».

للمرة الألف، ينجح الزاعقون في استدراجنا إلى ثنائية استقطابهم الأحمق، فيحجبون عنا حكمة أن تدين الإرهاب «بكل أشكاله» دون أن يكون معنى ذلك بالضرورة أن تصفق للاستبداد والقمع «الذي هو في الواقع أحد أسبابه»

لا يسمح لك هؤلاء الذين أدمنوا مقولة: «إذا لم تكن معنا مائة في المائة، فأنت حتما في خانة الأعداء» أن تدين الإرهاب بلا مواربة، وأن تدين أيضا غباء القمع والاستبداد والتمييز؛ الذي يمهد الأرض خصبة لفكر التطرّف، ودعاوى القصاص والثأر .. ومن ثم للإرهاب.

عندما تُنادي باحترام الدستور الذي وافق عليه الناس بنسبة تتجاوز الـ ٩٠ بالمائة، يهاجمك مرضى الاستقطاب هؤلاء، أو بالأحرى المتعيشون عليه بأنك تريد «هدم الدولة». والأنكى أنك تسمع هذا؛ صريحًا أحيانا ومتواريًا في معظم الأحايين من مسؤولين يعتقدون، أو يقولون بأن المطالبة بحقوق الإنسان / المواطن المنصوص عليها في الدستور «مؤامرة غربية تستهدف هدم الدولة ومؤسساتها». وينسون، رغم مقامهم الرفيع، أن «الدولة» تعريفًا: هي ذلك الكيان الذي يقوم على عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين أناس يعيشون على أرض بعينها وسلطة ارتضونها لتنظيم شؤونهم (.. إلى آخر التعريف) . كما ينسون ــ أو يتناسون ــ أن العقد الاجتماعي في حالتنا تلك اسمه «الدستور». هل هم إذن يحافظون على الدولة؟!

لا يتوقف المتعيشون على الاستقطاب، أو اللائذون به من التلويح في وجهك «بفزاعة سورية والعراق». ولو لم يكتف أحدهم استسهالا بظاهر الأمور «وأعراضها» وكلف نفسه تعب أن يدرس ويقرأ في الأسباب «والأمراض» لأدرك أن «في القصة تفاصيل أخرى» ولاكتشف حقائق الدائرة الجهنمية المغلقة: الاستبداد، والإقصاء، والتمييز .. فالطائفية، والتطرف، والعنف .. فالإرهاب.

(من مقال: «ما بعد الإدانة .. ثنائيات الاستقطاب العقيمة» ٨ فبراير ٢٠١٥)

إن العصا الغليظة، مهما كانت قاسية وعنيفة ومتجاوزة، لن تفلح أبدا فى التعامل مع إرهاب يعشش فى عقل «انتحاري» يغذيه ليس فقط فكرٌ عقيمٌ لكتب موروثات قديمة، بل وإحساس واقعي بالظلم والقهر وعدم المساواة. كما أن الأساليب «القاسية» أو اللجوء لتعذيب الجناة أو المشتبه بهم (أو حتى هجمات الأباتشي أو الطائرات بدون طيار) لم تنجح فى «مكافحة الإرهاب»، كما لم تنجح فى جعل العالم أكثر أمنا.

أن أحدا لن يستطيع أبدا مهما بلغت أجهزته الاستخباراتية «ذكاءً»، وأدواته القمعية «غباءً» أن يمنع عنفًا «مقدسا» يغذيه إحساسٌ بالتهميش والإحباط، وغيابُ الإنصاف والعدالة. فيدفع انتحاريا لا نعرفه إلى تفجير نفسه هنا أو هناك.

لا يحتاج الأمر إلى أكثر من النظر إلى الخريطة لندرك أن الاستبداد والتمييز والقمع وهيمنة ثقافات التلقين والاتباع والمجتمع الأبوي الذكورية، فضلا عن الإحساس بغياب العدل وعدم المساواة هى العوامل الرئيسية التى توفر البيئة المناسبة لأفكار متطرفة تبحث عن العدل فى السماء حين يعز عليها أن تجده على الأرض.

فالخوف كل الخوف، أن تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» تصطف نظمٌ غربيةٌ ديمقراطيةٌ  إلى جانب نظمٍ عربيةٍ استبدادية، وتحت اللافتة وتلويحا بفزاعتها، يتزايد القمع الذى هو فى الواقع «المفرخة» الحقيقية للإرهاب.

تمهلوا يا سادة، واقرأو التاريخ القريب. لا ينسى الكثيرون هنا كيف ساند الغرب لعقود أنظمة الشرق الأوسط الاستبدادية «طمعا فى النفط والاستقرار». فكان ما كان.

(من مقال: «في ما جرى فى باريس»   ١٨ يناير ٢٠١٥)

والشاهد أن قارئ التاريخ، خاصة تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لابد وأن يتذكر أن العنف وإن كان المسلمون قد عرفوه كغيرهم، إلا أنه لم يكن أبدًا صناعة إسلامية صرفا. كما أن الذبح (وهو بشعٌ ومدانٌ ومجرمٌ ووحشيٌ بلاشك) ليس حكرا على قوم بعينهم ولا على أتباع عقيدة بعينها.

تقول لنا كتبُ التاريخ بوضوح أن الحضارة الغربية مرت بكل مايبدو أننا نمر به الآن: العنف والدماء والحروب الدينية والتمييز على أساس طبقي بين سادة وعبيد في أمريكا، ونبلاء ومزارعين في أوروبا. وعلى أساس ديني بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين المسيحيين واليهود. تمييزٌ قاد إلى حروب ودماء وإلى محارق الهولوكوست.

ولكن تقول لنا كتب التاريخ أيضًا أن الحضارة الغربية عرفت كيف حوكم جاليليو بتهم الهرطقة عندما حاول أن يقول أن الأرض تدور حول الشمس. فتعلمت كيف أن «الاستبداد الديني» يتناقض مع نهضة تستلزم حرية فكر وإبداع.

وتقول لنا الكتب أيضًا أن التاريخ الأوروبي عرف هتلر وموسوليني، فتعلمت الحضارة الغربية أيضا كيف أن «الاستبداد السياسي» يؤدي بالضرورة إلى فاشية عسكرية والفاشية العسكرية تؤدي بالضرورة إلى الدمار.

تعلم الغرب من تاريخه وتجاربه هذا وذاك، فكان أن أخذ طريقه إلى ما صرنا نحسده عليه؛ النهضة والتقدم والمستقبل.

(من مقال: «عن العنف والذبح والوحشية .. قراءة في التاريخ» ٢٢ فبراير ٢٠١٥)

في الثامن من يونيو ٢٠١٤ وفي أجواء أراد لها المنظمون أن تكون «مهيبة» كان الرئيس المنتخب المشير عبدالفتاح سعيد السيسي يقف أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا ليحلف اليمين التي تنص على «احترام الدستور». 

العقد شريعة المتعاقدين، قاعدة فقهية وقانونية نعرفها جميعًا ويعرفها قبلنا القضاة الأجلاء الذين حرصوا أن يرتدوا أروابهم ساعة أن أقسم الرئيس. والعقد في حالتنا تلك وكما تقول كتب السياسة والقانون هو «الدستور» ولا شيء غير الدستور. وعليه فلا أحسب أن هناك «معيارًا» للتقييم أكثر من هذا النص / العقد الذي أقره ٩٨٪ من الناخبين، وأقسم الرئيس الذي انتخبوه على احترامه. وشهد على التعاقد لفيف من القضاة الأجلاء. يكفيكم إذن المقارنة بين الواقع وما جاءت به النصوص

(من مقال: «أسئلة «القَسَم» .. والنصوص .. وعام جديد» ١٤ يونيو ٢٠١٥)

عرف تاريخ مصر الحديث أن العبث بالدستور لصالح الحاكم، كان دائما الخطوة الحاسمة نحو «نهاية محتومة». فعلها السادات عام ١٩٨٠ ليتجاوز قيدا دستوريا يحدد ولاية الرئيس بمدتين، فكان أن ذهب إلى قبره قبل أن تنتهي مدته الثانية. وفعلها مبارك بتعديلات تمهد طريق القصر «حصريا» لابنه، فكان أن أخذهما الطريق واقعيا إلى السجن، أو على الأقل إلى ساحة المحكمة.

(من مقال: «حديث «النوايا»» ٢٠ سبتمبر ٢٠١٥)

يتحدث الرئيس غير مرة عن «مظلومين داخل السجون» .. ويصدر الرئيس قرارا أو قرارين بالإفراج عن «بعض» هؤلاء المسجونين. وظني أن نظامًا للعدالة يقوم على الحقوق والواجبات واحترام للدستور والقانون، هو شرطٌ لا بديل عنه للمجتمعات المعاصرة. أما «النظام» الذي يقوم على الوالي الذي يمنح العطايا إذا رضي، وينادي على سيافه إذا غضب، فلا أظنه ينتمي إلى عصر نعيشه.

(من مقال: «عن «كل» إسراء ويارا .. الذين تحدث عنهم الرئيس» ٢٨ يونيو ٢٠١٥)

كيف يتحدث الرئيس عن «مظلومين في السجون» ثم يصدر قانونًا، تسمح نصوصه للسلطة بالتعسف في استخدامه، فتكون نتيجته «الواقعية» زيادة أعدادهم …كيف يتحدث البعض عن «العدالة الناجزة»، متهمين القضاء بالبطء، وهناك من أصدر أحكاما بإحالة ٦٨٣ للمفتى فى زمن قياسى غير مسبوق؟

بعد عامين من الإجراءات والقوانين .. («والظلم» الذي تحدث عنه الرئيس)، هل صارت مصر أكثر آمنا؟

(من مقال: «قانون الإرهاب.. وإرهاب القانون» ١٢ يوليو ٢٠١٥)

والأخبار حولنا تترى «كاشفة» كما يقول التعبير القانوني الأثير، أشدد على أهمية القضاء / المؤسسة، وعلى خطورة إسقاط مهابة منصة «وميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء اليه. ولعمد كل منهم إلى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولسقطت «الدولة» التي هي بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس. ولفشل الحاكم أيا من كان هذا الحاكم في إدارة أمور بشر يتجاوز تعدادهم التسعين مليونا.

لا مجتمع آمن بلا قضاء عادل .. ولا قضاء عادل إلا إذا كان «مستقلا» يقوم عليه قضاة مستقلون «يلوذون بعدلهم، فيحميهم عدلهم». قضاء يحكم لفاطمة «البريئة» فيهتف الناس «يحيا العدل».

لا تحتاج العدالة إلى عربات مصفحة، فالقضاة «بميزانهم» قادرون على حماية العدالة. والعدالة قادرة على حماية الوطن. 

(من مقال: «من يحرس العدالة .. والوطن؟» ٣١ مايو ٢٠١٥)

منشغلين بصور الاحتفالات الضخمة، وبترويج أحلام «الرخاء القادم»، تصم اذانَنا أوهامُنا وطبولُ الانتقام وتصفيةُ الحسابات، دون أن ندرك خطورة التمييز والتهميش وأن يفتقد الناس إحساسَهم بالمساواة والعدالة. ودون أن نتعلم من التاريخ أن هذا كان كفيلا بأن يحدث ما حدث لدول اكتفت جماهيرُها بأن تقف مطيعة خلف زعمائها تصفق للاستعراضات العسكرية المهيبة، وتردد الشعارات وأهازيج الاحتفالات. لا فرق بين الاتحاد السوفياتي الذي تفكك و بين ألمانيا هتلر وسوريا الأسد وليبيا القذافي والعراق صدام ثم المالكي.. بل ومهاويس أبي بكر البغدادي. 

أكرر للمرة الألف ربما: العدالةُ ليست مجرد نصوص في قوانين، وقضاة يرتدون الأرواب السوداء، ومطرقة على منصة عالية. وإنما «العدالةُ إحساس» إذا غاب أصبح مفهومُ «الدولة» وتعريفها ذاته في خطر.

(من مقال: «حكاياتٌ ثلاث .. وقصةٌ واحدة» ٦ سبتمبر ٢٠١٥)

عندما دخل الحوثيون صنعاء العاصمة  (سبتمبر ٢٠١٤) صرخ أحد المذيعين على إحدى الفضائيات المصرية: «أرأيتم كيف يهدم الإخوان المسلمون الدولة» ثم ترحم على الرئيس «المشير» على عبد الله صالح (بوصفه ينتمي إلى مربع ما قبل «مؤامرات» الربيع). 

لم يكن حديث الإعلامي «الزاعق» بأكثر من تعبير عن حالة «الثنائية الاستقطابية» الحاضرة، التي تغيب معها عادة حقائق الأمور.

فصالح كرفاقه، ليس شخصا بل نظاما ثار عليه «الربيع العربى» وهو الآن يحاول أن يعود. تختلف الوسائل والتفاصيل من قطر إلى آخر. لكن الحقيقة واحدة: أنظمة لا تصدق أن لا مكان لها فى عصر جديد. بعضها نجح فى أن يجد لقدمه مكانا، فظن أنه «عاد». وبعضها وإن ترنح لم يتزحزح. ولكن .. لا تخدعنكم الابتسامات المطمئنة والصور. فلكل عصر حقائقه، وهكذا يُكتب التاريخ.

وعلى الذين لديهم حساسية من نسائم «الربيع»، وهو مرضٌ يعرفه الأطباءُ على أية حال ــ أن يدركوا أن كل ما جرى من دماء على مدى السنوات الأربع، فى هذا القطر أو ذاك (لا أستثنى أحدا) لم تكن أكثر من نتائج لمحاولات العودة «والانتقام» المحمومة من نظم ما قبل الثورات. وما فعله على عبد الله صالح ليس أكثر من مثال لما فعله «ويفعله» غيره، وإن اختلفت التفاصيل.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل